في عام 1966، كتب الفنان الكبير حسين بيكار معلقا علي المعرض الفردي الأول للفنان الشاب آنذاك مصطفي الرزاز "فنان أسطورة يعيش بين الأساطير"، متأثرا بلوحة "أسطورة العصفور الأخضر"، وكان لهذه العبارة بالغ الأثر في توجيه مسيرة الرزاز الفنية الذي اتخذ علي عاتقه مسئولية الحفاظ علي ذلك المستوي الفني الراقي عبر مشواره الممتد . وظل العصفور الأخضر يظهر في أعمال الرزاز الفنية من آن لآخر باعتباره المؤشر بل وربما النبوءة لوقوع عمل عظيم، حيث يقول الرزاز: خلال مشاركتي في حرب الاستنزاف، وجدت نفسي وقتها أرسم عصفوراً أخضر عملاقا وسط الصحراء، وبعدها حدث نصر أكتوبر المجيد، ثم عدت ورسمته قبل ثورة يناير، ثم قدمته في معرض مستقل في 2013 للاحتفاء بشاب التحرير الأبطال، وهذا يجعلني أشعر بأن عودته بين لوحاتي مؤشرا لحدوث شيء مهم، فأنا أعتبر العصفور تميمة الأمل الأسطورية. ولم يكن العصفور الأخضر وحده هو الرمز المتكرر في وجدان الفنان علي مدار تاريخه الفني لأكثر من ثلاثين عاما، ففي معرضه الأخير الذي استضافه جاليري بيكاسو بالزمالك تحت عنوان "عنترة وحلم اليقظة" عاد عنترة ليسيطر علي المشهد التشكيلي بقوة في المعرض بالكامل. يقول الفنان: اقتحم عنتره لوحاتي منذ بواكير ستينيات القرن الماضي تعبيرا عن نهضة الروح العربية بعد ثورة يناير 1952، وكرمز للثورة المقرونة بالمساواة والنبل والعدالة في معادلة القوة والسلاح، وقد ظل عنترة يدخل لوحاتي ومنحوتاتي ويخرج منها طوال تلك السنوات، فهو صاحب حق دائم في ضميري وفي أعمالي الفنية كرمز أثير للقيم التي أجلها كثيرا. ويضيف الفنان: عنتره هو أيقونة الفروسية والعلامة المبكرة لفكرة المساواة والعدالة الاجتماعية، مساواة العبد مع السيد، والأسود مع الأبيض، فكرة نبتت في ثقافتنا العربية قبل أن يطرحها الغرب بسنوات طويلة، وقد ظلت مكانة عنترة مرموقة كمثل أعلي في وجدان الشعب العربي وتحولت سيرته إلي أسطورة بطولية لمناصرة الضعفاء والمقهورين، والدفاع عن حقوق الإنسان والمهمشين باعتباره فارس فرسان العرب، وأصبح الكثيرون يستمعون الي رواة سيرته كتعويض نفسي عما يعانونه من تهميش وحرمان. وظلت سيرة عنترة ككرة الثلج التي تتضخم وتتضخم مع الوقت ومع ما يضاف إليها من وجدان كل من تعلق بها..وفي أعقاب ثورتي يناير ويونيو، عاودت تلك القيم تجليها جهورة وراءها ملايين الضمائر والحناجر ودونها الضحايا والشهداء. وقد آثر الفنان مصطفي الرزاز استخدام الصورة النمطية الموجودة في مخيلة العامة عن عنترة بشاربه الكث وسيفه البتار وجواده القوي حتي يصل العمل للنخبة وللبسطاء معا، تلك الصورة النمطية لعنتره التي وقرت - حسبما يصفها الفنان- في وجدان الشعب العربي، والتي وصفها الرسامون الشعبيون في مصر وسوريا وتونس، وقدموها كأيقونة، احتلت مكانتها الأثيرة في قلوبهم، بسطوع ألوانها ومباشرتها وشواربها المفرطة وعيونها الشاخصة. ومن ثم جاءت الأعمال علي خط تماس مع الذائقة الشعبية الخالصة لتماهي الرؤية الاحترافية للتشكيل مع المزاج المضمون في الشارع المصري والعربي. وبالرغم من أن المعرض خرج احتفاءً بشخصية عنترة الرمز والأيقونة ، إلا أن وجود "عبلة" أو المرأة يوازي وجود عنترة، فالمرأة بالنسبة للرزاز هي أحد العناصر الأربعة التي اختارها منذ بداية مشواره الفني للتعبير عن مفردات الحياة، فالمرأة تمثل الجنس البشري والحصان يرمز لعالم الحيوان والعصفور يمثل الطيور ثم النبتة، ويظل التحدي الأكبر هو العزف علي هذه العناصر الأربعة بتنويعات متفردة بحيث تختلف من لوحة لأخري دون تكرار، براعة فائقة أثبتها الفنان من خلال قدرته علي التجديد والتنويع بالرغم من محدودية العناصرالتي اختارها لنفسه منذ البداية، ثم هناك فكرة امتزاج الكائنات في بعض اللوحات، والتي تتجلي أحيانا في حالة الخروج والدخول من كائن لآخر ، تعبيرا عن أن الكائنات تعير بعضا من صفاتها للكائنات الأخري. والفنان مصطفي الرزاز من الفنانين المهتمين بالأسطورة وبالتراث الشعبي، وهو يري أن الأسطورة بالنسبة للإنسان العادي تساعده في تحقيق ما لا يمكن الوصول إليه عن طريق الواقع المباشر، هي تنقله من قيود الواقع الجامد إلي عوالم ميتافيزيقية رحبة، وتوفر له ملاذا آمنا من قسوة الواقع لا سيما عندما يشعر بالعجز وقلة الحيلة.