تحت أضواء النيون في متجر تحويل أموال في جاكسون هايتس، راح أحد الرجال يتلو من الذاكرة السطور الافتتاحية من رواية "مئة عام من العزلة" باللغة الإسبانية، في ليلة الخميس. "طبعاً أتذكرها كلمة كلمة"، هكذا قال الرجل، آلكسندر سايسيدو، 39 عاماً، وهو نادل أرسل للتو نقوداً إلي كولومبيا، حيث قرأ الكتاب لأول مرة وهو في المرحلة الثانوية. "مرّت 22 عاماً منذ تخرجي ولكني لازلتُ أتذكرها. إنه شيء فطري بالنسبة لنا، شيء يخصّنا." إن موت الروائي الكولومبي جابرييل جارسيا ماركيز عن 87 عاماً، أطلق فورةً من رسائل النعي والتأبين والمديح، والتي بدت كما لو أنها لن تنتهي أبداً مثل عاصفة سحرية في واحدٍ من كتب المؤلف الراحل. في نيويورك، راح يتذكر السيد ماركيز الأصدقاء والكتّاب وا لطلاب، لكن الأهم والأكثر من كل هؤلاء هم قراؤه من أبناء أمريكا اللاتينية، ممن يجمعون في صفوفهم بين معلمي المدارس والندل، المشرفون في مواقع العمل، وباعة الأحذية: هؤلاء الذين التقوا بالسيد ماركيز لأول مرة في مدارس قراهم أو مكتباتها العامة علي مبعدة آلاف الأميال من مدينة نيو يورك، أي في أماكن ظلّتْ "مئة عام من العزلة" التي وصفت بأنها مغامرات هلكبري فين الخاصة بأمريكا اللاتينية تُقرأ ويعاد قراءتها علي مدي أكثر من أربعين عاماً. في جاكسون هايتس، وهي منطقة شبه كولومبية لا تري بحراً من أي جانب، راح البعض يتلو الفقرة الأولي من الكتاب ذاته بينما يشربون البيرة: "بعد سنوات طويلة... وأمام فصيلة الإعدام المكلفة بتنفيذ حكم الإعدام لم يجد الكولونيل أوريليانو بوين ديا سبيلاً إلا تذكر تلك الأمسية البعيدة حين حمله أبوه ليري الثلج. ماكوندو حينئذٍ كانت قرية من عشرين بيتاً مبنية بالطين وأعواد القصب البري علي ضفاف نهرٍ تجري مياهه الشفافة متسرعة فوق قاع من صخور بديعة بيضاء، هائلة الجرم كأنها بيض طائر من عصر ما قبل التاريخ. لقد كان العالم جد وليد حتي أن أشياء كثيرة كان يعوزها الاسم ولكي تُذكر ينبغي أن يستعمل الإصبع في الإشارة إليها." »ترجمة سليمان العطّار« أعلن آخرون كتبهم المفضلة له: "سرد أحداث موت معلن"، هكذا قالت امرأة وراء النضد في بار لاتيني صغير بشارع روزفلت. "الحب في زمن الكوليرا"، قالت شابة وهي تقطع صدور الدجاج في مطعم بالشارع ذاته. "لا أحد يكاتب الكولونيل"، قال السيد جاليرمو آنجاريتا، 69 عاماً، الذي رفع نظارته الطبية عن عينيه ومسح دمعات هاربة في بار اسمه هايرو. "لقد قرأتُ كل شيء كتبه"، هكذا قال السيد آنجاريتا، وهو عامل صيانة، انتقل إلي بروكلين من كولومبيا في أواخر ستينيات القرن العشرين، بعد نشر "مئة عام من العزلة" في اللغة الإسبانية بفترة وجيزة. وبالنسبة له، كما هو شأن قرّاء آخرين، كانت كتب السيد ماركيز رابطة عضوية عميقة بكولومبيا، خلال الزمن الذي كانت حتي الصور الفوتوغرافية تصل كل بضعة شهور وكثيراً ما تضيع الرسائل في البريد. بالنسبة لقرّاء آخرين من أمريكا اللاتينية، فقد كانت موضوعاته لها طبيعة عالمية: العنف والحرب، وما ينجم عنهما من تفريق [بين الناس]. "بعد أوقات الشدة، هناك علي الدوام سبب للمواصلة" هكذا قال ريموندو سيفيريان، عن أعمال السيد ماركيز، وهو مكسيكي، 44 عاماً، كان يتناول عشاءه في جاكسون هايتس بصحبة مجموعة من رفاقه الباعة في شركة أمواي. أمّا الكاتب فرانسيسكو جولدمان والمقيم في بروكلين، فقد قال إنه ما من كاتب غير جابو ،اسم التحبب المعروف به جابرييل ماركيز، قد لمسَ كل هذا العدد من حيوات الناس في أمريكا اللاتينية. وقال السيد جولدمان: "هناك عدد كثير للغاية من الأشخاص في أمريكا اللاتينية ممن اكتشفوا الأدب عبر قراءة ماركيز، أشخاص ربما لم يقرأوا غير كتابين أو ثلاثة خلال حياتهم كلها."، ثم واصل ضاحكاً: "قد تزور بيت بغاء هناك وتكون المرأة محتفظة بكتاب بجانب فراشها ويكون كتاباً لجابو دون سواه، وهنّ قد قرأنه." واحدة من أول متاجر الكتب في مدينة نيويورك المتخصصة في بيع الكتب الإسبانية تُدعي ماكوندو، تيمناً باسم القرية الخرافية في "مئة عام من العزلة"، وقد قال عنه الروائي الكولومبي خايمي مانريكي، إن متجر الكتب هذا، والذي يقع في شارع 14 في مانهاتن، كان مهماً بالنسبة له ككاتبٍ شاب، سواءً من أجل المشهد الأدبي الذي يوفره له الإطلاع عليه أو لاسمه. "كان من المهم أن نري كولومبيا توجد، في أماكن عديدة، بسبب أعمال جارسيا ماركيز". تم إغلاق متجر كتب ماكوندو في عام 2007، ولكن في السنوات الأخيرة نمي المشهد الأدبي الخاص باللغة الإسبانية وازدهر، ففي كل شهر يفد ما لا يقل عن خمسين شخصاً اليمتجر كتب ماكنالي جاسكون في حيّ سوهو من أحل نادي القراءة الذي يجري بكامله باللغة الإسبانية. ويقول خافير موليا، بائع الكتب الذي يقوم بإدارة نادي القراءة، إن أعضاء النادي من أصحاب اللغتين سواءً من أبناء أمريكا اللاتينية أو من يتقنون الإسبانية كلغتهم الثانية. قال أيضاً: "وهذه ليست النهاية بل البداية". أمّا إديث جروسمان، التي تعيش في نيو يورك وتعتبر إحدي أبرز مترجمات أدب أمريكا اللاتينية، فقد استدعت محادثة أجرتها يوم الخميس. "اتصل بي بعض الأصدقاء حينما سمعوا بخبر وفاته"، هكذا قالت الآنسة جروسمان، مترجمة "الحب في زمن الكوليرا" من بين أعمال أخري للسيد ماركيز. ذكر أصدقاؤها إنهم كانوا في متجر أدوات تكنولوجية في مانهاتن، و"كان هناك ذلك الفتي الشاب في المتجر، يشتغل. ذكر لهم إن جابرييل جارسيا ماركيز قد مات وإنه عليهم ولا بدّ أن يقرأوا أعماله، فهي رائعة حقاً." أمّا الكاتب الشيلي، كارلوس لوبي، الذي قضي الأمسية في صحبة كتاب آخرين في كراون هايتس في بروكلين، فقد قارن منجز ماركيز بمنجز الشعر الملحمي. قال: "لقد استنقذ عالماً قروياً من الفقدان، مكاناً خارج الحضارة، وجلبه حتي هنا، في نيويورك. لم يسبق لأحدٍ أن فعل ذلك، من أجلنا.