لأتجرد من العذاب ومن اللحظة القاتلة التي سبقت، عليّ الاغتسال بمياه الضغينة مُجدداَ. من قال أن الحقد خطيئة؟ من قال أن الغضب المكتوم لسنوات جريمة؟ ألا يكفي أنني لم أستمتع في طفولتي بتعذيبها بما يكفي؟ لم يكفني تضايقها مني لأنني لم أتعمد مضايقتها. كنتُ مثل شوكة في حلقها، حاوَلت باستماتة التخلص مني. وكنتُ ورقتها الرابحة التي تُشهرها في وجه أبي عندما تُريد. كلما تخاصما صرختْ: "ابنتك ثمرة متعفنة، يبدو أنها تكونت في لحظة كره، يبدو أنكما كرهتما بعضكما كثيرا أنت وأمها لتنجبا مخلوقا مثلها". كنت أري عينيه تلتمعان بالغضب. لكنه يرمقها بنظرة طويلة سوداء ويخرج. لسنوات طويلة كبرتُ وأنا مقتنعة بأنني وُجدت في حياته مثل قفزة في الهواء غير محسوبة، أو هكذا أفهمتني زوجته طيلة السنوات التي عشتها معهم في بيت واحد، بيت لم يكن مرغوبا بي فيه. حين أنجبت ثريا تغيرَت. سبع سنوات فصلتني عن ثريا، لم تكن أختي بقدر ما كانت لعبتي. لم أحاول ايذائها وهي رضيعة ...أو ربما حاولت؟ لا أتذكر هذا لكنها كانت تسليتي الجديدة . كبرنا معا وسنوات تفصلنا وحنان الأمومة ُيفرقنا. حين وُلدت ثريا تَغيرت زوجة أبي، أصبحت امرأة أخري. عامَلتني مثل قطة مشردة تحنو عليها أحياناً وكثيرا ما تركلها وتلقي بها في زاوية الغرفة آمرة إياها بالسكون. وعاملتُها كعدوة لي، جمّعت وشحذت أسلحتي علي مدار السنوات الماضية لمواجهتها في اليوم الموعود. راكمت حقد عشرين سنة في قلبي، راكمت حزني وكل صفعة زينت بها خدي أمام أبي أو وراء ظهره، راكمت الدهاء أو ما اعتقدته شبيهاً بدهائها . الغضب والكره ذابا في قلبي حتي تمازجا. كيف أنسي عطل نهاية الأسبوع التي أجبرتني فيها علي تنظيف الحمامات وأرضية البيت علي ركبتيّ؟ كيف أنسي عُطل الصيف التي تحولت إلي تمارين متواصلة للوحدة حينما كانوا يذهبون للبحر ويتركونني وحدي في البيت؟ كيف أنسي بدايات فصل الخريف التي جعلتني أعمل فيها في جني الزيتون؟ ومع ذلك أحب طفولتي، مازالت رائحة الخشب الذي قُطّع حديثا تشعرني بسعادة خفيّة وتعيدني للمساءات التي يأخذني فيها أبي معه إلي عمله في محل النجارة ويسمح لي باللعب بنُثار الخشب ويصنع لي لعباً خشبية أُلونها في البيت. ما زلت أذكر البيت الذي صممه علي مقاس دميتي: بيت علي شكل مكعب خشبي مفتوح من السقف رسمت عليه من الخارج باباً ونافذتين، وحين لاحظ أبي شغفي به صنع لي بعد فترة أربعة كراسي وطاولة، سريرا وخزانة وضعتها فيه وصنعت له سقفا قماشياً من خرقة بيضاء كانت ذات يوم منديلاً . مازلت أذكر ذلك البيت جيداً، كان لعبتي المفضلة ومع ذلك أعطته ذات يوم لبائع الروبابيكا مع جملة الأشياء التي تتخلص منها وتأخذ مقابلها أشياء بلاستيكية للبيت، أواني وأشياء أخري. ومازلت أذكرُ جيداً صبيحة ذلك الأحد البعيد. لم يفطنا لوجودي، كنت أنظر إليهما من خلف الباب المُواري مستمعة إلي حديثهما. لم تكن هوايتي التلصص لكنني تعلمت مع الوقت انهما كلما دخلا إلي غرفتهما نهاراً وأغلقا الباب فإنهما سيتحدثان في أمر مهم لا يريدان أن أعرفه. نظرت إليهما، يومها كان وجهه مُغلقا وكانت هي لزجة في لطفها. كان قد بدأ في تزرير قمصيه حين عانقته مشبكة ذراعيها حول رقبته. ثم بدأت في الحديث بحماسة وغنج وهي تمرر يدها علي وجهه ببطء. كان وجهُه عصيا علي القراءة. "المعهد ليس بعيداً ألا يكفي أنه في مدينة كبيرة مثل سوسة؟ بكل تأكيد سيكون التعليم هناك أحسن بكثير من هنا، "سيدي بوعلي"(1) قرية مقارنة بمدينة سوسة. والمسافة التي تفصلنا عنها عشرون كيلومتر فحسب، نستطيع زيارة شيراز متي شئنا. هذا أفضل للجميع بالاضافة إلي أن التعليم هناك أفضل بكثير. وهناك مبيت داخلي ملحق بالمعهد لكن إذا تركناها هنا فستضطر لاستعمال المواصلات. مبيت؟ مثل ببغاء أخرس رددتُ بداخلي الكلمة عشرات المرات. هكذا قضيت سنوات مراهقتي بعيداً في مدينة لم أر منها سوي المعهد علي مدار السنة الدراسية، وحقول الزيتون في فصل الخريف. ما من داع استوجب دراستي هناك سوي ابعادي عن مجال نظرها. كل تلك السنوات التي قضيتها بين رطوبة حيطان المبيت وتحت سماء الخريف أجمع بيديّ العاريتين حبات الزيتون، لم يكن لها أي مبرر سوي التخلص مني. أنا الشوكة العالقة في حلقها. ومع ذلك أحببت سوسة كانت الخلاص بشكل ما، مازالت رائحة "الفيتورة" أول الخريف توقظ ذكرياتي من غفوتها حين أصل إلي مشارف سوسة، توقظ ذكري الأيام التي عملت فيها في جمع الزيتون مقابل مبلغ صغير. والفيتورة هي رائحة عجينة الزيتون تتسرب من المعاصر وتُغلف المدينة برائحة خاصة لا تملك أي خيار سوي التعود عليها. كل خريف كنت أغتسل بالنسيان، أغني مع بقية الفتيات ونحن منهمكات في التقاط حبات الزيتون بأياد عارية تسود في آخر النهار. نغني ونحكي حكايات مراهقتنا التي بدأت تتفتح ورودها. تلك الأيام جعلتني أنسي كل شيء، أنسي زوجة أبي ووحدتي وغضبي المُتورم في قلبي. حين رفضتُ مناداتها "أمي" أجبرتني علي مناداتها خالة ومع ذلك لم أكرهها بقدر ما كرهتُ ثريا. كرهتُها أكثر مما كرهت أمها، كرهت خبثها المغلف بطبقة رقيقة من كراميل الطيبة اللزج، كرهتُ بهلوياناتها اللغوية كأن تتلقف كلماتي وتُحول حديثي مع أبي لصالحها. يكفي أن ترانا نتحدث لتقترب منا ببراءة موجهة الحوار والانتباه إليها. تقوم بهذا بمنتهي البساطة، بخفة حاوٍ يجيد اخفاء الكلمات الملونة والمبهرجة في قبعته ويعرف التوقيت المناسب ليُظهرها للجمهور المتعطش. حظيت ثُريا بكل شيء ، بحب والدي واهتمامه، حظيت بوقته في غيابي، كل شيء أعجبني حظيت به كل شيء امتَلكته سلبتني اياه، لم يتبق لي من محبته واهتمامه سوي الفتات. ومع مضي السنوات تعمقت بداخلي الفكرة التي كبرتُ عليها كجرح مفتوح وعارٍ، لقد وُجدت في حياته مثل قفزة في الهواء غير محسوبة. لم أكره زوجة أبي بقدر ما كرهت ابنتها، أختي. كرهت نُعومتها المُدّعاة التي تجعلني أبدو طفلة فظة مقارنة بها وكرهت صوتها الرفيع وطريقتها في الكلام والضحك. وأكثر ما كان يثير جنوني، طريقتها في مناداة أمها حيث تُمدد كل حرف من لفظة "أمي" مُنادية إياها "أمممممممممممممي" في مقطع صوتي واحد طويل أكثر مما ينبغي. أكثر مما أحتمل. بلي أعترف ربما كنت أغار من ذلك النداء الذي كان يتهاوي علي قلبي كالحصي، لا يؤلمني لكنه يوقظ وجعي. ما الذي ارتقبته في تلك السنوات؟ الموتي لا يعودون وأمي لن تعود. لذلك عملتُ بجد علي شحذ القسوة داخلي، حلمتُ بأن أستيقظ ذات صباح وبدل أن أري وجهي البشري أري وجها جديداً أخضر ومزينا بالشوك. حلمتُ بأن أتحول ذات يوم إلي نبتة صبّار قاسية تستطيع العيش وحدها طويلا دون حاجة للماء، دون الحاجة لعائلة حقيقية سوي ما يتركه الغرباء من محاولات يائسة للمسها تردعهم عنها أشواكها. عاهدت نفسي بأن لا أبكي أحدا بعد أمي. عاهدت نفسي أن لا أبكي أبداً. يومها حين خرجت من المدرسة صباحاً وجدت أبي بانتظاري علي غير عادته، فهو لا يأتي ليصطحبني للمنزل إلا مساء. حملني أنا ومحفظتي والست السنوات التي هي عمري، حملنا بيد واحدة وعانقني. كانت دموعه تتهاوي بصمت فوق وجهي، دموع كبيرة ودافئة. مثل قطرات مطر صيفي كانت دموعه لم تطفيء قلبي الذي تحول إلي جمرة تحرقني. قضيت كل الأشهر التي تلت وأنا أبكي. أبكي وأنا نائمة وفي الطريق للمدرسة أبكي وفي الفصل أبكي وأنا أتناول الطعام أبكي. تحولت إلي آلة للبكاء، جسدي تحول إلي عينين كبيرتين مهمتهما البكاء. قضيت اشهراً لا أتذكر عددها في البكاء إلي أن توقفت. بعد أن استنفدت كل دموعي، توقفت. بعد أن تحولتُ إلي بركة دموع مهجورة لا امتداد مائي لي، لا أم لي لتكون هي النهر الذي أنتمي له، طوقتني اليابسة من كل جانب. وحين كبرت حاولتُ بناء جسر أعبر به للجهة الأخري لكنني كنت مُستعجلة ولم أستطع الالتحاق بالجامعة، كان التعليم جسري الوحيد وكان مقطوعا في منتصفه, لذلك اخترتُ الزواج بأول رجل تقدم لي. في طفولتنا استمتعت كل واحدة منا أنا وثريا بتعذيب الأخري ونصب المقالب لها. أنا لم أكن ضحية طيلة الوقت، كنت شيطانة صغيرة. أذكر مثلاً ذلك اليوم الصيفي جيداً، في غفلة نوم ثُريا، وقتها كنا لا زلنا نتقاسم نفس الغرفة، لمجرد الشعور بالضجر مشيت علي أطراف أصابعي باتجاه سريرها ، وببطء مدروس التقطت كل ضفيرة وربطتها في عقدة بطرف عمود السرير الحديدي....الضفيرتان الطويلتان اللتان لطالما تفاخرت بهما ثريا تحولتا إلي ألم مباغت عندما استيقظت من نومها، ألم تضاعف كلما حاولت رفع رأسها عن الوسادة. وأذكر أيضا المقالب التي وقعتُ فيها كأن تتدعي بأنها وضعت صرصاراً ميتاً في كأس الكوكا الخاص بي وغيرها من المقالب. لكن ثريا لم تكن مبتكرة بقدري .آخر مرة وقعت في فخ من فخاخي، كانت في اليوم الذي اقنعتها باللعبة الجديدة التي ادعيت أنني شاهدت بنات الجيران يلعبنها. دون تفكير زحفت كما أمرتها داخل برميل الماء الذي نجمع فيه مياه المطر، بسرعة أنزلتُ الغطاء ثم دحرجت البرميل. دفعته يمنة ويسرة بشراسة طفل ابتكر لعبة جديدة. لم أشعر بالندم أبدا حين سمعت صراخها ولا حين رأيتُ الكدمات علي جسدها. الندم معول مصنوع للضعفاء ليقوضوا به أفعالهم الشعينة ويبنوا بدلاً عنها توبة وهمية. حكايةُ البرميل لم تمر بسلام، ضربتني زوجة أبي بحزام والدي الجلدي وقررت أن تفصلنا فتركت ابنتها تنام في الغرفة وأخرجتني لأنام في قاعة الجلوس وبعدها أقنعت أبي بأن يأخذني لمعهد بعيد. من كانت الشريرة فينا؟ أنا؟ أم زوجته؟ أم ثريا؟ كل واحدة كانت شريرة علي طريقتها. والآن حين وجدت زوج قرطي ثريا عالقا في نسيج الملاءة الصوفية لفراشي الزوجي لم أنبس ببنت تهمة لزوجي. وقررت الانتقام علي طريقتي. من قال أن الحقد خطيئة؟ من قال أن الغضب المكتوم لسنوات جريمة؟ ألا يكفي أنني لم أستمتع في طفولتي بتعذيب زوجة أبي بما يكفي؟ علي الأقل بقدر ما عذبتني؟ لم يكفني تضايقها مني لأنني لم أتعمد مضايقتها. كنتُ شوكة في حلقها، حاوَلت باستماتة التخلص مني. وكنتُ ورقتها الرابحة التي تُشهرها في وجه أبي عندما تُريد. وثريا ليست أختي هي ابنتها في المقام الأول أخذت مني كل شيء، أخذت مني أبي وحنانه واهتمامه وحققت أحلامي بدلاً عني. أخذت مني كل شيء حتي زوجي أخذته. نظر إليّ طبيب السجن بهدوء، ثبت نظارته الطبية ثم أخرج حقنة غرسها في وريدي. كان العرق باردا يسيل من جبيني بعد أن انتهيت من سرد حكايتي والآن بعد الحقنة أصبحتُ أري كل شيء من خلف غمامة رمادية...رأيت ثريا طفلة ألعب معها وأقبلها ثم رأيتها مراهقة تدير الرؤوس بجمالها ثم رأيت نفسي من جديد وأنا أهوي علي رأسها بالفرن الكهربائي ثم أجثو علي ركبتي وابكي كما لم أفعل منذ وفاة أمي...ثم هاهو وجه الطبيب مجددا...يحرك شفتيه ببطء، يبدو وكأنه يتحدث لشخص لا أتبين ملامحه...لجة سوداء غمرتني. في الأيام التالية، شُوهد زوج شيراز مع امرأة في أحد المقاهي الرومانسية المطلة علي البحر. كان الرجل صامتا ينظر إليها وعيناه غائمتان بينما سوت المرأة شعرها وسألته للمرة الثالثة علي التوالي إن كان وجد قرطيها؟ دون أن تبدو أي اشارة أنه يصغي إليها. وبينما كانت المرأة ترفع يدها لتضعها علي يده لمست دون قصد فنجان قهوتها فانسكب علي جريدة كُتب علي صفحتها الأولي: "أخت تقتل شقيقتها من الأب، الأسباب غامضة لكن علي الأرجح لاكتشافها وجود علاقة بين الزوج والشقيقة".