استطاعت د. ياسمين فراج أن تقترب من إحدي القضايا الهامة في مسيرة أية سلطة عبر التاريخ، وهي العلاقة بين النظام الحاكم والفن وتحديدا الغناء، أو بمعني آخر جعلت من كتابها الذي تقترب صفحاته من 300 صفحة إجابة لسؤال: هل لعب الغناء دورا في تغييب عقول المواطنين وتقديس الحكام، وهل أدي هذا الدور فقط، ام أنه- أيضا- ألهب حماس الجماهير في اللحظات الصعبة، سواء في مقاومة المحتلين او في الحروب أو في الثورات؟. ياسمين اختارت ألا تطلق أحكاما، إنما إنحازت لطرح هذه القضية الهامة من خلال ضرب النماذج المختلفة، بعد أن قدمت إطلالة علي تاريخ الغناء وارتباطه بالسلطة منذ عصر الفراعنة وحتي ثورة 25 يناير 2011، وامتدادها في 30 يونيو 2013. فالمؤلفة في كتابها " الغناء والسياسة في تاريخ مصر" تنطلق من أن للموسيقي والغناء دورا يتجاوز فكرة الترفيه والتسلية إلي لعب أدوار متعددة، في سياسات البلاد، وكثيرا ما يستخدمها الحكام والسياسون في تسهيل مهمتهم، حتي السياسات المرتبطة بالعقيدة الدينية كثيرا ما ارتبطت بالموسيقي والغناء، فالعلاقة بين الحركة الفنية والسياسية كانت ومازالت علاقة جدلية، أحيانا تكشف عورات الأنظمة السياسية وتواجهها، وأحيانا تصفق لها وتنافقها، وأحيانا يناهض الفن أشخاص السياسيين وسياساتهم، وأحيانا أخري يتبادل معهم المنفعة. وتوضح ياسمين أن تاريخ اشتباك السياسية بالحركة الفنية التي منها الغناء، زخر بأنواع متعددة مثل: الغناء القومي، الذي تهدف كلماته إلي تنمية الحس الوطني عند مجموعة من البشر الذين يجمعهم الحيز الجغرافي الذي يعيشون فيه معا، أما الغناء السياسي الذي تهدف كلماته إلي كشف سلبيات وفساد الأنظمة السياسية، لدرجة تصل إلي التحريض عليه وعلي رموزه، في حين ان الغناء الحماسي مثل الأناشيد التي تقدم أثناء فترات الحروب والاستعداد لها، ومنها الأناشيد المميزة للدول المختلفة، التي تعرف بموسيقي السلام الوطني، ويكمن الغناء التلقائي او الشعبي فيما ينتجه الشعب أثناء الانتفاضات والثورات والأحداث المرتبطة بالوطن، وأخيرا الغناء الدعائي الذي ينتج بغرض الترويج الدعائي لتيارات أو أحزاب أو أشخاص بأعينهم أثناء الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية.
وقد عرفت مصر ارتباط الغناء بالحكم منذ العصر الفرعوني، كما ظهر في العديد من كتابات الفراعنة، فقد أرشدتنا نقوشات جدران المعابد إلي أن الحضارات الفرعونية القديمة التي عرفت العديد من الفنون كانت تمارس في الأسر المختلفة، وأرتبط الغناء بجميع نواحي الحياة، إذ أشارت المراجع إلي أن كهنة المعابد المصرية القديمة، حددوا شروطا خاصة ومواعيد محددة للعزف والغناء، فكانت هناك أوقات للموسيقي والأغنيات المرحة الخفيفة وأخري للموسيقي الجادة الهادئة الوقور، وغيرها للعمل، بحيث تحث علي الجد والنشاط وتزيل الإحساس بالتعب، وأخري للمساء والسهرات والسمر، كما كان منها ما يحث علي حب الحياة والوطن، والمعاني السامية النبيلة، والبعد عن النزوات الشريرة. وإذا كان للغناء أهداف كثيرة في العصر الفرعوني، إلا أنه في الفترة المملوكية انحصر في الترفيه والمتعة فقط، ولم يكن هناك اهتمامات بسياسات ثقافية تعني بصناعة الأغنية، فقد ارتبط الغناء في هذا العصر بالأعياد والمواسم التي كان معظمها ذا طابع ديني أو معتقد شعبي، مثل شهر رمضان، عيد الأضحي، الموالد والمواسم التي ورثت عن الفاطميين مثل الاحتفال بالمولد النبوي، والاحتفالات بأولياء الله الصالحين. وإذا انتقلنا للقرن التاسع عشر نجد تتابع الأحداث السياسية ورؤية الحكام لهذا للموسيقي والغناء، انعكس بشكل إيجابي، لاسيما في فترة الخديو إسماعيل ( 1863- 1879)، التي ازدهرت فيها الفنون من خلال تقديم أنواع جديدة، وبناء دار للأوبرا علي غرار الأوبرا الأوروبية، ثم بعد ذلك ظهور الفن المسرحي، مما أدي لانتعاش الأغنية، التي واكبت- أيضا- الأحداث السياسية، ومنها ثورة يوليو 1952، وحرص مجلس قيادة الثورة برئاسة محمد نجيب علي حضور أولي حفلات أم كلثوم التي قدمتها في عام الثورة، وشدت فيها برائعة حافظ إبراهيم " مصر تتحدث عن نفسها"، ثم تبعتها بقصيدة " صوت الوطن" كلمات الشاعر أحمد رامي، واستمرت الأغنيات تؤيد الثورة، وكان لها- أيضا- دورها فيما بين هزيمة 1967، وانتصار أكتوبر 1973.
وكان للأغاني والهتافات تأثير بارز في ثورة 25 يناير 2011، فكثيرة هي الهتافات التي تعالت بها حناجر الملايين من المصريين في ميدان التحرير، فقد توحدت الأصوات وتناغمت، لنجد انفسنا أمام حالة فنية تلقائية، تفصح عن شعب ذي مزاج فني بالفطرة- علي حد وصف ياسمين-، فظهرت الهتافات القصيرة التي تتكون من بيت أو بيتين، والطويلة ذات الأبيات الزجلية المتعددة القوافي، التي تتشابه في بنيتها الموسيقية مع الأغنيات الشعبية، فمن الهتافات القصيرة التي ترددت في مختلف المحافظات: " الحرية والرغيف/ مطلب كل مصري شريف"، و" ثورة ثورة يا كرام/ حتي يسقط النظام"، كما ظهرت الهتافات الساخرة من قبيل " هيلا هبة هيلا هبة/ اصحوا ياللي تحت القبة تحت القبة رجال أعمال/ واحنا شباب فك الأعمال/ إحنا شباب الإنترنت/ إحنا شباب الواد والبت/ إحنا الجوجل والتويتر/ إحنا جيل الكمبيوتر/ حالو يا حالو والريس شعبو حلو". واستمرت الكلمة والهتافات تلعب دورها في المشهد السياسي ، خاصة في فترة الانتخابات الرئاسية، التي استغل فيها جميع المرشحين الأغنيات في حشد الأصوات، والغريب أنه ظهر تأثير لموسيقي الراب والهاوس في العديد من الأغنيات الدعائية لمرشحي الرئاسة، مما يدل علي التغلغل الواضح لنمط الموسيقي الغربية الوافدة علينا، واستخدام هذه الأنواع الموسيقية بغرض جذب شريحة الشباب المعتادة علي سماع هذا النوع من الموسيقي، كما اهتمت الأنماط الموسيقية التي قدمت من خلال الأغنيات الدعائية لمرشحي الرئاسة علي الشباب والطبقة المتوسطة، وغاب عن المشهد الغنائي للحملات الانتخابية صوت النساء، وظهر فقط صوت الأطفال من الإناث في الأغنيات الدعائية للرئيس المعزول د. محمد مرسي، بالإضافة إلي أن حملته كانت الأكثر إنتاجا للأغنيات المؤيدة له، فضلا عن أن جميع الأغنيات الدعائية التي أنتجت لحملات جميع مرشحي الرئاسة لم تخل من الشعارات السياسية، ودغدغة مشاعر المواطن المصري، خاصة شريحتي شباب الطبقة المتوسطة والأدني منها، أما الشعارات الدينية فظهر القليل منها في حملة المرشح أبو الفتوح بشكل مستبطن، وجميع أغنيات حملة مرسي بشكل صريح. ولكن الملاحظة الواضحة أن بعض التيارات الإسلامية التي تحرم الموسيقي والغناء والفنون، تنازلوا عن معتقداتهم أثناء الدعائية الانتخابية، واستخدموا الفنون ومنها الموسيقي والغناء والرسومات ومشاهد الجرافيك، كوسيلة من وسائل الدعاية الانتخابية.
وترصد المؤلفة- كذلك- الصدام الذي وقع بين المثقفين ووزير الثقافة الأسبق علاء عبد العزيز، والذي انتهي باعتصام بوزارة الثقافة، ثم مشاركة المعتصمين في الموجة الثورية30 يونيو، التي أسقطت حكم الأخوان، وترصد مجموعة من الأغنيات التي تعرضت بالانتقاد لحكم مرسي، وكذلك الأغنيات التي حرضت علي 30 يونيو، ومنها أغنية " انزل"، لتحفيز الشعب علي النزول والتخلص من الاحتلال الإخواني، والأغنية من كلمات نصر محروس، وتوالت بعد ذلك الأغنيات التي تدين فترة الإخوان. ولم تكن الأغنيات فقط، هي التي أججت مشاعر المواطنين في 30 يونيو، بل الهتافات التي انطلقت في الميادين، ومنها الهتاف الذي شهدته مدينة السويس ليلة 30 يونيو: " شدي حيلك يا سويس/ محمد مرسي مش رئيس/ شد حيلك يا منصورة/ لازم يرجع للمحظورة/ شد حيلك يا بورسعيد/ يوم 30 يوم العيد/ شدي حيلك يا اسكندرية/ دا انتو شباب مية مية/ شد حيلك يا دقهلية/ ضد جماعة إرهابية/ شدي حيلك يا بلد/ الحرية بتتولد/ والولادة قيصرية/ أصل الداية إخوانجية/ والمولود اسمه حرية". الكتاب يتعرض أيضا- للأزمة التي نشبت في أكاديمية الفنون في عهد د. شاكر عبد الحميد وزير الثقافة الأسبق، وكذلك في عهد علاء عبد العزيز، وتنشر العديد من المستندات في هذا السياق.