الإحباط يبقي عصيا علي المخيلة المبدعة، فالإحباط هو فساد خارج الزمن للفعل، هو ليس لا فعل بل فساد لاحق للفعل، فساد يضرب فعلك بالماضي وينتشر من هناك ليكتسح فعلك بالحاضر ويدمغ فعلك بالمستقبل، إنه بركة أسنة من الشعور بالعبثية واللاجدوي واللاقيمة، يغرق فيها فعلك كإنسان، أو كمجتمع. أحب هذا التعبير في العامية (مدلدل) لوصف الشخص المحبط، فهو ليس مكسورا ولا محطما، فالتكسر فعل ومقاومة، أما (الدلدلة) فهي رخاوة وتحلل، ليونة مرضية، تساقط الأشياء عن مواضعها دون أن تنفصل عن الاصل، تشوه غير نهائي فلا يمكنك أن تعيد ترميم نفسك. لقطة 1 مساء التاسع والعشرين من يناير 2011، حديقة محطة مصر تجمع عشوائي يتقارب دفعا لبرودة يناير الشرسة وابناء الحزب الوطني الذين كانوا يحومون حول المجموعة كما تحوم القروش حول سرب من الفرائس، يبثون اليأس والإستسلام، لن أنسي ما حييت ذلك الخمسيني بوجهه المجهد بال(الشقا) وعيناه تلمعان كطفل يزور الملاهي للمرة الأولي وهو يسألني: مصر حتبقي أحسن، مش كده؟، ولا أنسي إجابتي التلقائية : طبعا، أكيد حتبقي أحسن، هل يعلم انه لا يمر يوم لا أتذكره فيه؟ وأنني كل مرة أتذكره أعتذر له، أنا آسف يا أخي، فقد كذبتك، هي لم تصبح افضل ولن تصبح، كيف هو عمق إحباطك الآن؟ هل تتذكرني؟ هل تلعنني في سرك؟ وتلعن إجابتي الكاذبة الساذجة البلهاء؟ لقطة 2 لا أذكر الزمن تحديدا، وقت ما في الشهور القليلة اللاحقة علي 25 يناير، ممثل الأكشن الامريكي (فين ديزل) ينشر علي الفيس صورة له بمصر، تنهال علي صفحته التعليقات الساخرة والنكات بالعربية، ثم كأنما انفجار، المئات بل الالاف من مستخدمي الفيس بوك المصريين، يتدفقون عبر صفحات عديدة - كلها غير عربية- ويتركون سيولا من التعليقات الساخرة والخفيفة الظل بالعربية، وصولا لصفحة أوباما نفسه والخارجية الامريكية، دون اتفاق او سابق ترتيب، المصريون يعملون معا في كرنفال غريب علي الفيس بوك لتأكيد الذات، الفرح بالقدرة علي الفعل المشترك، الانبهار بالقدرة علي الفعل، كانوا شبابا يلوحون ويصرخون بفرح للعالم كله: شايفنا، إحنا أهوه، إحنا أهوه. تلك كانت البهجة، تلك كانت روح الفعل الأكثر خطورة علي استقرار النظام، تلك الروح كان يجب قتلها، ولم يكن يمكن قتلها لا بالرصاصة ولا بالخرطوش- مع وفرتها- كان يجب قتلها بالإحباط، بإغراق الجميع في الاكاذيب والألاعيب السياسية التي تنسجها ساحرات شمطاوات خضراوت الجلد يتناقضن مطلقا مع الرومانسية الطفولية البريئة لمن آمنوا ب 25 يناير، كنا أبرياء، حقيقة، كأطفال يخرجون للعالم للمرة الأولي بأعين مليئة بالدهشة وشفاه تتفجر بالهتاف، الإحباط أننا ندرك سقوط براءتنا، موتها، فقد سممت بالغاز وضربت بالرصاص والخرطوش وعريت وكشف علي عذريتها. براءتنا ماتت وسط الألاعيب والأكاذيب والأوهام ، ندرك أننا كي ننتصر علينا أن نستعير من أعدائنا انيابهم المسنونة ومخالبهم القاتلة، لنصير وحوشا نحن أيضا، لكننا لا نملك الشجاعة الكافية لنكون، فننزوي ببطء ونتحول لكائنات (مدلدلة) متهاوية، يائسة، انتحارية. هذا الجيل لن يمكنه إنجاز ثورة، وهو يعلم، هذا الجيل سيقتل نفسه بالإحباط، وأنتم سيكون عقابكم العقم، أن يموت مستقبلكم أمامكم منتظرا ربما خرابا يطيح بكل شيء حتي بإحباطه.