نديم غورسيل، الكاتب التركي، الحاصل مؤخرا علي جائزة البحر المتوسط 2013 عن روايته الأخيرة "الملاك الأحمر"، يستدعي أشكال الاعتراض الجديدة في ميدان "تقسيم". ولد في عام 1951 بمدينة غازيانتب، تلميذ ليسيه غالاتاسراي بأسطنبول ثم طالب في بواتييه والسوربون التي أعد فيها، في عام 1979، أطروحة في الأدب المقارن حول آراغون والشاعر اليساري ناظم حكمت. نديم غورسيل يحيا في باريس حيث يدرس في المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية (inalco ) ويدرس في المعهد الوطني للأبحاث العلمية (CNRS). مع ناظم حكمت، بطل روايته الأخيرة "الملاك الأحمر"، التي حاز مؤخرا عنها جائزة البحر المتوسط، يتقاسم الأفكار التقدمية وحب لغته ذ "بلدي، هي لغتي"، قال الشاعر. أحيانا فرانكفوني، كتب كل نتاجه بالتركية. حائزا علي جائزته في 14 يونيو، ذكر أيضا حبه لهذا "البحر الذي يعتبر جغرافيتي السياسية" والذي خصص له احدي رواياته، المنشورة في عام 2003 : "شرفة علي البحر المتوسط"، اذ كتب عن الشاعر المستبصر في تركيا "فرس أصيلة قادمة سريعا الي آسيا البعيدة برأس منحنية نحو البحر المتوسط"، هذا "البحر الأزرق الصعبة في الفهم". تمت ملاحقة نديم غورسيل عددا من المرات الي تركيا بسبب نتاجاته، تحديدا "صيف طويل في اسطنبول" (1980)، "المرأة الأولي" (1986) و"بنات الله" (2008). كنت في تركيا وقت مظاهرات ميدان "تقسيم". ما هي مشاعرك ؟ - في الواقع، أمضيت عشرة أيام في تركيا خلال يونيو. حينما وصلت الي اسطنبول، استقبلني ابن أخي، طالب الحقوق. بدهشة، كان معه كمامة غاز وقال لي : "أعتذر، ولكن هذا المساء يجب المقاومة". رحل ولم يعد الا في الثالثة صباحا. كان المساء الذي قامت في الشرطة "بتنظيف" حديقة غيزيه. كنت قلقا للغاية عليه، غير أنني لم أكن أمتلك شجاعته. ذهبت اليها في الصباح، وكان هناك الكثير من المتظاهرين الذين يأتون من كل مكان ويحاولون استرداد "تقسيم". قاوموا وعادوا. كان الأمر مثيرا للاهتمام. بعد ذاك، ذهبت الي أنقرة، وهناك اكتشفت شكلا آخر من الاعتراض : المقاومة الصامتة، المتظاهرون واقفون في الميدان، صامتون، كتاب في اليد، يقرأون. فكرة الكتاب والصمت أثارت اعجابي. ولكن كانت هناك مظاهرات أخري للشباب الذين كانوا يقمعون طوال المساءات في حديقة "الاوز"، ويرجعون اليها رغما عن أي شئ. ذلك هو الطور الأخير من هذه الحركة الديمقراطية التي تم قمعها بكل عنف من قبل حزب العدالة والتنمية. لدينا القليل من الأرقام عن هذا القمع؟. - من غير المقبول عدم توفر أي تحقيق، بينما هناك خمسة موتي، من ضمنهم شاب قتل من علي بعد خمسة أمتار وهذا مصور علي فيلم فيديو -، ومئات الجرحي. شباب فقدوا نعمة البصر من جراء الغاز. بالنسبة للاعتقالات، لا نعرف الرقم الحقيقي، ولكنهم كثيرون. والوزير الأول تحمل براحة بال هذه المسئولية ! "لا تبحثوا عمن أعطي الأوامر للشرطة، أنه أنا !"، كما قال بكل فخر ! في بلد ديمقراطي، وزير الداخلية يستقيل، ولكن هنا، لا شئ ! وصيد الساحرات بدأ. بدأت الشائعات بأن جميع المثقفين والفنانين الذين ساندوا المظاهرات سوف تتم ملاحقتهم. أمر ممكن، لأن اردوغان يسخر من المثقفين، يحتقرهم. يثير ضيقه أن نجوم المسلسلات التلفازية ينتقدونه. استقبل نجمة مسلسل "سليمان" المشهورة في أنحاء الشرق الأوسط، لكي يتملقها ويعدها بأنه سيهتم بالبيئة مستقبلا ! كأن هذه هي المشكلة ! في البداية، أ لم تتمثل المشكلة في 600 شجرة أرادوا قطعها لاقامة مركز تجاري ؟ - أنها الشرارة، ولكنها سرعان ما أخذت انعطافة أخري. حينما لم يرد الوزير الأول أن يسمع شيئا ونعت المتظاهرين "بالصعاليك، النهابين، الارهابيين"، اشتعلت الأحداث. المشكلة الحقيقية، الديمقراطية، العطش الي الحرية، معارضة سلطة تسعي الي فرض نمط حياة محافظ وفكر ديني رجعي علي الشعب. الشباب لا يريدونه. لا يتحملون هذا الغطاء الرصاصي. قال جزء كبير من الشعب معهم : "نحن هنا، نحن الشعب، ولن تستطيعوا فرض قيمكم علينا". وجدوا أشكالا جديدا من الاعتراض. في الأحياء الشعبية، بعيدا عن ميدان "تقسيم"، المجتمع المدني، تستمر السيدات في المقاومة بالوقوف في الشرفات وقرع الأواني كل مساء في التاسعة مساء. وهنا، ليس الأمر متوقف علي الطلبة والمثقفين ! ولهذا أقول أن لا شئ سيكون مثلما جري في السابق. سوف نري الي ما سيجري في الانتخابات البلدية المزمع اجرائها في عام 2014. ولكن الحركة انتصرت بما أن بناء المركز التجاري تم الغائه ! أنه انتصار مادام دفع رجل مثل اردوغان الي الوراء، حتي وأن كلف الأمر كثيرا. لا تكن له أي محبة في قلبك...؟ - لست الوحيد. لقد بلور في شخصه كل عدم الرضي الشعبي بسبب عجرفته، شموليته، وجوده الكلي. لا يمكن أن ندير التلفاز أو المذياع بدون أن نراه وسماع خطابات ارضاءه الذاتي. أعتقد بأنه يمضي يومه كله في ذلك. نائب الوزير الأول والرئيس غول، علي الأقل، اعتذرا عن العنف وقالا بأنه من اللازم سماع رسالة الشارع. ليس اردوغان. كان متأكدا بكونه علي صواب في كل شئ وضد الجميع، ولا يتقبل أي نقد. ولكنه حاز علي نتيجة عكسية : ازهرت ألاف الرسوم الكاريكاتورية اللاذعة، التي رفعها المتظاهرون، ولم يستطع فعل أي شئ، بينما في السابق كان يرفع الدعاوي علي أقل رسم كاريكاتوري. ومع ذلك، كان الاعلام منتقدا للغاية بسبب موقفه من السلطة؟. - هذا مبرر ! من الخجل النظر الي كيفية استمرار وسائط الاعلام في التبرير لاردوغان كأن شيئا لم يكن. لم يزل حاضرا علي الدوام علي جميع القنوات، العامة أو الخاصة. حتي أن القنوات التلفازية المسماة "مستقلة" تحت طاعته. والعشرات من الصحافيين ملاحقون ومعتقلون أو تم تسريحهم. مع كل هذا، أتحسر علي أن تركيا لم تزل بعيدة عن أوروبا. كنس اردوغان بكل احتقار قرار البرلمان الأوروبي الذي بث قلقه من عنف الشرطة، لقد طوي الصفحة الأوروبية. الدخول (الي الاتحاد الأوروبي) بعيد، أنه ردة عن حقوق الانسان والديمقراطية. أنا ممرور حينما أري كرواتيا، التي بدأت مفاوضات الانضمام في عام 2005، في نفس الوقت الذي قدمته تركيا، دخلت الي الاتحاد الأوروبي، وأننا لم نزل نتفاوض علي ملفات عدة. هل من الممكن أن يفقد اردوغان الانتخابات المقبلة؟. - حسبما الاحصاءات، خسر شيئا من شعبيته. ولكن من الممكن أن يستردها اذا حل المشكلة الكردية وحافظ علي الناخبين الذين ساندوه، لأنه عقد هدنة مع حزب العمال الكردستاني. ولكن هناك مشاكل. حزب العمال الكردستاني الذي احترم من جهته الاتفاق بسحب قواته من الأقاليم الكردية في تركيا نحو الأقاليم الكردية في العراق، يتهمه بخيانة اتفاقه : انكار المطالبة بتعلم باللغة الكردية، وتحرير اوكلان، حسبما الوعود، يطرحان مشكلة. تتصادم مع معارضة عائلات ضحايا الحرب. هناك الكثيرون في الجيش وأمهات من يطلق عليهم "الشهداء" يستمع لهم. هناك أيضا الأحزاب المعارضة للأكراد مثل الحزب الجمهوري للشعب CHP وحزب العمل القومي MHP قبالة هذه الحالة، حزب السلام والديمقراطية BDP، الحزب الكردي الكبير في البرلمان، هدد بالقيام بعمليات احتجاجية في جميع أنحاء البلاد. من الممكن أن نري الي أن الأكراد ينوبون عن الأخرين في المعارضة. والجيش ؟ هل من الممكن أن يرجع الي اللعبة مثلما فعلها عددا من المرات في الماضي، أو اليوم في مصر ؟ - لقد ضرب عنق الجيش منذ وصول حزب العدالة والتنمية الي السلطة. شئ طيب ما قام اردوغان به من وضع نهاية لوجوده في المشهد السياسي. ولكنه ذهب الي البعيد بوضع كثير من الجنرالات في السجن، أحيانا مع ملفات متشعبة. هناك قضايا تعود الي سنوات، مثل "ارغنكون" أو "العملية هراوة". عاونه بعض المثقفين الليبراليين. لم أكن مخدوعا. قلت في نفسي : "سيستندون الي الاتحاد الأوروبي لكي يضعفوا أو يبعدوا خطر الانقلاب العسكري. أنه تقدم، ولكن أوروبا لا تجري في دمهم". وكنت علي حق. وما الذي جري مع الدعوي التي رفعت عليك بشأن "بنات الله" ؟ - حصلت علي البراءة. كنت ملاحقا بتهمة التجديف. استمرت القضية عاما وفي النهاية حصلت علي البراءة. ولكن النيابة العامة استأنفت الدعوي وانتظرت عامين حتي حصلت علي القرار ! كنت أنتظر حكما من ستة أشهر الي سنة من السجن لأنني "أغتبت القيم الدينية لجزء من الشعب". أتهم الملحن فاضل ساي لنفس التهمة لأنه تمثل عمر الخيام يحتفي بالخمر والحب ! قبل عشرين عاما لم يكن هناك مجال لهذا النوع من القضايا. كنت أول من أتهم بالتجديف في تركيا الجمهورية، وهذا ما جري تحت حكم اردوغان. مع كتابي الجديد، الذي سوف يصدر قريبا، أخشي من الملاحقة لأن بطلي يذكر الي أي درجة أنه لا يحتمل الوزير الأول ويسخر منه، يقارنه بهايد وجيكل ويبين عدم ثقافته. هذا الرجل يجهل أنه يحيا في بلاد ديونيسوس ويقول للناس : "بدلا من شرب الخمر، كلوا العنب". حزت مؤخرا علي جائزة البحر المتوسط لعام 2013 عن روايتك "الملاك الأحمر". كيف تحلل ما يجري فيه، ثوراته، انتفاضاته ؟ - البحر المتوسط دوما اقليم صراعات. ولدت الأديان الثلاثة في هذا الاقليم ودوما تواجهت، وللأسف يستمر هذا الحال. دخلنا الي مرحلة جديدة حيث كل المرجعيات الدينية حاضرة بقوة في المواجهات الدائرة في العراق أو في سوريا، مثالا. أخشي أن يتمدد ما يجري في سوريا الي تركيا، لأن العلويين قريبين للغاية من الشيعة، وهناك علويون يتصادمون مع الجهاديين السنة. في هذا الصراع تقف تركيا الي جانب بشار الأسد الذي يجازف باثارة القلاق داخلها، بوقوف العلويين ضد السلطة مثلا. لا أفهم لماذا التزم اردوغان بهذا الوقت مع أنه منذ فترة قصيرة كانت هناك مجالس وزارية مشتركة مع بشار، وكانا أفضل صديقين في العالم ! أعتقد أنه قام بعملية حسابية خاطئة عندما تنبأ بالسقوط السريع للنظام السوري. ألا يمكن أن نجد أيضا هنا حلم استعادة نفوذ تأثير الامبراطورية العثمانية، بما أن "النموذج التركي" كان، منذ بداية الثورات العربية، واجهة الأحزاب الاسلامية الخارجة من الظل، مثل "النهضة" و"الأخوان المسلمين"؟. - في الواقع، ممكن. هناك دوما هذا الحلم العجوز الغافي. ولكن تركيا لا تمتلك امكانيات هذه السياسة. أنه بلد كبير ناهض، قوي، ذو اقتصاد ديناميكي قاوم جيدا الأزمة، ولكن يظل هشا، كما تبين مع الوقت. تكفي أحداث "تقسيم" لكي يدير المستثمرون ظهورهم وأن تنهار البورصة. وهنا تحدث اردوغان عن "مؤامرة لوبي أسعار الفائدة" ! كيف تري ما يجري في مصر ؟ - أتابع الأحداث باهتمام وقلق. ما جري في مصر كان من الممكن أن يجري في تركيا اذا كان أردوغان قام ثانية بتجميع أنصاره. نصف الشعب ضد الأخوان المسلمين، ولكن من معهم ؟ أخشي أن تتم اعادة انتاج أحداث الجزائر في مصر. بالنسبة للتدخل العسكري، كما قلت من قبل، تجربتي التركية تجعلني أكون حذرا معه. أنه ليس الطريق الأمثل نحو الديمقراطية. ما يثير اطمئناني بقوة، أن الشعب في مصر كما في تركيا وتونس يتفاعل مع الأحداث، وبالأخص الأجيال المولودة ما بين 1980 و1990، التي تريد أن تكون حرة وتجد أفضل الطرق لكي يتم الاستماع اليها. هل تقترب من هذه الموضوعات في كتابك القادم ؟ - نعم، بالتأكيد. بطلي يريد رجرجة تابوهات السياسة، الجنسوية والدين، بدون نسيان الجيش بما أنها سوف تسمي "ابن القائد" !.