يتميّز هذا العمل بوعي الكاتب بمفردات الواقع والشخصيات . وقدرته علي صياغة هذه المفردات في مناسبات طبيعية وغير مقحمة . مازجًا فيها الجد بالهزل الذي يصل إلي حد الفكاهة الراقية . من ذلك مثلا اعتراض الاسكافي علي المبلغ الذي دفعه مخالي في جهاز التسجيل . إذْ أنّ حجة مخالي أنّ الجهاز قديم فيقول له الاسكافي ( يُعوّضني رب المسلمين يا كافر) وابتسم . فيرد مخالي مبتسمًا (أنا نصراني مؤمن كفرت لما عشت معكم يا مسلمين) والاسكافي يعترض علي سرقة الطيور ، والسبب لديه أنّ لحم الطير مسروق . وعندما يقول له قاسم (إذن لن تأكل معنا؟) فإنّ فيلسوف التحايل يرد ((سآكل . لم لا آكل؟ ربنا سيحاسبني علي ذنوبي ولن يحاسبني علي ذنوب رجب) وعندما يري قاسم الاسكافي جالسًا أمام بيت أم بالوظة الراقصة يقول( الرقص ببطن عريانة وصرة مكشوفة حرام ) فإنّ الاسكافي يرد (الرقص حرام والكلام عن أم بالوظة بكلام فيه غمز ولمز حرام يا قاسم ) وبعد أنْ أكل قاسم من البطة المسروقة قال ( الحرام مر) فصرخ رجب( قم يا قاسم وتقيّأ ما أكلته) فتراجع قاسم ورجب بعد أنْ عبّ كثيرًا من الخمر شعر بألم في معدته فقال قاسم (ما فعلناه حرام . لولا الحرام لما توجّع رجب) ولأنّ الكاتب يعي أهمية تعدد الأصوات . وبالتالي تعدد الأفكار ، فإنه يطرح وجهة النظر الأخري علي لسان الاسكافي الذي قال( أنا وأنت شربنا . هل تشكو من وجع يا حمار؟) ثم يأتي رد رجب ليحسم الموقف الفقهي حول الحرام والحلال فيقول( لن أموت يا قاسم . لماذا أموت ؟ أنا تعبان . الخمرة تتعبني لإني أحب الحشيش). وكلمة ( الحرام ) ودلالاتها تتردد كثيرًا علي ألسنة الشخصيات تعبيرًا عن فلسفتهم في الحياة . وفي حوار ممتع بين الاسكافي المدافع عن الخمرة وفتح الله المدافع عن الحشيش قال الأخير( أنا لا أشرب الخمرة. الآدمي منا لو شرب الخمرة يكثر كلامه ويخف عقله وتتعارض أفعاله وتهتز يداه . والخمرة مُحرّمة بأمر الله وكلام النبي . أما الحشيش فمكروه . والمشايخ وأهل الطرق يشربونه . والحشيش يجعل النور نوريْن والخوف خوفيْن . ومن هنا فالحشاش حريص علي الدوام) فيرد الاسكافي المحب للجدل ( الخمرة حرام لكنها لا تضر إلاّ شاربها . أما اللص فيضر الغير لما يسرقهم) فيشعر فتح الله ( اللص المحترف ) بالإهانة فيرد عليه بعد أنْ أقسم (في حياتي لم أسرق من محتاج ) وينتهي المشهد بالتصالح بين محب الخمرة ومحب الحشيش الذي يوضح أنه لابأس من شرب البيرة أحيانًا( فالبيرة تغسل البطن وتنظف المصارين وتدر البول وتفتت الحصوة فتسلم الكلية) فيرد عليه الاسكافي ( أنت تتكلم بالحكمة . وصداقة رجل مثلك كنز لا يفني . والناس أحرار فيما يحبون وما يكرهون . والعدل غائب . ومن سرق وهو محتاج لاحساب عليه . أما السجون فمملوءة بالمظاليم ). وفي سياق تعدد الأصوات والأفكار ، التعدد الذي يُضفي أهم سمة للإبداع ، أي الجدل الدرامي ، فإنّ الكاتب يختتم قصته بمناقشة للأصدقاء حول سرقة أكفان الموتي : هل هي حرام أم لا ؟ فيري قاسم أنها حرام . فيرد عليه رجب (( هم يسرقون أكفان الذكور والنساء ويمتنعون عن سرقة أكفان الأطفال) وعندما يرد عليه قاسم ((هذا صحيح)) يقول له رجب ( لا. هذا الكلام باطل . إنهم يسرقون أكفان الكبار لكثرة القماش . وذات يوم خالفتهم وغافلتهم وسرقت كفن طفل رضيع وصنعت لنفسي مخدة أرفع عليها رأسي لما أنام ). ويتميّز هذا العمل بوعي الكاتب بمفردات المعتقدات الشعبية التي تدخل في صميم الثقافة القومية لشعبنا المصري . من ذلك مثلا أهمية قراءة القرآن علي روح المتوفي . والسبب كما قال السلف لقاسم ( تبقي الروح معلّقة مجروحة بجروح البدن حتي يتصدّق أهل الميت علي الروح بسورتيْن من كتاب الله)أما رفض اللصوص سرقة أكفان الأطفال فإنّ السبب في عرفهم وفي ثقافتهم القومية يعود إلي أنهم (يظنون أنّ من يسرق كفن طفل لا يفارق القبر الضيق المظلم حتي يأتيه الموت بعد عذاب الجوع والعطش) . يتميّز يحيي الطاهر بقدرة فائقة في استخدام اللغة العربية بوجدان مصري . بحيث يشعر القاريء المصري أنّ الكاتب يخاطبه بلغته الحية . الأمر الذي يخلق درجة عاليه من التواصل بين الكاتب والقاريء . وأنّ هذا التواصل هو الذي يحقق التفاعل بين المبدع والمتلقي . وعلي سبيل المثال فهو يكتب عن شخصية قاسم ( عصر يوم بعيد . جاء قاسم من بلده البعيد علي ظهر مركب تحمل الجرار . ودخل سوق المدينة وشال كيس بطاطس يزن أردبيْن ورماه علي ظهره ولفّ بحمله لفتيْن ثم حطه علي الأرض وسأل أهل السوق : أي عمل يا جماعة . وصبح اليوم أجبر الموت في السوق اللامة أشتات الناس ولمامة البلدان صاحب البدن المهدم علي البكاء بعين مملوءة بالدمع والدم)وعن اللقاء بين الاسكافي ورجب كتب( بين نور وظلام وعلي أرض موحلة طالعه نازله . وبعد مشقة بلغ الاسكافي خص رجب جامع الخرق وناداه وسمع رده فحمد الله . جلسا متقابليْن علي كوم من الخرق . رحّب رجب بالاسكافي وقال( أعمل لك شاي؟ ) رد الاسكافي(لا. نشرب خمرة) ولكي يُقنعه بمأساة قاسم يصفه هكذا ( المسكين كالبيت الذي هدّته دبابة). ولكن هذه القدرة علي صياغة الوجدان المصري إهتزّت كثيرًا في يد الكاتب عندما أصرّ علي أنْ يستنطق شخصياته الأميين باللغة العربية. من ذلك مثلا عندما يضع هذا الحديث علي لسان الاسكافي ( الأرض ظلومة يا قاسم . ظلمتنا وظلمت معنا البغل والحمار. حتي الطير في الدنيا مقسوم ياقاسم . طير مشرّد في السماء وطير علي الأرض يُمسك ويُذبح)والقاريء كي يفهم الكلمتيْن الأخيرتين عليه أنْ يضع علامة الضمة علي حرف الياء في بداية كل كلمة. فهما هنا مبني للمجهول. وهذه اللغة غريبة تمامًا عن الاسكافي الأمي . وكان بوسع الكاتب أنْ يكتب (وطير علي الأرض يتمسك ويندبح) فتكون الصياغة أقرب لمستوي الشخصية من ناحية ، ولم تبتعد كثيرًا عن اللغة العربية من ناحية ثانية. ويقع الكاتب في مأزق المثني والجمع عندما يكتب أنّ الاسكافي قال لصاحبيه(تعالوا نلعب)وأعتقد أنه انحاز للوجدان المصري في استخدامه لصيغة الجمع التي هي الصيغة المستخدمة لدي المصريين للعدد اثنين فأكثر. وأعتقد أنّ انحياز الكاتب لهذه الصيغة ، أنه أدرك أنّ صيغة المثني ثقيلة نطقًا ولاتتّسق مع الشخص الأمي إذا قال لصاحبيْه الأمييْن (تعاليا نلعب) وكذلك تبدو اللغة غريبة عن الشخص الأمي عندما يقول الاسكافي ((كنا أربعة. ولم نعد أربعة. وفي الذي جري قولان . وجرمٌ له دافع وجنونٌ حاصد) ويقول قاسم لأصدقائه وهو بين الحياة والموت( لا أبغي ترك حياةٍ أنتم فيها حتي لو عشتُ شقيًا) فالمصريون المتعلمون لا يستخدمون أدوات الرفع والنصب في لغتهم الحية اليومية ، فكيف يستخدمها قاسم الأمي؟ والاسكافي يخاطب زجاجة الخمر( أنتِ أمٌ لمن لا أم له. وأختٌ لمن لا أخت له. وأنت الأب والبنين والأهل وسنين النيل وعمر النخيل) فهذه صياغة دخيلة علي المناجاة النفسية لشخصية الأمي . كما أنّ هذا العمل المتميز أضعفه بعض الموضوعات الدخيلة علي واقع الشخصيات وعلي الاطار العام للقصة. مثل الحديث عن اليهود المصريين ورحيلهم من مصر بعد أنْ أمّم عبدالناصر ممتلكاتهم ومثل الحديث عن معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل وهجوم العرب علي مصر بسبب هذه المعاهدة وذلك دون أي مبرر درامي . للكاتب الأمريكي جون شتاينبك رواية بديعة بعنوان (تورتلا فلات) أبطالها مجموعة من الصعاليك الذين يُمثلون قاع المجتمع الأمريكي . ويحترفون التحايل والنصب والسرقة حتي سرقة الدجاج من بيوت الفقراء مثلهم . ويتمتّعون بحس فكاهي ، مثلهم مثل أي (أولاد البلد) في أي مجتع إنساني . وكلّما تذكّرتُ (تورتلا فلات) تذكّرتُ أيضًا (تصاوير من التراب والماء والشمس) وسواء قرأ يحيي الطاهر هذه الرواية أم لا، وسواء تأثر بها أم لم يتأثر، فإنّ ما يجمع بين الرواية الأمريكية والقصة المصرية هو الصدق الفني ، وأنّ ما يُميز شتاينبك هو وعيه بمفردات شخصياته وقدرته علي صياغة هذه المفردات بلغة الفن ، وهو ذات الشيء الذي نجح فيه يحيي الطاهر ، أي قدرته علي استخدام لغة الفن التي تعيد تشكيل الواقع . ولكن انطلاقًا من هذا الواقع ، لغة الفن التي تحوي وتعبر عن أهم خصائص الإبداع . أي الصدق الفني . ذلك الصدق الذي يتوّج بتعاطف القاريء مع الصعاليك المشوهين المتمردين علي واقعهم ، رغم رفضه لسلوكياتهم . اختار يحيي الطاهر لقصته عنوانًا دالا يرمز للعلاقة بين مكوّنات الطبيعة (التراب والماء والشمس) وبين الحياة . ومن خلط التراب بالماء يتكوّن الطين . والطين بعد أنْ يتشكّل ، ولكي يجف ، وقبل اكتشاف النار، فإنّ الشمس هي العنصر المكمل لقصة الخلق في الأساطير التي أبدعتها الشعوب في العصور القديمة ، وذلك وفق البحث الجاد الذي قام به جيمس فريزر في مجلداته المهمة والتي نشرها تحت عنوان (الغصن الذهبي) وكتب أنّ شعوب الحضارات القديمة تتشابه (مع الاختلاف في بعض التفاصيل) أساطيرها حول قصة خلق الإنسان من طين . وفي الأساطير المصرية القديمة ، فإنّ الإله (خنوم) خلق الإنسان علي آلة الفخار. وفي ثقافات الشعوب المختلفة أنّ الإنسان خُلق من تراب وإلي التراب يعود . وهكذا هي مسيرة الحياة . من لحظة الميلاد إلي لحظة الموت . وهي المسيرة التي أكدها المحتال الأعظم الاسكافي . فيلسوف المودة والمرح والتسامح والحب والاحتيال والنصب والتمرد علي الواقع الذي أفرزه .