في محاضرته الشهيرة (الخيال الشعري عند العرب) أشار الشاعر التونسي الأكثر حظاً في الإنتشار من بين كل مواطنيه المبدعين من الأموات والأحياء علي السواء. إلي أن الشعر الأقرب إلي الذاكرة والوجدان، يتزود من منبع القص الأكثر غواية ويستلهم جذوته وقدرته علي الإغراء بفتنة الحكي وحبكته، هذه الجملة التي أعاد الشاعر محمود درويش صياغتها بطريقة مختصرة وفاتنة وبألمعية، حين كتب جملته الشهيرة (النثر فضاح الشعراء) تكشف إلي أي مدي يصعب علي الشاعر التخلص من فائض الشعر في نصوصه حين يقصد رواق السرد والنثر. وأعترف مسبقا، وبدون أي إحساس بالذنب أو ادعاء للبراءة، بأنني كنت أضمر التلصص بمكر والتفتيش الدقيق عن شرايين وعروق الشعر وأنا أورق المجموعة القصصية (فرح البنات بالمطر الخفيف) التي صدرت مؤخرا عن دار العين بالقاهرة للشاعر والكاتب والإعلامي المغربي ياسين عدنان، أولا لأنني أعرفه شاعرا، وقد قرأت له العديد من المجموعات الشعرية التي شدتني بقوة مثل مجموعة »رصيف القيامة« الصادرة عن دار المدي بدمشق سنة 2003 ومجموعة »لا أكاد أري« الصادرة عن دار النهضة العربية ببيروت سنة 2007 ومجموعة »دفاتر العابر« الصادرة عن دار توبقال بالمغرب قبل سنة وغيرها من المجموعات والدفاتر الشعرية المشتركة والخاصة، ولكنني كنت أعرف كذلك، بأنه لا يتردد في اقتراف السرد أيضا وقد نشر بالفعل مجموعتين قصصيتين هما ( من يصدق الرسائل) التي صدرت عن دار ميريت سنة 2001 ومجموعة »دفاتر رقم 5« التي صدرت عن منشورات ألفار بإشبيلية سنة 2008، ولكنني لم أطلع للأسف الشديد علي أي منهما، وهذا تقصير أقر به وأتحمل فيه المسئولية بلا تبرير ولا تفسير.. رغم أنني لم أقصر في البحث عنهما وضمهما إلي أوزاره الإبداعية الأخري في الرف الخاص بالعصابة المغاربية بمكتبتي المتواضعة. ومنذ مباشرة النصوص الأولي للمجموعة، سيتفطن القاريء النبيه، أنه إزاء كاتب محنك ومراوغ، ولا ينساب في جدول واحد أو منتظم، فهو يغير أدواته وتقنياته وأسلوبه من نص إلي نص، وخلال ثماني عشرة حكاية، هي مجموع نصوص المجموعة، نجده يستزف ويجرب أغلب أدوات النثر وفنونه، من التداعي إلي الهذيان إلي التراسل إلي تدوين الملاحظات إلي التجريد والتهويم إلي التكثيف إلي تعمد التمطيط إلي الحوار إلي الاستشهاد بالمعلومة ورؤوس الأقلام والركون إلي الحاشية لتأطير المتن إلي التصدير إلي الاسترسال إلي التدوير واعتماد تقنية الدائرة اللولبية في الإحاطة بتفاصيل المؤامرة وغيرها من الطرق المتقاطعة حينا والمتوازية حينا آخر، حتي ليبدو وكأنه يجرب تثبيت كوم من الحجارة الملونة الصغيرة في مكانها بلوحة فسيفساء لا تستوي كاملة إلا مع وضع الحجارة الأخيرة مكانها قبل طي ورقة الغلاف الأولي علي الورقة الأخيرة. فالنصوص تقرأ مفردة، مستقلة وتقرأ أيضا متجمعة كنسيج واحد في آن.. ففي القصة الأولي (ثرثرة بالأبيض فقط) التي تتصدر نصوص المجموعة، يبدأ المشهد من حيث من المفروض أنه أوشك علي الانتهاء فتبدأ بجملة علي لسان البطلة تعلن أنها استوفت صبرها وتهدد ضمنيا بالانسحاب (.... أوف.. لقد بدأت أنزعج.. سأنسحب إذا بقيت علي هذه الحال..) وقد يبدو الأمر طبيعياً ومألوفا، أن تبدأ القصة بهذا الخطاب الموجه إلي شخص مقابل لم نتعرف إليه بعد، ولكن الأمر يزداد غموضا وروعة في آن، حين يتأخر الإعلان عن وجود الشخص المقابل الذي لا يتكلم ولا يبادلها الحديث ولا يستجيب، لنكتشف في النهاية أنه شخص وهمي ومختلق وأن الفتاة تهذي وتكلم نفسها وتعترف لجليس وهمي بمغامراتها وإحساسها وتجاربها بل تشير إلي شخوص أخري تجلس في البار وتشاركهما حلاوة الثرثرة ومرارة الصمت.. لا شيء أكثر من الصمت والوهم والهذيان والتداعي.. شابة خانها الدمع فأجهشت بالضحك وخنقها الصمت والوحدة ففاضت ونادمت نفسها لتحلية بعض مر هذا الصمت القاتل.. ولنا أن نستنتج، وهذا مشروع، أنها لم تكن وحيدة تماما كما استخلصنا بعد قراءة نهاية الحكاية، فهناك ضمير كان حاضرا علي الدوام وطيلة الوقت، ولم يشر له الكاتب ولا الفتاة.. أظن أن هذا الشخص هو الكاتب نفسه مشاركا ومحرضا علي تصاعد وتيرة التوتر لتفتيت وتعطيل تجمع وتراكم كريات الموت المتسلل عبر السكون والصمت المتربص بأحد شخوصه. وفي نص (من يصدق الرسائل) يصل الكاتب بالأمر إلي أقصي جذوته ومعانيه، حين يحبك خيوط سيناريو لجريمة محتملة، يورط فيها الراوي نفسه ويشرك فيها حبيباته المفترضات عبر صناديق بريد افتراضية، فيبدأ بالإعلان عن جريمة قتل اقترفها ويعترف بتفاصيلها لحبيبته هند. وفي الرسالة الثانية التي يوجهها إلي حبيبته نوال يؤكد لها أنه أوقع هند في الفخ وأنه أقنعها بأنها شريكته في الجريمة وبالتالي فقد تخلصا منها نهائيا ليخلو لهما الجو بدون إزعاج أو رقابة. ثم يوجه رسالته الثالثة إلي حبيبته مني ويعلمها بأن حبيبته الأولي تظن أنها شريكة في جريمة وأن حبيبته الثانية تعتقد بأنه تخلص من حبيبته الثانية.. وهكذا تتعاقب الرسائل، وكل رسالة تنسخ ما سبقها ليوقع القارئ في متاهة لا نهاية لها، لنكتشف في النهاية أن الحكاية كلها اختلاق وتضليل، ولكن يذكرنا هذا بمسرحيات وتداعيات أوجين يونسكو وصموائيل بيكيت. أنه أحد أجمل وأعمق أبواب العبثية حين تصور ما يعصف بالشخوص من قلق وتوتر وضياع وخراب عظيم يهرع منه إلي اختلاق الأنس الوهمي ويخلع معطفه لنديم وهمي يتدفأ في ضلوعه ويقاسمه الوحدة والفراغ الخانق الرهيب المدمر للروح. ويخاتلنا الكاتب من جديد في نص (لا تصدقوا يوسف) بشكل لا أذكر أنني قرأت له مثيلا في الأدب العربي علي الإطلاق، وذلك حين يستحضر نصا جاهزا، وهو رواية (القلوب البيضاء) ليوسف القعيد ويحاورها عبر قاريء يقدم نفسه علي أنه مجرد هاو غير محترف، وأنه عاشق للشعر وتشده الروايات المتينة بين الحين والحين.. وبما أن رواية يوسف القعيد مملة وباردة، فهو يكمل قراءتها بسادية من فرغ من نفسه وما عاد يعنيه من الدنيا أي متعة، بما في ذلك متعة القراءة.. ولكنه وبشكل مفاجيء تماما، يزوغ عن كل توقع ويخرج من الميت حيا، ويعيد ترتيب الأمر كما ينبغي له أن يكون،فتخرج بطلة الرواية وتنفض عن نفسها جبال الثلج والبثور وتمرق مرحة فاتنة تتلظي في نص مواز وبديل وأظن أنني لم أقرأ بعد نقدا لاذعا واحتجاجا من قارئ أو ناقد علي فائض الرتابة والملل في نص قرأه بهذا الشكل الطازج الألمعي غير المسبوق فكأنما هو ينسف تمثالا ليسحقه ويكور عجينته ليشكله من جديد. الأبواب في مجموعة (فرح البنات بالمطر الخفيف) للكاتب ياسين عدنان مفتوحة إلي النصف، فهي أشبه باقتراف محاولة انتحار في متن النص وفضائه، يحرص الراوي علي أن يكون سرياً، ولكنه بالرغم من كل حرصه يصل وبقوة في شكل احتجاج وانعتاق من ضيق الجدران والتصنيف.. من هنا يبدأ الشعر في المجموعة.. حين يراوغ النقاد المفترضين في لجنة التصنيف ويعبث بمحتويات حقيبتهم الجلدية المهترئة وبركار دوائرهم الصارمة.. الشعر في المجموعة يبدأ منذ اللحظة التي يعلن فيها بأن البنات اللواتي سيولدن لا ريب بعد قليل وسيطرقن أبواب الربيع في قلوبنا الحليب، لن يتحملن منظر كل هذه الجثث وهذا البثور في الحديقة الحديقة الخضراء، حيث الأرجوحة نداء والشمس نداء والهواء نداء واللون نداء وصوت جلجلة الضحكة البريئة الصافية يسوط جلده وجه الكآبة وإنذارات الموت المحشوة علي عجل في كل كان.