أثناء بحثي في الماجستير والدكتوراه، مكثت طويلا في أجواء الفترة التي كانت تموج بالتيارات الثورية، بكل أطيافها المتعارضة والمؤتلفة والمختلفة، فترة الأربعينيات، وما قبلها بكثير وما بعدها بقليل، كمهاد اجتماعي وسياسي للموضوع الثقافي والنقدي الذي أبحث عن جذوره، ولا نمو بدون جذور. كلها، وإن تفاوتت، كانت تنضوي لواء المقاومة، مقاومة الاستعمار البريطاني، ومقاومة التغريب، ومقاومة تهديد الهوية، والتشبث بعظمة الروح المصرية، مقاومة حمل راياتها كتاب ومفكرون وعلماء ومصلحون وأدباء وشعراء وفنانون، في ابداعاتهم العلنية والرمزية، في خلاياهم التي كانت تعمل تحت الأرض، وفي تنظيماتهم التي اتخذت الشكل الجماعي او الفردي، أشخاص ورموز وعلامات وبالفكر هم يقاومون. يموت الشخص وتبقي شخصيته بفكرها وأثرها وتأثيرها لتخترق الزمان والمكان والإنسان، إذا كانت تمتلك القوة الناعمة التي هي أقوي وأشد من أية قوة أخري، والمبدعون والمفكرون والمصلحون، والمثقفون عموما، هم من تتمثل فيهم هذه الثروة والثورة والقوة والمنعة ضد مفاصل الأيام، فكل التحولات الكبري في التاريخ تمت علي أيدي المفكرين والمصلحين، ومن ثم يحق لكل شعب أن يفخر بمثقفيه ومبدعيه وعلمائه، فهم الأقوي أثرا، والأبقي فكرا، والأطول عمرا. وإذا كانت شخصية المثقف تمثل دورا أو وظيفة، وليست صفة، فعندما تذهب الوظيفة قد تذهب الصفة، لاسيما أن المثقف يقوم بدور لم يكلفه به أحد ،فإن هذا الدور لايمكن اختزاله ببساطة الي وظيفة لا وجه لها، فهو فرد منح قدرة علي تمثيل رسالة, أو وجهة نظر او موقف او فلسفة او رأي، وتجسيدها والنطق بها امام جمهور معين ومن اجله, فالمثقفون عموما يقفون علي الخشبة ليشهدوا (بالحقيقة) أمام الناس، طبقا للمفكر إدوارد سعيد ، في كتابه (تمثيلات المثقف). في ضياء هذه الرؤية، وذلك المكوث في تلك الفترة، أستدعيت ملامح من دور المصلح والمفكر الإمام حسن البنا الذي تتجلي، هذه الأيام، ذكراه الرابعة والستون (14 أكتوبر 1906- 12 فبراير 1949) : ماذا يبقي من هذا الرجل الداعية والمؤسس والمصلح وأحد مصابيح التنوير والإستنارة ذات الوجه الإسلامي المشع بالثقافة العميقة، والدال علي تحقيق ثنائية الأصالة والمعاصرة؟ أستقطر- في السياق الثقافي فقط- بعضا من تجليات وشرائح فكر ووجدان هذا المصلح الاجتماعي والديني، بعد أن تخلصت من التباسات الواقع السياسي والاجتماعي الذي تخلقت فيه، وبقي الجوهري والأصيل، المحمل بروح وجذور الثقافية الإنسانية، ضمن منظومة قائمة علي ثنائية غير متعارضة بين الدين والدنيا، والعلم والعمل، والأنا والآخر إن شخصية الإمام حسن البنا بها الكثير من المرايا المتجاورة والمتحاورة، حتي ليصعب الفصل بينها، نظرا لتشابكها وتداخل الديني في الثقافي في الاجتماعي في السياسي في الإنساني، وكلها تشكلت في مرحلة تاريخية قلقة وذات قوام اجتماعي سائل، مرحلة كان البحث عن الذات هو عنوانها الرئيسي الذي شغل المفكرين والأدباء والكتاب آنذاك، وبالتحديد فترة ما بين الحربين العالميتين وما بعدهما، حتي غروب النصف الأول وشروق النصف الثاني من القرن العشرين. أتوقف قليلا تحت ظلال هذه الشجرة، التي يمثلها حسن البنا، بنسقه الفكري الصافي وجدلياته الثقافية التي ارتكزت علي الحسني مع من اختلف معهم، ولعل كلمة عميد الأدب العربي د. طه حسين التي علق بها علي انتقاد حسن البنا لكتابه الشهير (مستقبل الثقافة في مصر) عام 1938 تكثف ملمحا جليا اذ قال (يا ليت أعدائي مثل حسن البنا) الي جانب ذلك كان البنا يقاوم بثوريته الفكرية الشبهات التي كانت ولا تزال ضد الدين، وشكلت معاركه التي خاضها منذ تخرجه في كلية دار العلوم عام 1927 وهو ملمح من ملامح و معالم المشروع الحضاري في فكر الإمام الشهيد حسن البنا كما يذكر الدكتور محمد عمارة، ذلك المشروع الذي بدأ علي يد جمال الدين الأفغاني حركة تجديد واجتهاد وإحياء، تستهدف تحرير العقل المسلم من أغلال الجمود والتقليد، ليتمكن من مواجهة التحدي الحضاري الغربي، الذي اقتحم حياتنا الفكرية وواقعنا الإسلامي في ركاب الغزوة الاستعمارية الأوروبية الحديثة، فكان بمثابة حل عقد الأوهام عن قوائم العقول. أين أنتم يا فلاسفة وزعماء العصر من هذه القضية؟ ذلكم سؤال استنكاري قبل أن يكون استفهاميا: ألقاه حسن البنا، فأين خطوات زعماء هذا العصر وساسته وعلمائه ومشرعيه وفلاسفته من هذه النظرات وماذا صنعوا لإقرار السلام علي الأرض وقد شهدت الدنيا في ربع قرن حربين عالميتين طاحنتين أكلتا الأخضر واليابس وقامت بعد الحرب الأولي اعصبة الأممب لإقرار السلام فكتب لها أن تموت قبل أن تولد، ووأدها الذين شهدوا مولدها، بالأهواء السياسية والأطماع الاستعمارية فلم تستطع أن تعالج قضية واحدة من قضايا الخلاف بين الأمم التي اشتركت فيها ووقعت ميثاقها، ولم تلبث إلا ريثما تهيأت الأمم والشعوب للحرب من جديد، وقيل إن سبب فشلها خلو ميثاقها من النص علي العقوبة العسكرية للمخالفين.وعقب الحرب العالمية الثانية قامت هيئة الأممالمتحدة وأنشئ مجلس الأمن واستكمل النقص التشريعي في بناء عصبة الأمم الموءودة ومضي علي ذلك وقت طويل، ومازال الخلاف يشتد أثره ويقوي مظهره، ولم تنجح الهيئة ولا المجلس إلي الآن في علاج قضية أو تسوية خلاف، وليس وراء ذلك إلا الحرب الثالثة.وليس معني الحرب إلا فناء الأرض ومن عليها فنحن في عصر القنبلة الذرية.فهل تفيء الإنسانية الحيري إلي الله؟ وتتلقي دروس السلام قلبيا ونظريا وعمليا عن الإسلام؟ دين المرحمة ودين السلام؟. أتصور أن هذا السؤال لا يزال يبحث عن إجابة، وسيظل...فهل من مدكر؟. (تأليف الرجال).. عبارة استقطبتني، بما تحمله من رؤية عميقة وبسيطة معا، استعيدها، حين طلب كثير من الناس الغيورين من الإمام البنا أن يؤلف كتبا يودعها ما عنده من معارف بهرت عقول كبار العلماء، فكان رده عليهم: (أنا لا أؤلف كتبا، وإنما مهمتي أن أؤلف رجالا.. أقذف بالرجل منهم في بلد فيحييه) فالرجل منهم كتاب حي ينتقل إلي الناس، ويقتحم عليهم عقولهم وقلوبهم، ويبثهم كل ما في قلبه ونفسه وعقله، ويؤلف منهم رجالا كما ألف هو من قبل). كنت أعد ملفا في سلسلة (ملفات التنوير ) التي كنت أنشرها في (أخبار اليوم) قبل عام مضي، وعثرت في الذاكرة علي ورقة لم تصفر سطورها الفكرية مع الأيام: في يوم من أيام صيف عام 1945 تصادف أن التقي الفنان أنور وجدي مع الإمام حسن البنا في البنك العربي وجلس علي مقعد مجاور للإمام قال له : أنا أنور وجدي، والمشخصاتي يعني الممثل، طبعا أنتم تنظرون إلينا ككفرة نرتكب المعاصي كل يوم في حين أني والله أقرأ القرآن وأصلي كلما كان ذلك مستطاعا . قال له الإمام : يا أخ أنور أنتم لستم كفرة ولا عصاة بحكم عملكم ، فالتمثيل ليس حراما في حد ذاته ، ولكنه حرام إذا كان موضوعه حراما، وأنت وإخوانك الممثلون تستطيعون أن تقدموا خدمة عظمي للإسلام إذا عملتم علي إنتاج أفلام أو مسرحيات تدعو الي مكارم الأخلاق ، بل إنكم تكونون أكثر قدرة علي نشر الدعوة الإسلامية من كثير الوعاظ وأئمة المساجد ، إني أرحب بك وآمل أن تحضر لزيارتنا بدار الإخوان المسلمين بالحلمية الجديدة لنتبادل الرأي حول ما يمكن أن تسهموا به في نشر الفضيلة والدعوة إلي الله،) وعندما سمع أنور وجدي هذا الرد الجميل من الإمام البنا بكي وقبل رأسه، بعدها رأينا لأنور وجدي (ليلي بنت الفقراء ) . ومضة تفيض بدلالات لم يصل إليها إلا من يمتلك نفسا تفكر، وعقلا يحس، تشف عن تعادلية في الرؤية والأداة، لدي الإمام حسن البنا، مضمونها أن الصلاة تجمع بين محاسن النظم الفكرية الثلاثة: الشيوعية والدكتاتورية والديمقراطية! قلت ذات مرة مداعبا للسامعين في إحدي المحاضرات: إن هذه الصلاة الإسلامية التي نؤديها في اليوم خمس مرات ليست إلا تدريبا يوميا علي نظام اجتماعي عملي، امتزجت فيه محاسن النظام الشيوعي بمحاسن النظام الديمقراطي بمحاسن النظام الدكتاتوري، فعجبوا وقالوا: كيف كان ذلك؟ فقلت: أفضل ما في النظام الشيوعي من حسنات تدعيم معني المساواة والقضاء علي الفوارق والطبقات، ومحاربة الاعتزاز بالملكية التي يكون عنها هذا التفاوت، وهذه المعاني كلها يستحضرها المسلم ويشعر بها تماما، وتتركز في نفسه إذا دخل المسجد لأنه يستشعر لأول دخوله أن هذا المسجد لله، لا لأحد من خلقه، وأنه سواء العاكف فيه والباد، لا صغير فيه ولا كبير ولا أمير ولا حقير ولا فوارق ولا طبقات، فإذا صاح المؤذن: (قد قامت الصلاة.. قد قامت الصلاة)، استوي هذا الجمع خلف إمامه كالبنيان المرصوص، فلا يركع أحد حتي يركع الإمام ولا يسجد حتي يسجد ولا يأتي بحركة أو سكون إلا تابعا له ومقتديا به ومقلدا إياه، وهذا هو أفضل ما في النظام الدكتاتوري: الوحدة والنظام في الإرادة والمظهر علي السواء، ولكن هذا الإمام مقيد هو نفسه بتعاليم الصلاة ودستورها، فإذا انحرف أو أخطأ في تلاوة أو عمل كان للصبي الصغير وللرجل الكبير وللمرأة المصلية خلفه، كان لكل واحد من هؤلاء الحق كل الحق أن ينبهه إلي خطئه وأن يرده، إلي الصواب في أثناء الصلاة، وكان علي الإمام كائنا من كان أن ينزل علي هذا الإرشاد وأن يعدل عن خطئه إلي الحق والصواب، وليس في الديمقراطية أروع من هذه الحسنات.فماذا بقي بعد ذلك لهذه النظم من فضل علي الإسلام؟ وقد جمع محاسنها جميعا واتقي بهذا المزج البديع كل ما فيها من سيئات. بشمسك والضحي والليل حتي مطلع الفجرِ، بحق الشفع والوترِ، بحق العرش والكرسي واللوح ، بحق النور والروح ، برحمتك التي سبقت لظي غضبكْ ! بوجهك أنت أنت الله لاغيركْ ! أتوق إلي السبيل ، الي الدليل ، الي البريق ، الي الطريق .. فعلمني الوسيلة والطريقة .. وهب لي الحق ياربي وصولا للحقيقة.. إلهي .. خالقي .. ربي .. واًه لو تبل شغاف قلبي ، قطرة من فيض رحماتك ! إلهي .. لو تدثرني بمس من عطاءاتك وآه .. لو تعيد خلقي وتكويني فتكويني تباشير الرضا عني وتقذفني بيَم ليس يلقيني إلي شاطيء !! أطَهرُ نفسيَ الصدئة .. أجلِّي وجه مرآتي .. يباشر قلبي المكلوم تنوير .. وتجديد.. وتحديد .. أري الأشياء دون هوي ولا فتنة أعوذ بمن ؟ ألوذ بمن ؟! ومنك المن ،أنت الملتجا، والمرتجي، والأمن أتوق لمن ؟ أأبحث عن.. سماءٍ غير ؟ أرضٍ غير ؟ رب غير ؟ وما مثلك ..ولا غيركْ ..ولا .. إلاكَ أنتَ الله .. !!أنتَ الله .. !!أنتَ الله ..