د.عبد الغفار مكاوى الدكتور عبدالغفار مكاوي باحث وعالم جليل.. عمل أستاذاً للفلسفة بجامعات القاهرة وصنعاء والكويت.. كتب القصة والمسرحية وله دراسات وترجمات عديدة في الفلسفة العربية القديمة والحديثة والمعاصرة وفي الأدب الألماني الحديث. من أهم مجموعاته القصصية "أحزان عازف الكمان" الصادرة عن دار شرقيات.. وهي التي نحاول من خلالها التعرف علي ملامح الإبداع القصصي عند الدكتور عبدالغفار مكاوي باعتبارها العمل الأشهر والأهم بين مجموعات الكاتب القصصية. هناك مدخل هام لايجب إغفاله ونحن نقترب من عتبات النص القصصي في هذه المجموعة.. وعلي اعتبار أن العمل الفني جزء لايتجزأ عن شخصية مؤلفه. فمن خلال علاقتي الوثيقة الممتدة لأكثر من ثلاثين عاماً بالدكتور مكاوي والتي كان سبباً في نشأتها الكاتب الأصيل ضياء الشرقاوي رحمه الله، حيث كانت تجمعنا لقاءات حميمة وثرية بالنقاش والحوار والمناظرة في مجال الواقع وقتها. ومن خلال هذه العلاقة المتصلة وضعت يدي علي أهم ملامح شخصية الدكتور مكاوي.. تلك التي توثقت فنيا وتحققت إبداعياً من خلال مجموعته القصصية "أحزان عازف الكمان" باعتبارها ذلك الجزء الذي لايتجزأ من شخصية المؤلف. الملمح الأول... إخلاص الكاتب الشديد لمادة الفلسفة دارساً وباحثاً ومؤلفاً.. وبرغم أنه كان يمتهن حرفة التدريس في الجامعة ويعايشها طيلة أوقاته، إلا أن الدكتور مكاوي كان عاشقاً متفانياً في هذه المادة، يتعامل معها بحب متأصل ويتغزل في طاعتها بكل الهيام والإخلاص.. ومن هنا تبلورت شخصية العالم الفيلسوف وسيطرت علي فكر ووجدان المبدع عبدالغفار مكاوي. كيف أثر هذا التكوين الفلسفي علي الإبداع الفني في مجموعة "أحزان عازف الكمان"؟ لقد ظهر ذلك واضحاً علي طريقة البناء الفني لمعظم قصصه القصيرة.. حيث تقوم دعائم هذا البناء علي منهج التحليل النفسي والافتراضي والاستنباطي والقياسي.. وأيضاً منهج استلهام الأساطير والنظريات الفلسفية.. وقد ذكر المؤلف ذلك في هامش مجموعته القصصية متمثلا قصة "إيكاروس" التي تحمل تنويعات علي أسطورة إيكاروس وعلي لوحة "بروجيل الكبير" عن سقطة إيكاروس.. ومتمثلاً ذلك أيضاً في قصة "نقل دم" حيث وضح أن بداية ونهاية القصة متأثرتان برائعة "البير كامي" الروائية وهي "السقطة".. كما ظهر ذلك البناء الفني في لجوء الكاتب لطريقة الحلقات المستقلة المتداخلة في نفس الوقت لتكوين السلسلة السردية.. حيث يبدأ قصته "اللحظة الضائعة" بشخصية الأيوبي، الشاعر العاشق الفيلسوف.. والذي يوصلنا لشخصية صبرية فرحات القديسة السمراء أو الفحمة الطيبة.. والتي توصلنا في النهاية إلي شخصية بطلة القصة نعمة المرواني، الألماسة الناصعة التي تحولت في نظر "الراوي" إلي إنسانة منفرة ودميمة بعد أن مات عنها زوجها، وتقدمت في السن، وبذلك نري هذا "الراوي" في حالة رفض مطلق لعملية التحول البيولوجي التي وصلت إليه الحبيبة القديمة.. أيضا نجد هذا المنهج في البناء مسيطراً علي تناول قصتي "تائهة علي الصراط" الجزئين الأول والثاني. حيث نتعرف علي علاقة الابنة بأمها المريضة، الغائبة في عالمها الصامت، المراقب عن بعد تصرفات الأولاد والأهل والجيران والأطباء الخ.. ومدي الجحود والنكران الذي يشل حركتها ويعقد لسانها. كل هذا في الجزء الأول.. ثم يأتي الجزء الثاني بالصوت الثاني الناطق بلسان الأم المريضة يتناول العلاقة بين هذه الأم والجدة التي ماتت من زمن.. وهكذا تتوالي الأحداث في حلقات تشكل دراما هذه الأسرة.. مقارنة بين معاملة "عالية" لأمها وهي تحتضر، ومعاملة ابنتها لها وهي مريضة علي فراش الموت.. جاء علي لسانها ص 118. "وتتم المعجزة مرة أخري فتخرج الحروف من الحبس الطويل تقترب من بعضها وتتلاقي وتتعانق ثم تنطلق فجأة كمواء القطة العجوز التي رأيتها بعيني الأخري في الكابوس.. محمووووود.. تعال يا حبيبي.. الديك صحا وصحا.. تعال يا ولدي وخذ بيدي.. تعال.. تعال" الملمح الثاني.. مسحة الشجن والحزن في قصص المجموعة.. حيث يسيطر هذا الملمح علي كل القصص بلا استثناء.. وبدءا من عنوان المجموعة "أحزان عازف الكمان" إلي عناوين بعض القصص "أحزان الكهل الطيب". كما يقول "الراوي" علي لسان البطل صراحة في قصة الزلزال ص 14: "لا أريد أن يزيد شعوري بالذنب ورغبتي التي تعرفها في تعذيب الذات". وهذا القول جاء بمثابة الاعتراف التلقائي من صديق لأعز أصدقائه بعد أن عاش كل منهما في عالم مختلف عن الآخر. وجاء أيضا علي لسان البطل في قصة "يا بشر الحافي لم خرجت؟!" ص 24. تركت الغاب لوحوش الغاب.. احترقت شجرة أيامي لصواعقها، وتمزق لحمي من أنياب ذئابها وكلابها، لكنني صبرت، علمت وحدثت وناديت ودونت وخاطبت ووعظت حتي شاب الشعر وتساقطت الأسنان وماتت أيام العمر". والمقتربون من شخصية الدكتور مكاوي يستشعرون نفس المعاناة التي لازمته زمنا وتركت علي شخصيته مسحة الحزن والإحباط والعزلة والثورة في بعض الأحيان، كما فلعت ببشر الحافي.. في تنويعات من قصيدته الخالدة من يوميات الصوفي بشر الحافي، في ديوانه "أحلام الفارس القديم". وفي قصة "أحزان الكهل الطيب" لانشك لحظة في أن هذا البطل.. الكهل الطيب.. هو بذاته نفس الشخصية التي تتقمص شخصية عبدالغفار مكاوي.. وقد تقدم به العمر وناءت رفوف مكتبته بالكتب والأوراق والأفكار وأتربة السنين.. يقول في ص 237 علي لسان ضمير المخاطب: "سار علي مهل فوق الأوراق الذابلة كأنها تذكره بأوراق عمره المنقضي، أو بآلاف الأوراق التي سودها خلال ما يقرب من أربعين سنة، ولابد أنها الآن تتعفن أو ترتجف من برد الوحدة والصمت والظلام، في كتب مهجورة علي الرفوف، أو في المخازن المعتمة السوداء. كان قصير القامة، ميالا إلي السمنة، وجهه الطفلي الأبيض المستدير، تتوجه قمة بيضاء مشعثه تخلو من شعره واحدة سوداء. وهكذا رسم الكاتب شخصيته أيضا من الخارج كأصدق رسام أو مصور فنان! الملمح الثالث... الوفاء الشديد للأصدقاء. يعتبر الدكتور عبدالغفار مكاوي المثل الصادق والنموذجي للإنسان النقي، المتعاطف لدرجة المثالية في علاقته بالصديق، المستنكر لحد القهر حين الاصطدام بمبادرة خيانة أو غدر أو نكران للجميل من أحد الأصدقاء.. فالوفاء في كينونته مجري الدم من الجسد الحي. نلاحظ منذ تجاوز الغلاف لهذه المجموعة أنها مهداة إلي صديقه الحبيب عبدالرحمن فهمي.. وفي كلمات نابضة بالصدق والإخلاص. "لم يمهلك الأجل حتي أهديك هذا الكتاب يدا بيد.. ليتك تقبله الآن من روح إلي روح". وفي قصة "الزلزال" نجدها تدور في فلك البوح يمكنون التعاطف بين صديقين افترقا من زمن.. وبرغم ذلك فهناك الرباط الوثيق الذي يربطهما حتي في لحظات الغربة والإحساس بقدوم الموت الذي لا مفر منه، وتوجس لحظات الزلزال التي تنذر بالنهاية المحتومة. وهذا البوح لايجد طريقاً إلا عن طريق المراسلة، عن طريق الخطاب الذي يبعثه الصديق الميت منذ زمن يذكره بالتنبؤ بوقوع الزلزال، ويؤكد إخلاصه واشتياقه لوجه هذا الصديق وعينيه وصوته وضحكته وشفقته. وفي قصة "الكراسي" أيضاً نجد البطولة تدور في سياق اللقاء الحميم بين الصديقين، أحدهما يعاني سكرات الموت والآخر يلازمه مواسيا ومتعاطفاً مع ذكريات قديمة جمعتها وأوثقت العلاقة بينهما وهما يعملان معا في كواليس المسرح. وبشكل عام نلاحظ أن كل قصص المجموعة مهداة إلي أصدقاء الكاتب أو إلي أرواحهم.. فقصة "الزلزال" كتبت في الذكري الخامسة عشرة لرحيل الشاعر صلاح عبدالصبور... وقصة "تائهة علي الصراط" (1، 2) مهداة إلي روح أستاذه وصديقه الدكتور شكري عياد.. وقصة "نقل دم" مهداة إلي روح أستاذه وأخيه وصديقه الحبيب الدكتور مصطفي مندور. وأخيرا.. فإن لغة الكاتب في هذه المجموعة نجدها متدفقة وثرية بالمفردات الحية النابضة.. وإن جنح تيار الأسلوب من الكاتب في بعض الأماكن للمناطق الوعرة..!