د. حسام عقل أفرزت اختلاجات الحركة الشَّعرية المصريّة، في العقد الأخير، حزمة جليلة من الظَّواهر والتجارب والرموز. وقد آذنت موجات التدافع الشعري المواري في قالبيها الغنائي والدرامي، بتخليق المشهد الجديد لقصيدة (ما بعد الميدان) بعد مخاض جهيد ومعركة مفتوحة فرضها سدنة الهيكل أو بالأدق عتاة (الحرس القديم)، شعراً ونقداً! وقد كان (محمد منصور) بألق تجاربه البهية وتميزها المعجمي والبنائي، واحداً من مفرزات هذا الحراك النوعي المثير الذي حاربت القلعة (الستينية)، بضراوة، كي لا تتحرر له شهادة الميلاد! بيد أن تحولات ما بعد ثورة يناير وإزاحاتها الغائرة التي عصفت بتوازنات العقود الثلاثة الماضية قد فصلت، في خاتمة الأمر، بالكلمة الأخيرة. ويواجهنا »محمد منصور« في ديوانه الجديد »السفر في الأسود« (وعد ط1/2010) بجملة من تجليات التجريب الشعري الشائق، قالباً وأسلوباً. فبأكثر من وجه من الوجوه الجمالية، سبح »منصور« ابن سيناء ضد التيار، فحيث اتجهت أكثر التجارب الشّعرية الأخيرة لقصيدة الومضة اختزالاً للمساحة اللغوية، عاد بنا زمنصورس مجدداً إلي القصيدة الممتدة ذات النفس الملحمي (الماموثي)! وحيث آثرت الكثرة المطلقة من شعراء الألفية الميلادية الثالثة فكرة المجموعة الشعرية أو الديوان ذي القصائد المتعددة، فضل ابن سيناء إيثار القالب النادر المقابل ممثلاً في ديوان (القصيدة الواحدة)، فخرج ديوانه أو قصيدته الواحدة فيما يشارف المائتي صفحة، خلافاً للمتوقع مع صعود أدب المدونات بطابعه الكابسولي الغالب! وحيث أوغل أكثر شعراء الموجة الأخيرة في بتر الخيوط (أو علي الأقل إرخائها بقوة) مع الأبنية الكلاسيكية في الأدب العالمي، كأبنية الفردوس المفقود (لميلتون) أو شاهنامة الفردوسي، مثالاً لا حصراً، فضل زمنصورس بدهاء أن يناور هذه الأبنية الملحمية المهيبة بنمط طازج من (العصرنة) أو الحسّ الحداثي الجديد، فاختار الدّرب الأكثر وعورة. خرجت القصيدة مسربلة ببنية الارتحال، بالمعني الأوسع للكلمة، إيغالاً في الزمان، وامتداداً في المكان، بصورة ملحمية طافحة بالنضال لا تعبأ بمخاطر الطريق. ولا أدل علي هذا الروح الجسور من أن تختار الذات المرتحلة أن يرافقها في مستهل رحلتها (ذئب) تأنس به وتروضه: زإني تعلمت حب الظلام/من الذئب/والذئب/لم يتعلم مهادنة الضوء منيس (الديوان ص 10) والإشارة واضحة بأن هذه (الذئبية) ضرورة في محيط إنساني لا يحترم الحملان عادة! اتكأت الذات الشاعرة علي تكنيك المفارقة طول الوقت جمعاً بين (القرب) و (البعد) و (الضيق) و (الرحابة) وكل الأضداد التي أمكن حشدها في تعاريج التجربة. وراوحت التجربة في نفسها الملحمي المدهش، بين الهدف (الفردي) ممثلاً في نيل المعشوقة المشتهاة التي زتدلك جبهتها بالحياءس (الديوان ص 82) لتكون غنيمة الرحلة، وبين زالهدف الجماعيس ممثلاً في (الشاة) التي تبذل من نفسها زطعاماً للصغارس (ص 13) أو تناغي زشوق الجياع إلي الأرغفةس (ص 19). ولم تخل التجربة من حسّ علويّ معراجيّ، طافح بصبوات المواجيد الصوفية، علي نحو ما بدا في الإشارة إلي زقلب المريدينس ليصبح المرتحل زبسطاميس جديداً ذائباً في مكابداته! وبرعت التجربة في توظيف قوالب التّناصّ مع الأنساق والأبنية القرآنّية علي ما بدا في صورة زطوفان نوحس حيث زيطغي ماء القصيدةس (ص 32) أو النفخ في أشلاء الطير وبقاياه ليصير زطيراً كامل التكوين (ص 40) وفي لحظة أسطورية مثيرة انشق النص طباعياً إلي نصين ينطرحان، بصرياً، علي فضاء الصفحة ويتجادلان أحدهما ببنط زكثيفس والآخر ببنط (خفيف)، لتصبح القصيدة في النهاية عصفاً بركانياً لا يرتقي المشهد فيه إلا زيقين الشعرس حيث أثبت زمنصورس لذاته ولنا أن المشهد الشعري ليس بهذه الخفة التي تصورها بعض الأغرار!