-1- منذ قرنين من الزمان كان صدور هذا الكتاب الشعبي مطبوعا ومنشوراً بين المصريين كتبه واحد من شيوخ الأزهر الأجلاء.. وهو كما ورد علي غلاف الكتاب فوق اسمه »العبد الفقير إلي الله تعالي يوسف بن محمد بن عبدالجواد بن خضر الشربيني« الملقب »بالعلامة الشيخ« أما عنوان الكتاب - كما جاء علي صدر غلافه المطبوع 1308ه فهو.. (هز القحوف في شرح قصيد الشيخ أبي شادوف« وهز القحوف - قبل القراءة وأثنائها عند الأزهريين - معناه هز الرءوس فكلمة (قحف) تعني في الريف المصري (القفا) وهو ما يعني الظهر حتي الرأس. -2- قيل عن هذا الكتاب - بعد صدوره - كلام كثير.. ولم يقل عنه كلام مفيد حتي يومنا هذا.. ربما لأن طريقة طباعته علي الحجر (في المطبعة الأميرية) تسببت في تعسر قراءته، فكلامه مصبوب صبا بلا فواصل أو علامات ترقيم أو أوائل فقرات، متداخل فيه الشعر والفكر، حيث يوضع الشعر متصل الكلمات كما في النثر.. ولذا فإنه يحتاج - من قارئه - صبرا طويلا علي القراءة.. مثله مثل غيره من كتبنا القديمة التي صدرت مبكرا بعد ظهور الطباعة في أوائل العصر الحديث. -3- تعود أهمية (هز القحوف) لكونه أول وثيقة أدبية تشهد علي بكارة التيار الواقعي في الأدب العربي الحديث (بمصر) ففيها نري الواقع المصري الشعبي في الريف بأسلوب أدبي شديد الوضوح تعلو فيه نبرة السخرية والتهكم والفكاهة - من الواقع الأليم الذي كان فلاحونا يعيشونه فيما قبل ثورة يوليو 1952 في ظل أبشع أشكال الاقطاع الزراعي. تعلو - في معظم صفحات الكتاب درجة توظيف السخرية والتهكم والفكاهة لتصل إلي التضخيم في الحالة المصورة أدبيا بشكل مبالغ فيه فيتحول النص - والكتاب جزءان - إلي نص (كاريكاتيري) جميل. -4 - ففي أسلوبه (مفارقة) متعددة المستويات.. تبدأ من بناء الكاتب جملته الأدبية من مستويين لغويين بعيدين. الأول هو توظيف بعض الكلمات الفصيحة القديمة جدا (المتقعرة) مع بعض الكلمات العامية والعبارات الشعبية (المغرقة في شعبيتها) في نسيج فني واحد. والمفارقة الثانية تتأتي في الأسلوب من التوظيف الجيد لكل من العامي والفصيح معاً في سياق عضوي لا تفاوت يلحظ بين وحداته. والثالثة تأتي من توظيف المؤلف لنوعي الشعر العربي في عصره الشعر بالفصحي (العمودي) والشعر بالعامية (الزجل) وكلا نصوصهما من نظم المؤلف ويأتي كل منهما في موضعه المحدد داخل النص الأدبي والرابعة هي التصوير الجيد للمواقف المتناقضة حيث يرد الجليل وغير الجليل معاً - (داخل الأسلوب) في وحدة لا تنفصم عراها. -5- والمدهش في أسلوب هذا الكتاب المؤسس أنه يحمل معارضة قوية لأسلوب الكتابة القديمة في علوم الفقه والمنطق واللغة والنحو والبلاغة والأدب جميعها.. يبدأ المؤلف بحمد الله وبالصلاة علي رسوله الكريم، ثم يقدم متنه أعلي الصفحة يليه الشرح ويمكن أن يضع المؤلف حاشية في الهامش الأيمن من الصفحة لكن الشيخ الشربيني يفعل هذا في بداية الكتاب حيث يسود السجع والجناس ويتقارب الايقاع الموسيقي داخل الجمل وفيما بينها مما يحول أسلوبه في مجمله - قابلا للحفاظ - مع هز القحوف - وهي طريقة (التلقين) التي كانت تساعد الأطفال ثم الشباب من متعلمي الأزهر علي حفظ كل ما يقرأون. يفجر يوسف الشربيني بهذه الطريقة التي عارضها في أسلوب كتابته أول ثورة علي هذا النظام التعليمي العقيم ويؤكد رفضه له وثورته عليه في مقدمة الكتاب.. حيث يقول: »أصرح فيه ببعض نكيتات هزلية، وحكم هبالية، علي سبيل المجون والخلاعة، والدبدبة والصقاعة، حتي يشتهر هذا القصيد من دمياط إلي الصعيد.. وأرجو ألا يخلو منه اقليم ولا بلد من بلاد العبيد«. -6- نحن اذن مع كتاب أدبي شعبي قصد به صاحبه إيقاظ شعبه علي حقيقة الواقع القاسي الذي يعيشه معظم مواطنيه تحت حكم الأجانب المتوالين عليه من مماليك وعثمانيين وحتي الاحتلال البريطاني لمصر.. إن (هز القحوف) دعوة إلي ثورة الفلاحين علي القهر وهو بالضرورة موقف وطني شريف لمثقف مصري شريف ساعد في اشاعة النور الناهض بكل مكان علي أرض مصر.