رغب في استغلال النهار.. والإفادة القصوي من قرص الشمس الذي جاء بطريق الخطأ وأعتلي صدر السماء.. هذه البلاد يتعطل فيها بزوغ الشمس.. تفتقر للدفء.. جليد وصقيع طول العام.. لون جاكته الأسود المبطن بالفراء.. حوله ندف الثلج إلي لون رمادي باهت.. تسللت الشمس هاربة وكأنها أخطأت المدينة فغادرتها.. المطر يغسل البيوت وواجهات المحلات والسيارات والشوارع.. المقهي مزدحم بالرواد.. ربما هربا من المطر.. إلا من طاولة وحيدة إختارته.. فجلس طامعا في بعض دفء.. استأذنته الأربعينية السمراء التي مازالت محتفظة ببقايا جمال.. بالجلوس بطاولته.. فأذن لها.. شكرته بالعربية.. لكنتها غريبة علي سمعه.. أرملة جزائرية تحمل جنسية البلدة طاردة الغرباء.. الفرنسية..لا أبناء لديها تعمل في مكتب سفريات آسيوي.. الإنسان بعد الأربعين يبدأ رحلة العودة.. يشعركل صباح بموت جزء منه.. وعند مشارف النهاية.. يكون قد مات.. يكبرها بسنوات خمس.. يحيا مراقبة أسراب الطيور العائدة من غربتها.. يعيش الغيوم الموحشة.. متسكعاًعلي أبواب المدينة.. ينعي أحزانه وسط أكوام الهشيم وبراري الصقيع.. مطاردا طول الوقت لانه لايحمل إقامة أو جنسية.. الأربعينية هي الأخري تعيش حياة جافة معلبة..لاشيء سوي أصص الزرع التي تتراقص علي شرفتها.. والأحاديث الكثيرة التي تتبادلها مع قطتها وبناتها.. لم تجد في روحها مساحة لعلاقة جديدة.. طالت حسرتها أمام المرآة وهي تري بضع شعيرات بيضاء تغزو رأسها.. هل سيواصل الجفاف إلتهام روحها..؟! إتسعت ابتسامها وهي تستمع لحديثه كلاهما غريب في بلاد غريبة الهم والوحدة حتي الثمالة.. تحملت الكثير من سنوات الفقد الذي عطل كل حياتها.. لأول مرة تستشعر نداوة الهواء في رئتيها.. ثمة شمس تتسلل علي إستحياء .. تشيع الدفء في المكان.. لا أحد يراها غيرهما.. كقطرة مطر فارقت غيمتها.. انتبه علي صوت الجميلة نادلة المقهي وهي تسأله: أتريد قهوة..؟ ولم يحبها.. فقد دوخه عطر الأربعينية النفاذ.. وعيناها البنيتان الشقيتان اللتان سحبتاه نحو الأعماق.. إستقامة أنفها فوق فم صغير مبتسم دوما.. تجبرك علي إحترامها.. راعة منها فيض شبابها المدخر.. المستعصي علي الرحيل.. وتوقد ذهنها.. واقتران الأنوثة بجاذبية الفكر الراجح المتزن العميق.. وفي لجة هذا السعير.. من اللهفة والقلق.. والأمل واليأس.. واللوعة والإضطراب.. والحيرة والشقاء.. أشفق عليها القدر.. وهداهما بصيص من ضياء.. وبسط أمام أعينهما الذاهلة اطواق النجاة.. يغادران المقهي الي مكتب توثيق الزواج.. ومنه إلي مطعم البيتزا الذي يعمل به.. مستأذنا في أجازة زواج.. زملاؤه يشكلون حولهما دائرة بين صفير ورقص وغناء.. ومشاركة رواد المطعم.. وكأنهم في قاعة أفراح.. قدموا له هدية عبارة عن بيتزا فواكهه البحر من الحجم الكبير مع علبة شرائح البطاطس وألفي يورو وأطيب الأمنيات.. في شقتها البسيطة التي تتسم بالذوق الرفيع.. داعبته قطتها المشاغبة التي قفزت نحوه تتوسد ذراعيه .. أين لها بكل هذه المشاعر الطيبة نحو القادم الجديد.. لابد وأنها كيمياء الحب..!! - قالت العروس.. ومع هبوط الليل.. طال أو قصر.. ساء أو حسن.. تولد من رحم المقاهي والشوارع والبيوت.. حكايات جديدة.