الكتابة لدي جمال الغيطاني هي إعادة بناء للذاكرة أو محاولة ترميمها. الكلمات هي وسيلته للبناء، هكذا يستعيد الأب الغائب، أو يعيد بناء مبني احترق مثل المسافر خانه، أو نصوص لم تعد موجودة، أو أغنيات ضاعت في زحمة النسيان، أو ما يسميه هو »ما كان كيف يمكن أن يكون؟» في لحظة أخري! منذ البداية كان هم الغيطاني الرئيسي هو البحث عن صوته الخاص، نبرته التي لا تختلط بالآخرين، بدأ رحلة مجاهدة بحثا عن تلك النبرة الخاصة، وفي الوقت ذاته خصوصية همها التجريب الدائم، لا تستقر إلا لتخرج علي نفسها. عندما أنهي الغيطاني قصته القصيرة »المقشرة»..ذهب بها إلي عبدالفتاح الجمل، أحد القامات الكبيرة في الصحافة والثقافة، وكان مسؤولا عن تحرير ملحق المساء الثقافي، قرأ الجمل القصة مرة واثنتين.. ثم اعتلي مكتبه فرحاً.. قال للغيطاني: »يا ابن الإيه.. انت فتحت سكة جديدة في القصة القصيرة».. كان الزمان وقتها مختلفاً، أيام قليلة بعد هزيمة 67، جيل جديد غاضب يبحث عن طريق آخر مختلف عن الطرق التي سبقته، وقصة الغيطاني غاضبة، وكان قد خرج من المعتقل السياسي قبل شهور من الهزيمة، الرقابة تحكم قبضتها الشديدة علي كل منافذ الإبداع..القصة الغاضبة نشرها الجمل علي الفور.. وأخبر الرقيب يومها أن هذا الأديب الشاب وجد مخطوطاً تراثياً قديماً يكتب عنه. في ذلك الوقت، كان كل الكتاب يتجهون إلي الكتابة وفق نموذج غربي بحت. نموذج يشبه »السرير اليوناني» في الأسطورة الشهيرة، ولكن الغيطاني كان يبحث عن هذا الاختلاف والنبرة الخاصة، وهو ما وجده في تلك الأيام في النصوص القديمة، غير المطروقة، سواء محاضر المحاكم الشرعية، والملاحم الشعبية، وابن اياس وطبعاً »ألف ليلة وليلة». وكان يمكن أن يرتكن الغيطاني إلي اكتشافاته اللغوية والشكلية تلك، ولكنه لم يتوقف عندها طويلا. في رحلة الغيطاني الأدبية محطات هامة، منذ البداية في مجموعته القصصية »حكاية شاب عاش ألف عام».. وراويته »الزيني بركات» كان الهم السياسي طاغياً، لا فكاك منه، جيل يحاول تغيير العالم الذي لا يتغير، الذات تختفي لمصلحة القضايا الكبري، في رواية التجليات بدأ ظهور خافت للذات، لم يستطع الغيطاني وهو يكتب نصاً بديعاً في رثاء والده، إلا أن يعود إلي عبدالناصر والحسين بن علي ليكتب عنهما! ولكن رغم مقاربة القضايا الكبري في الكثير من أعماله، كان الغيطاني، يتمرد، ويخرج، ربما بسبب اطلاعه علي الحقائق الكونية والعلوم والفلسفة ما جعله يخرج من محدودية الرؤية القاصرة إلي الأسئلة الفنية، أسئلة الطفولة الأولي. في »حكايات هائمة» نصه الأخير تحرر الغيطاني تماماً من سطوة المفاهيم القديمة عن الكتابة باعتبارها »رسالة» أو »شهادة علي الواقع» تختفي فيها الذات لمصلحة الجماعة، والمتعة لمصلحة الفكرة. الكتابة هنا لديه أقرب إلي مفهوم »اللعب» بالمعني الفني إذ يصعب تصنيفها تقليدياً. كما أنها لا تخضع للشكل التقليدي المعروف للرواية، حيث البداية والوسط والنهاية، إذ تراوح بين الشذرات الفلسفية والقصائد الشعرية. الأسئلة فيها أسئلته الخاصة لا أسئلة الجماعة. تحرر من أسر الشكل، أو عبوديته..كتابة حرة تتداعي فيها الذاكرة سواء أكانت الحكايات لها ظل من الواقع أو من الخيال تماما. وهكذا نقرأ عن مراجع داخل العمل ليس لها وجود، وشخصيات لم تولد بعد..نصوص فيها من الفلسفة ومن التصوف، ومن الشعر ومن الخيال. يلعب الغيطاني هنا مع النص الخالد »ألف ليلة وليلة»، وهو أحد النصوص التأسيسية الكبري لديه، كان دائما يقول إن هناك ثلاثة كتب يأخذها دائما معه في تنقالاته عندما يسافر إلي أي مكان خارج مصر أو داخلها:» القرآن»، »حماسة أبي تمام» وأخيرا ألف ليلة، وكان في مكتبته ركن خاص لكل طبعات هذا النص، من بينها طبعات نادرة، او كل ما كتب عنه، وكان يعتبر هذا النص »ذروة ما قدمته الإنسانية من فن الحكي والقص»، وأحيانا أخري يصفها بأنها »ذروة القص العربي».. وكان يعني بالعربي »التراث الثقافي والفني الداخل في عناصر تكوين الثقافة العربية، والمنتمي إلي حقب تاريخية مختلفة، وديانات متعددة، وحضارات متعاقبة، متجاورة، ومؤثرات وافدة، متفاعلة من ثقافات أخري». رغم تلك المكانة لألف ليلة وليلة لدي الغيطاني إلا أنه لم يقاربها إبداعيا في أي من نصوصه الأولي، كان يري أنها تحتاج احتشادا خاصا.. لكنه في »حكايات هائمة» بدأ في المقاربة، حكايات بعضها من بعض، من حكاية صغري تتوالد أخري كبري، كل حكاية تؤدي إلي أخري، كأنها تخضع لتداع حر، تلقائي، ولكن خلف هذا التداعي نري بناء هندسيا متماسكا. اختار الغيطاني أن يصف حكاياته بالهائمة، وهي كلمة تعني في المعاجم الضياع والتيه والحيرة، إذ ينطلق الشخص علي وجهه في الصحاري والهضاب لا يعرف وجهته. كما تعني الكلمة أيضا »ما يطفو فوق سطح الماء من نباتات عائمة». وفق المعنيين في القاموس سنجد أبطال هذه الحكايات هائمين، لا يعرفون الاستقرار، ورغم تعدد حكاياتهم سنجد أن بعض الحكاية هو ما يبقي في الذاكرة. تبدأ »حكايات الغيطاني» بطالب العلم اليافع الذي يخوض رحلة تستغرق شهورا اجتاز فيها براري وهضاب، وممرات صخرية وأنهاراً وبحوراً، مكث في فنادق وقياسر ودور لإقامة الغرباء قاصداً تلك الجزيرة النائية في أقصي المشرق من أجل لقاء حكيم معمر. عندما وصل طالب العلم إلي الجزيرة، فوجئ أن »الحكيم» لا يحتفظ سوي بكتب أربعة يستمد منها العلم والحكمة..سأل مندهشا: أين الكتب التي تستمد منها حكمتك وعلمك؟ بدأ الحكيم هينا حنونا عندما قال: ولماذا تسأل، ولا أري معك إلا أربعة كتب أيضا؟ قال المسافر:»ولكنني في رحلة» ..جاوبه الحكيم : أنا أيضا في رحلة! هكذا يبدأ النص، الرحلة، ولكنها ليست مجرد رحلة في مكان وإنما في الزمان، سنقرأ حكايات عن الحكيم الفرعوني تحوت، وأخري عن رمسيس الثاني، وثالثة عن المتصوفة، وكتاب القرون الوسطي، حكايات عن البشر، والمكان، والكتب واليمام، والأشجار، يطعمها بأمثال وحكم وأشعار من الكتب المقدسة، والأشعار العربية القديمة، الحكم الفرعونية والصينية، كأننا في رحلة كونية لا تخضع لشروط الزمان أو المكان. يكتب الغيطاني إذن خلاصة الرحلة، والتجربة، متحررا من الشكل النمطي للكتابة، والأطر الجاهزة، بلا مركز »لا تبحث عن المركز.. انظر أيها الإنسان إلي ذاتك.. أنت المركز»، هكذا يستشهدا بمقولة جلال الدين الرومي. وكما يلاعب وينتاص، ويختلف مع النصوص الإبداعية الكبري في أدب الإنسانية، وتحديدا ألف ليلة..ولكنها ليالي الغيطاني، التي تطرح الأسئلة أيضا حول والوجود، والزمان، والموت.. وكلها أسئلة تصب في هم رئيسي هو الذاكرة. الذاكرة التي حاول الغيطاني في كل أعماله، ألا تتسرب منه، ومنا بالتأكيد. وما كانت رحلته في الكتابة إلا مثل بطل الحكاية الأولي في حكايات هائمة..الذي اجتاز براري وهضاب، وممرات صخرية وأنهاراً وبحوراً.. من أجل »الحكمة الضالة».