حريقٌ جامح بيتي مزروعٌ أمام النهرِ.. وكلما هَلَّ الليلُ، ألمحُ بين الشجرة والماء ، ظِلُّ حصانٍ باذخ . سنواتٌ وهو يراني وأنا أراه لكنه غابَ فجأةً.. غابَ كأنهُ فِصُّ مِلحٍ ذاب.. كان يحكي نكاته الحارقة في الليالي المنسية ويؤلف حكاياتٍ بيضاءَ في ساعات الصَخَب.. شِبَاكُ المحبةِ كانَ يغزلها فأَعْلَقُ وأصعَدُ مثل الطيف ويعودُ يمزق لحمي وأنا أرقصُ فأُبارزُ برفقتهِ الجحيم.. حتي أمي ، كَفَّنها معي ورمي عليها نظرتي الأخيرة وخاضَ مع أبي الحرب في سهول روسيا وكان يحمل الرايات مع المغول و النورمانديين.. حفَرَ الخنادقَ وباعَ العبيد في أسواق بغداد وأَطلقَ الرصاصةَ علي الفيلسوف الأعمي.. كان لا يتركنا أبداً لكنَّ عيونه كانت تجوسُ وراء الجميلات فينشغل عنا بالأيام ونحنُ نصبرُ ونبتسم.. يا أخي، لم أفعل شيئاً لتضنَّ عليَّ بروحكَ اللهم إلا الحريق الذي أشعلتُهُ في شجرتِكَ الأثيرة عَلَّ الله يتجلي لك من وسط النار فلا تموتَ أبداً.. كنتُ أريد مفاجأتكَ وإسعادكَ لكنكَ ثرتَ ثورةً عارمةً كأنكَ طريدُ الأنبياء منذ ولدتَ .. مرت دهورٌ وظننتُ أنك سامحتني لكن يبدو أن قلبك يُخفي الكثير وأنا لم أكن أعلم.. لعبةُ الأسرار قبل أن يظمَأَ بريقُهُ و تخرسَ آبارُهْ سألتُ جَدِّي عن سر تمتماتهِ مع الحائطِ الطينيّ و ابتسامتهُ التي تدورُ بعدها في الغرف.. قال إن الطين أوقَعَ عليهِ ذكري كأنها الكنز ولما نسيَ العَمَي و الرعشةَ وداعَبَها سمعهُ يُقْسِمُ أن تكون مشاعرهُ صلبةً رغم طراوتها وأن تنهدم روحُهُ قبل أن يفوتَ عبر مسامِهِ سِرٌّ، ولو حتي علي لسانِ بعوضة.. ومن يومها أخذتُهُ صاحباً يا ولدي وسَنَداً بدلاً من حائطكم عديم القلب الذي يتفنن في أن يجعلني عرياناً أمامَ مرآتي القديمةِ وأمامَ الله.. في فَخِّهِ، أوقعني عجوزُ الأسرار هذا و أجبرني علي أن أقطعَ لساني فلا يقرأ الجيرانُ في أورادي كُرْهَ الصباحِ و المساء وأن أخلع عينيٌ وأدفنهما في الصندوق كي لا تري أمي أني أرتعب من ظلها حتي اليوم.. كان الطوبُ يخدعُ قلبي ويضحكُ علي روحي رغم أنهُ جاسوسٌ قديمٌ و مَنْسِيٌ وكان الدهان هكذا.. لهذا فالأصح ألا آمن للهواءْ، الجنيٌ الذي يدخلُ بين شقوق الذكرياتِ بخفَّةِ الزواحفِ والقنابلِ والأحقاد.. والأجدي أن أصطاد قبراً يتوارَي تحت الخريطةِ.. قبراً بلا ذاكرة الأسرارُ فيه لا تمشي ولا تطير.. وكلما تَخَلَّيْتُ عن ظلالكم وتَخَلَّيْتُ صرت عَفِيَّاً من داخلي وأغلِبُ حتي هالات الضوءِ.. تلك التي من أسرارِها أنها لم تَرِفَّ أبداً ولم تخفْ كانَ تمثالاً ، يُغمِضُ وينتظر أَقْلَعْتُ منذ أعوامٍ عن الغناء للبحرِ والصراخِ للجبال.. عن هزة رأسٍ تُحلِّقُ في المراعي كلما شَدَّت الشجرةُ شَوْكةً من قلبِ صوتٍ ميت.. عن النظر في وجه أمي كلما اندفعت الكلماتُ المسجونةُ من ياقتي وأفسدت حفل الأصوات المنذورةِ للبيتْ.. أنا الذي قالَ كثيراً وتحمَّمَ بالألفاظ فصدئت عظامه وغني ولوَّحَ لكنَّ الأمطار سَطَت علي ظِلالِهِ ونَفَضَت أنفاسَهُ بكل عزمٍ فرجع من تحتِ الذكري عرياناً.. الذي سَطَّر الزحامُ بسكِّينهِ قصائدَ علي لحمهِ المرتجف وكلما شَمَّتها العابرةُ، سحبَتْهُ لحد النهرِ ثم عادت كما كانت بُخَاراً في بخار.. أيها الرملُ الذي تَخُطُّهُ العرَّافةُ فيعوي أيتها الأوراقُ و الألوانُ والسماءُ البعيدةُ..... يا حبيبتي يا أصدقائي.. حاولوا وأنتم تَعْدونَ خلفي أن تَرَوْا بعين خيالكم منْ الذي ظَلَّ يرتعشُ في حضنها حتي تيبَّست القبلاتُ قبل ريقِهِ وكيف كان لسانَهُ يتهَّدمُ ويتهَّدمُ إلي أن خمدت نيرانُ القريةِ وحطَّت الطيورُ علي جثمانهِ بلا خوفٍ ولا سَلَّةِ أصواتٍ تعْلَقُ في الطريقِ إلي الحياة.. إنهُ أنا ... وليسَ هذا الطائرُ الذي يفتحُ عيونَهُ علي آخرِها كلما أصابتهُ الصرخةُ المكتومةُ في مقتل فصدقوني .. ولو حتي لساعةٍ واحدة بلا ضجيجَ ولا حكاياتٍ ملونةٍ ولا مطر..... رسالتان »رسالة أبي الأخيرة إلي حبيبته » الحروفُ التي كانت تسبقني إليكِ صارت تعدو فلا أقرأها ولا تقرأني ، الطعامُ غريبٌ لا يمرُّ ولا يتسلل ، أطفالي يتحاشوني وكلما نظرتُ في المرآةِ أخاف من ذلك الذي تدور حدقتاه وتدورُ صوتي لا يرُدُّ تلويح الأعمي ولا تتسرب إلي عيني هالةُ أمي، لا أواسي الجثث ولا تصلني إشاراتها، الهواءُ تائهٌ في صدري .. يتيمٌ ولا يسندُ نبَّواتٍ يحرقها الشوقُ خلفَ الغَمام ظلي يتوهُ في الزحام فأهوِي ويدكِ بعيدةٌ كما السماء .. "رسالة أبي الأخيرة إلي السماء" جلدنا ناشفٌ لا يصدُّ بَرْقاً والجبل الذي أمامي لا يتهيأ للوحي ولا ينساهُ المطرْ لا يفضلنا الملاكمونَ ولا رجال البورصةِ ولا تحجُّ أسرابُ التماسيحِ إلينا إلا لتبكي علي ضعفها... وداعاً .. لا سلامَ ولا عتاب .. حكايةٌ غارقةٌ عن كنز الكنوز كان أبي يعمل علي سفينةٍ تنقل الملح من بحرٍ إلي بحر وكنت ظلهُ الذي يتبعهُ بذراعٍ مفتولةٍ وقلبٍ من رصاص. العفاريتُ كانت تصاحبنا أحياناً فتتلون السماء بالوحوش والجميلات والأغاني وأحياناً تخرجُ حكايات البحارة من قمراتهم لتدفئ برد البحر.. حتي كان يوم استضفنا الريحَ حتي ثَمُلنا فاكتسَحَنا القراصنةُ بيسر الموسيقي وطراوتها . أبي أصرَّ علي حماية الملح بروحهِ.. كان يبتهل ألا يلوث دمه بياض الملح .. هذا النور الذي كان يناجيه كلما غفونا ويقول إنهُ كنز الكنوز.. ففارت دمائي وطرتُ عليهم، قاتلتهم حتي أثخنتهم ولكن لأنهم يتوالدون بلا نهاية أمسكوا بي وتركوني عرياناً.. بدون رائحة الملح وأريجهِ.. وقبل أن يسحبوني إلي مقدمة السفينة لأموت تذكرت بياض قلب أبي ودموعه المالحة فاستجمعت عزيمتي وقفزت في جبال الملح وذبتُ وكلما وصلوا بلداً و باعوا الملح وباعوا كنتُ أعدو وأضحكُ و أغني.. أذوبُ في أجساد الناسِ تماماً كما ذابَ أبي في روحي.... الصياد العتيق قربَ الفجرِ، أقف في الشرفةِ أجمع الهمساتِ والأصواتِ المكتومةِ الكذبَ واللهاثَ الغناءَ والحيرةَ والصمتَ والبهجةَ أَجُرُّهم إلي سريري وأجلسُ هادئاً أتلقي تحيَّات الأشباحِ الذين يدخلون تباعاً .. في الصباحِ ، أقف في الشرفةِ أُلقي بالأصواتِ التي صارت عجوزاً وأفركُ الخائفين . أدوس علي القَتَلةِ وأرجعُ عفياً ، بلا زحام . إلا صوتكِ إلا جسدكِ المتوهج إلا نظرتكِ التي تنحتُ ظلالي إلا لسانكِ الثعبان الذي يهرس عظامي في لحمي فأرفرف بعنف من الحائط إلي الحائط كأنني خفاشٌ أعمي يعرف بقلبه شُبَّاك الهروبِ لكنهُ يخاف .. روحٌ علي منضدة وماذا سيتبقي مني إذن ؟ أخذتم خمس قِرَبٍ من الدماء دهنتم بها وجوهكم لما كنتم تزحفون خلفَ الحكايات الداكنة وعدة شرايين كي تربطوا الشيطان من ساقيْهِ كلما تمرد أو صرخ وعظاماً تضربون بها علي وجه الميت علَّهُ يعودُ يركضُ في البرِّية.. ما الذي سيبقي إذن يا أخوتي؟ لساني الذي اعتاد علي الرعشة حتي نشفَ وفركتهُ الطفلةُ وغسلت يديها ونامت أم عيوني التي كان العمي يصطادها كل بهجةٍ حتي لم يعد الطائرُ ينقرها أعلي التل.. لن يظل علي المنضدةِ إلا روحي هذه الهائمة في الصناديق وفي المعاطف.. في القمامةِ و فوق سطح البحر.. المدفونةِ تحت الظلالِ في المقابر.. والتي تبحث عنكِ كلما زَفَرت الريحُ أو تبسَّمت السماء.. أشواكٌ تنبضُ وتنبض صحوتُ فوجدت خبزاً قاسياً قطَّرتُ دمي وغمستهُ وانتظَرت. في الردهة قابلت ظلاً تائهاً فاختبأتُ حتي وقع في الفخ ثم أسلمتهُ للشيطان لم يهتز قلبي لبكائه ولا وصلتني رائحة الشواء . في الطريق الخلفيّ طلُعَت نخلةٌ وقالت أنا أمك ثم تنهدت ودثَّرتني بالأشواك كي أقوم من الأموات وأصعد قبل أن يهبطَ حول بيتنا البرصان والمجذومون وتحوطنا الغيمةُ الطيبةُ .. .. وهكذا تسكُنُ السماءُ وتعودُ تحلمُ وتحلمُ كلما مرَّ الكَذَبَةُ وسابوا في النبعِ ناراً وصوراً تهتزُّ...... عِرْفَان لا يمرُّ الشيطانُ في لحمِكِ إلا لأطفو.. شِراكٌ خضراء شَدَّت الشجرةُ غصناً وقالت خذه يا ولدي واحضن حبيبتكَ كلما بكت بدلاً من ذراعكَ التي سرقتها الحربُ هذا الصباح.. ومرَّ يومٌ ويومٌ ووقعتُ كعادتي في الشَرَكِ.. فاستأذَنَت العصافيرَ في عُشَّيْنِ وقالت بدلاً من عينيكَ اللتيْن طارتا بعد القذيفة الأخيرةِ.. كانت الأفاعي تعصرني والديدان تسكنُ أنفي وأنا أزحفُ وسط الأوراق الجافةٍ بلا بطنٍ ولا أقدامٍ ولا ظِل.. خلَعَت الشجرةُ جذعها وقالت جسدكَ جسدي يا حبيبي.. كانت تبتسم، هذه الشجرة وهي تموت وتقول كلما هرِمتُ جعلتُ من ولدي شجرة عندما ستموت الحربُ، مَنْ سيبكي عليها مَنْ سيتذكرها أساساً؟ غناءٌ غامض الطائرُ اعتادَ أن يَدُقَّ شُبَّاكي في الصباح الباكر، واعتدتُ أن أبتسمَ وأفتح لهُ ليدخلَ بثقةٍ وينقر عيني.. ومثلَ كل أعمي عصامِيٌ و شريف كنتُ أفتحُ البابَ لكفِّي لتخرجَ وتعاينَ الوَهَجَ وتُحصي الطلَقَات.. ترصُّ الأسري في الحفرةِ وترتابُ في الغناءِ الغامضِ الذي يجوسُ المكان كل ليلة حتي تُعْلِنَ أنهُ ابنُ تلك الصورةِ التي فرَّت من علي الجدار.... لم أعد أصدق أحداً حتي تؤكدَ لي كَفِّي كَفِّي التي صارت قديستي التي اعتادت ألا تخون.. صديقي الطائرُ غابَ وغابَ لكنهُ حتماً سيعود ويسألُ عن نافذةٍ مندهشة لا تزال تذكرُ سِكَّةَ النهرِ وكَفٍّ تُحِسُّ كلَ لحظةٍ بالظمأ ... أمطارٌ في جحيم أشربُ سيجارتي علي عَجَل خوفاً من أن تحترق أصابعي وتضيعُ بَصْمَاتُكِ من علي لحمي.. أنا الذي تصرخُ من تحتِهِ مِرْآتُهُ كي يشربَكِ علي عَجَل خوفاً من الطوفانِ من الزلزال القادمِ من الموتِ الذي سأُمْسِكُهُ من رقبتهِ علي عَجَل خوفاً من ضحكتِكِ من جحيمكِ اللاهثِ من حضنِكِ القادرِ علي أن يجعلَ مَلاكَ الموتِ يُغيَّرَ وِجْهَتَهُ ويعودَ دفقةَ نورٍ شابةً، تَهْدِي السفنَ والذكرياتِ المطبوخةَ علي عَجَل .