»أتحسَّسُ عنقى» ضَعُفَ حَدْسى مؤخراً، كنتُ أُحِسُّ بكِ على بُعْدِ بَلديْن وكنت أَشُمُّ ريحَ أبى فأتحسَّسُ عنقى. كانت الكلاب تطيرُ عندما يعضها ظلى، والأشباح تبيتُ فى حضنى وعيونها مفتوحة... لكنى بعيدٌ هذه الأيام ،خاملٌ وبصيرتى منطفئة. الأولادُ يعبرونَ النهرَ أمامى بلا دعاءٍ ولا حتى نظرة وأمى تنسى كل فجرٍ أن تصير عجوزاً .
ذكرياتى كلها خرجت أمامى من الباب، وأنا مقعيٌّ كأنى ظلُّ طائرٍ أعمى. سأركعُ للصقورِ فى الأعالى وأنحرُ الذبائحَ ، لتلمعَ كفي سأتدحرجُ جنب الريح وأفتحُ عينى فى العاصفةِ ، لتلمعَ روحي سأبتهلُ للموتِ أن يفوتَ جسدكِ تحتَ جِلْدى ، لتلمعَ دمائى سأحفرُ للمرجومينَ جحيماً بهياً وأهزُّ رأسى كلما عَلقْتُ بالبئرِ بحكمةٍ ورضا... »مجردَ ظِلٍ نَسِيَتْهُ المشيئةُ» ماذا تريدُ منى أيها البحر؟ أنا مجرد جثةٍ لا تفيد ولا تضر،هل يناسِبُ غروركَ أن أَظَلَّ أغنى للقرصان الذى حَوَّلَ نفسه لأخطبوطٍ عجوز يقبعُ فى بقعةٍ منسيةٍ تحيط به ذكرياته مع لفائف الحبال وأطنان الصدأ وقبل نهاية اليوم يرمى عيونه لتصعدَ وتلتقط الأصوات وتدفنها تحت فخذيه بلا رحمة؟! هل من اللائق أن أتهادى على صفحة الماء وتبص الشمس على جسدى الممزق فتصحو شهوتها وتحرقنى لتكتمل الترنيمةُ القديمةُ ويعودَ النار والماء أَخَوان ؟!... تمهل يا أخى ،عظامى لا تنفع خياماً للغارقين ولا يصلح عمودى الفقرى للأشقياء ولا حتى للمجاديف... لحمى متفسخٌ تعافهُ أنياب أسماكك العجوز، والسفن الضالة لا تفضله كغذاء للعبيد المرشوشين فى الأقبية ، شَعْرى متناثرٌ لا يمكن جدله لربط أشعار المراكب وخيالاتها... لا مخى هو الطُعْمُ للأسماك الهاربة ولا جمجمتى يستخدمها الروائيُّ كطبقٍ يعجنُ فيه أفكاره ويمسح على جبينه بالملح وينام ... ثم إن قفصى الصدرى ضيق، مزمومٌ بشكلٍ دائم ،لا تفضله عصافير الماء ولا الغِربانُ ولا البوم، يمكن فقط أن نخبئ ذهب الأميرة المغدورة فى جانبه الأيسر وبعدها تلمع الحكايةُ كلما مَرِّ بريقُ الأمير تحت شرفة الموتى...عضوى خائفٌ ، مرتجفٌ وبلا عزيمة لكنهُ اعتاد أن يحلُمَ كل صباحٍ تحت الرمال ليعلو لهاثه للسماء فتقذف وتقذف بلا تَروِّى... ماذا سيتبقى منى إذن أيها الكبير لأغريكَ أو أُغرى غيركَ؟ أقسمُ لك بأن صحوة ذاكرتك واقتفاءكَ أَثَرى بهذا الحماس مجرد ضلالات تليق بالنبيذ المغشوش، والمفاجأة يا سيدى أننى لستُ حقيقياً بالأساس ، أنا مجرد ظِلٍ نَسِيَتْهُ المشيئةُ بين موجةٍ وأخرى ...أما أنتَ ، فأنتَ الواقعُ ذاتهُ. القَدَرُ عندما يُخفى الخيالَ فى حوصلتهِ، يُغْرِقهُ ولا يدلُّ أحداً عليه... «شرفةٌ مغلقةٌ على الدَوام» ذَكَّرَتْنِى جدتى وهى تهز العصا بالغرفة البعيدة فى البيت القديم،الغرفةُ التى كنت أختفى فيها الأيامَ كلها وأنا صغير ، كيف أنساها وقد قابلتُ فيها الشياطين للمرة الأولى ، تحادثنا وبكينا كأخوة ، ضحكنا وغنينا وصرخنا ، أعطونى العهد ومَنَحْتهم القَسَم... لماذا ذَكَّرَتْنِى الجدة قبل أن تموت ولماذا نسيتُ طول عمرى بالأساس ؟ لم يكن منقوشاً فى العهد أن تتوهَ حروفهُ هكذا كلما اندلقت عليه قهوة الصباح أو مرت غيمةٌ تائهة ، حزينةٌ وتبكى بلا انقطاع... يبدو أنهم قبضوا على دمى ثم خانونى ، رشُّوهُ على البلاد الميتة فأينعت ومسحوا به العيون فشافت... أريد حقى أيها الجحيم، لم تعشقنى الجميلات ولم يَطُل ظِلِّى فيخدشَ الأعداء فى يقينهم... لم يصفو لسانى ليدهن كذبةً وراء أخرى فتعبدنى الجموع أو يرمِّمَ قتلاً قديماً يمسخُ المتمردين قردةً وخنازير... كيف أحاسبهم وشرفتهم مغلقة على الدوام؟ كيف أقولُ إنهم أَوْحشونى وهم صَاحَبوا غَيْرى وهجرونى؟ لكنى أيضاً، وللحق ،أحسُّ كل ليلة بدبيبٍ غامض يجعل ضحكتى تطولُ عنق أبى وأظافرى تطولُ وتحفرُ فى السماء وتحفر.............