الوطن في شعر درويش ليس جغرافيا فقط بل تاريخ وإنسان.. وفكرة نعم ... كان درويش وطناً كاملاً للشعر ، فمنذ أن نثر ( محمود ) ابن قرية » البروة « في الجليل بذور الشعر ورواها بعصارة الروح وماء الوجدان ، فأنبتت ( أوراق الزيتون ) 1964 م ، إلي »حصار لمدائح البحر « 1984 ، وامتدادا إلي » الجدارية « 2000 م ، وصولاً إلي « كزهر اللوز أو أبعد « 2005 م ، مروراً ب »آخر الليل « 1967 م ، و »أحبك أولاً أحبك « 1972 ، و » أعراس « 1977 م ، و » مديح الظل العالي « 1983 ، و »ورد أقل « 1986 م ، و » أحد عشر كوكباً « 1992 م ، و» لماذا تركت الحصان وحيداً « 1995 م . منذ أول ديوان ، وطوال هذا الدرب الشائك ، ورحلة الإبداع المضنية ، كان فتي فلسطين الأول محمود درويش ( 1941 2008 م ) ، وطناً كاملاً للشعر . كان وطناً كاملاً للشعر بأرضه وسمائه ، بتضاريسه ومناخه ، بتخومه وثغوره ، بإنسانه وتاريخه ، بأعرافه وطقوسه . كان وطناً كاملاً للشعر بمعجمه ومفرداته ، بموسيقاه وألحانه ، بأغانيه وأناشيده ، بمراثيه وملاحمه . كان وطناً كاملاً للشعر بتليده وطريفه ، بتراثه وعصريته ، بحضوره في التاريخ ، وحضور التاريخ الحي فيه ، بتجاوزه الحاضر الآني وتحليقه في آفاق الإبداع ومدارات التجديد . كان وطناً كاملاً للشعر حين ارتشفناه من يديه أكوابا مترعة بعصارة الروح وحرارة النفس وشرارة الذهن وذوب الوجدان . كان وطناً كاملاً للشعر حين جرت في عروقنا دماء الحياة بعد أن تغذينا شعره خبزاً شهياً ، هو ماء مصفي معجوناً بتراب الأرض المقدسة . لقد كان درويش عالماً رحيباً من الشعر ، متعدد الطبقات و المستويات ، ثري التناول والقراءات ، زاخماً بالرؤي والثقافات ، مستفزاً بالأسئلة ، مثيراً للتأويلات. لقد قرأنا درويش تجارب فريدة متميزة ، انعكس فيها العالم علي مرآه ذاته ، وظهرت ذاته علي سطحها متألقة ، متوشجة بالبسيط العادي والقومي والإنساني . لقد قرأناه تجربة عمر لصيقة بأرضها وأهلها . و »جدارية « لمأساة شعب وأمل أمة . قرأناه إدانة شديدة وقاسيه للعنصرين ومبيدي الهنود الحمر ، وخطابا واثقاً بعزيمة الإصرار وحتمية التاريخ ، أفقد عدونا وعدوه توازنه ، فأورثه القلق وجعله يرعي نجوم الأرق وطارد الشاعر حتي في غربته ومنافيه ! في نفس الوقت الذي قرأناه فيه اتهاماً قوي النبره ، شديد اللهجة لأمة فقدت بوصلة الجغرافية وضلت عن حقائق التاريخ وغابت عن الوعي بعد أن استعذبت سياط جلاديها ، ورضيت بالمذلة والهوان ! كان وطن الشعر الذي أقامه درويش مثيراً للعجب مغرماً بالأضداد والمفارقة . فكما كان حلماً داعب آمال المظلومين ومخيلة المقهورين ، كما كان في نفس الوقت بكائية حزينة لمزارع فقد كوخه وأرضه . وكما كان وعدا وأملاً ، كان أيضاً مرثية لفقير سحقت زيتونته الوحيدة ، أو موال حزن لامرأة فقدت وحيدها . كان شعر درويش زمناً توقف عند العام الثامن والأربعين من القرن الماضي ، كما كان مشروعاً ممتداً لوطن ومستقبل شعب لا يزال يتكون في رحم الغيب . كان شعر درويش غداً منعماً بالحياة والحب ، كما كان أحزاناً لعاشق مكلوم فقد محبوتيه وبستانياً تناثر لوزه وتحطم كرومه . كان شعر درويش زمناً خصباً يانعاً وكان أيضاً دهراً بلا آذار . كابدنا معه متاهات الفيافي وغربة المنافي وظلمات الأقبية ، كما عشنا معه أيضاً مع أحضان ربوع الوطن ودفء لقياه ، ولذة النظر بتملي مجاليه وانتشاء التمرغ علي ترابه . وكما كان درويش وطناً كاملاً لدنيا الشعر وكائناته ، كان أيضاً صانعاً بالشعر وطناً بديلاً عن الوطن السليب وباللغة هوية دائمة الحضور : هذا التراب ترابي وهذا السحاب سحابي وهذا جبين خديجة أنا العاشق الأبدي السجين البديهي رائحة الأرض توقظني في الصباح المبكر قيدي الحديدي يوقظها في المساء المبكر من ديوان »أعراس« لقد كان الشعر حياته ، واللغة سؤاله المؤرق ، وكان همه الأعظم ومعاناته الكبري هي : أي شعر يعتصر حتي يتحصل منه علي ماء البقاء والخلود؟ وكيف يكبح جماح اللغة ويقيد أوابدها ؟ كيف يراودها عن نفسها ليستخرج جوهرها ويمسك بديمومتها كيف يروضها حتي تلين وتستكين ، فيصيغ بها وطنه البديل ، ويرسخ بخلودها هويته ، ويجعل ذاته بها حاضرة في الأزمة والأمكنة ، وحينئذ فقط يعيش حالة من التصوف الهادئ ، حالة من السلام النفسي والائتلاف : يالغتي ساعديني علي الاقتباس لاحتضن الكون يالغتي ، هل أكون أنا ما تكونين ؟ أم أنت يالغتي ما أكون ؟ يالغتي دربيني علي الاندماج الزفافي بين حروف الهجاء وأعضاء جسمي أكن سيدا لاصدي دثريني بصوفك يالغتي ساعديني علي الاختلاف لكي أبلغ الائتلاف من ديوان » كزهر اللوز أو أبعد « ذلك لأن درويشاً حين عاد من منافيه فوجد قريته قد طمست ، ومعالم أرضه شوهت ، والتفت تخنق الوطن - أذرع الاستيطان الأخطبوطية اكتشف أن الأرض الوحيدة التي يستطيع حراثتها هي اللغة ،فصارت اللغة أرضه المؤقتة في انتظار أن تعود الأرض إلي لغتها . وحين بدأ درويش يحدث لغته / لغتنا وسط هذا العطش العربي ، لم يجد أمامه سوي أن يغسل اللغة بالشعر ، ويسقي الأرض بمائه ، فولدت القصيدة التي تتلون بالماء ، وتكتب نفسها في مكان سري يقع بين الأغنية والملحمة « (1) : مقدسة كلها حجرا حجرا هذه الأرض ، كوخ لآلهة سكنت معنا ، نجمة نجمة ، وإضاءات لنا ليالي الصلاة ... مشينا حفاة لنلمس روح الحصي وسرنا عراة لتلبسنا الروح ، روح الهواء ، نساء يعدن إلينا هبات الطبيعة تاريخنا كان تاريخها كان للوقت وقت لنولد فيها ونرجع منها إليها : نعيد إلي الأرض أرواحها ، رويداً رويداً ونحفظ ذكري أحبتنا في الجرار ، مع الملح والزيت . من ديوان » أحد عشر كوكباً « . » لقد سكن درويش القصيدة ، وشيد وطناً من الشعر ، يرسم حدوده علي خطوط الطول والعرض الورقية ، يبسط أرضه ويرفع سماءه ويشكل تضاريسه ، وينفخ فيه مناخه الآسيوي الحار ، ونسائم ليليه البحرية ، فتتشكل السطور دروباً ومنازل ، والكلمات حصي وذرات وتراب ، وتتجسد القصيدة / الأرض ، بقدسها وجليلها ، بتينها وزيتونها ، وبرتقالها ودوالي العنب في قراها النائية.إن أرض درويش ممتدة بامتداد شعره «(2) : سنمضي إلي وطن الطير سرباً من البشر السابقين نطل علي أرضنا من حصي أرضنا ، من ثقوب الغيوم نطل علي أرضنا ، من كلام النجوم ، نطل علي أرضنا من هواء البحيرات ، من زغب الذرة الهش ، من زهرة القبر ، من ورق الحور ، من كل شيئ . من ديوان » أحد عشر كوكباً « وما أكثر ما همس درويش للوطن همس العاشقين ، وما أكثر ما ناجي طيفه مناجاة المحبين ، وما أكثر ما انتظر الوطن بكل الشوق واللهفة والهيام : بكأس الشراب المرصع باللازورد . أنتظرها علي بركة الماء حول المساء وزهر الكولونيا . أنتظرها بصبر الحصان المعد لمنحدرات الجبال . أنتظرها بذوق الأمير الرفيع البديع . أنتظرها بسبع وسائد محشوة بالسحاب الخفيف . أنتظرها بنار البخور النسائي ملء المكان . أنتظرها برائحة الصندل الذكرية حول ظهور الخيول . انتظرها من ديوان »سرير الغريبة « كما خاطب الأرض حنانا دافئاً ، وأما رءوماً ، وتمني أن يكون لها وشاحاً بل خيطاً في ذيل ثوبها ، وأقصي أمانيه أن يلامس قرارة قلبها الكبير وحينئذ يتجاوز بشريته ويفارق طبيعته ويحلق في أكوان الخلود : خذيني إذا عدت يوماً ، وشاحاً لهديك وغطي عظامي بعشب تعمد من طهر كعبك وشدي وثاقي .. بخصلة شعر .. بخيط يلوح في ذيل ثوبك عساني أصير إلها ، إلها أصير إذا ما لمست قرارة قلبك من ديوان »عاشق من فلسطين « فالوطن في شعر درويش ليس جغرافيا فحسب ، بل جغرافيا وتاريخ وإنسان »وهو كذلك حالة ذهنية ، فكرة ، يتوسل الشاعر لإحيائها وبث الحياة فيها بكل ما يمكن أن يعينه علي إعادة بنائها وتثبيتها في الذاكرة ، ووسيلته هي اللغة ، وحركته في الزمان والمكان حركة حرة تقوم علي التداعي « (3) : لقد كان إيمان درويش بقوة الكلمة إيمانا راسخاً ، وكان إحراره وأمله دائماً حياً حاضراً متحدياً: أيها العابرون علي جسدي / لن تمروا أنا الأرض في جسدي / لن تمروا أنا الأرض في صحوها / لن تمروا أنا الأرض يأيها العابرون علي الأرض في صحوها لن تمروا . لن تمروا . لن تمروا من ديوان » أعراس « يقول درويش : »أنا مؤمن بقوة الشعر الذي يمنحني أسباب التطلع إلي الأمام والبحث عن بصيص ضوء ، وبالقوة يمكن تحويل اللاواقعي إلي واقعي والواقعي إلي خيالي ، بالقوة يمكن بناء عالم جديد مناقض للعالم الذي نعيش فيه فعلاً ، أنا أري في الشعر علاجا روحانيا وبوسعي أن أخلق بالكلمات مالا أجده في الواقع ، إنه وهم كبير ولكنه إيجابي ، ولا أملك وسيلة أخري لإيجاد معني لحياتي وحياة شعبي ، وبقوتي سأمنحهم الجمال من خلال الكلمات ، وسوف أصف عالماً جميلاً وأيضاً للتعبير عن ظروفهم وحالهم وقد قلت ذات مرة إني بنيت بالكلمات وطناً لي ولشعبي « (4) نعم ، لقد بنيت أيها الشاعر الكبير بكلماتك وطناً لك ولشعبك وعشت وفياً لهما حتي آخر لحظات العمر . يقول الشاعر فاروق شوشة : » لدينا كثيرون في فلسطين ، وفي سائر أرجاء العالم العربي ، كثيرون بالمئات وبالألوف يصلحون أن يكونوا ساسة ومسئولين ووزراء وحاملي حقائب وأصحاب مهام ، لكن الشاعر الشاعر ، أو الشاعر الضمير عملة نادرة ومحمود درويش واحد من هذه العملة النادرة . حضوره يعدل جيشاً بكامله وصوته الممتلئ بالوعي واليقين والإنسانية أغلي وأنفس من ألوف الحناجر الجوفاء التي تمتلئ بالصخب « .(5) فسلام عليك يا ابن الأرض الذي نحت جداريتها ونشر خريطتها وخلد بقاعها وأعلي بين الإنسانية صوت الحق في صرختها وكان شعره وخزاً للضمائر الفاسدة وإدانة للبغي والطغيان وسلاحا مصلتاً في وجه أعداء الحياة . هوامش إلياس خوري : » محمود درويش « ، ملحق الأهرام ، « كتاب في جريده « ص3 القاهرة 3 يناير 2001م . د.اعتدال عثمان : » إضاءة النص « سلسلة دراسات أدبية ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ص102 ، الطبعة الثانية القاهرة 1998م . 3 المصدر السابق ص108 . 4 من حوار سابق للشاعر نشرته جريده « القاهرة « في عددها الصادر الثلاثاء 12/8/2008 . 5 فاروق شوشة : » الشعر أولاً .. والشعر أخيراً « مكتبة الأسرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، سلسلة الأعمال الفكرية ص154 القاهرة 2002م .