المدارس الخاصة تجبر أولياء الأمور على الاشتراك في الباص.. والتعليم تعلق    19 شهيداً بينهم أطفال بقصف مدرسة تؤوي نازحين في غزة    بدر عبدالعاطي يلتقي وزير خارجية الجزائر    الخطيب: احتفالات الأهلي ستتوقف بعد الخروج من الملعب.. وأشكر الجماهير العظيمة    أحوال الطقس في مصر.. تعرف على أبرز التقلبات الجوية    تفاصيل مأساوية وراء وفاة نجل المطرب إسماعيل الليثي    حقيقة تأجيل الدراسة في أسوان بسبب الحالة المرضية    تفاصيل صادمة في سقوط نجل مطرب شهير من الطابق ال10.. ما القصة؟    متحدث الحكومة: الجزء المتبقى من الأدوية الناقصة بسيط جدًا.. والأزمة تنتهي خلال شهر    فحص 515 مواطنا في قافلة طبية ضمن مبادرة حياة كريمة بدمياط    الاتحاد الأوروبي: القضية الفلسطينية عادت للطاولة بعد أحداث 7 أكتوبر    استرداد 159فدانا من أراضي الدولة بأبي قرقاص    حزب المؤتمر: منتدى شباب العالم منصة دولية رائدة لتمكين الشباب    موسم شتوي كامل العدد بفنادق الغردقة.. «ألمانيا والتشيك» في المقدمة    "علم الأجنة وتقنيات الحقن المجهري" .. مؤتمر علمي بنقابة المعلمين بالدقهلية    اكتمال عدد المشاركين بورشة المخرج علي بدرخان ب«الإسكندرية السينمائي»    فيلم 1/2 فيتو يثير الجدل بعد عرضه في مهرجان الغردقة لسينما الشباب بدورته الثانية    فصائل فلسطينية: استهداف منزلين بداخلهما عدد من الجنود الإسرائيليين ب4 قذائف    الأزهر للفتوى: الإلحاد أصبح شبه ظاهرة وهذه أسبابه    تعرف على أهداف منتدى شباب العالم وأهم محاوره    ستيفان دوجاريك: جوتيريش يحذر من أي تصعيد يهدد باتساع الصراع بدارفور    بيكو للأجهزة المنزلية تفتتح المجمع الصناعي الأول في مصر باستثمارات 110 ملايين دولار    تدشين أول مجلس استشاري تكنولوجي للصناعة والصحة    بلقاء ممثلي الكنائس الأرثوذكسية في العالم.. البابا تواضروس راعي الوحدة والاتحاد بين الكنائس    هل يمكن أن يصل سعر الدولار إلى 10 جنيهات؟.. رئيس البنك الأهلي يجيب    أول ظهور لأحمد سعد مع زوجته علياء بسيوني بعد عودتهما    السجن 6 أشهر لعامل هتك عرض طالبة في الوايلي    عبدالرحيم علي ينعى الشاعر أشرف أمين    توتنهام يتخطى برينتفورد بثلاثية.. وأستون فيلا يعبر وولفرهامبتون بالبريميرليج    إيطاليا تعلن حالة الطوارئ في منطقتين بسبب الفيضانات    شروط التحويل بين الكليات بعد غلق باب تقليل الاغتراب    فتح باب التقديم بمسابقة بورسعيد الدولية لحفظ القرآن الكريم والابتهال الدينى    ندوات توعوية فى مجمعات الخدمات الحكومية بقرى حياة كريمة في الأقصر.. صور    لافروف: الديمقراطية على الطريقة الأمريكية هي اختراع خاص بالأمريكيين    وكيل صحة شمال سيناء يتفقد مستشفى الشيخ زويد المركزى ووحدات الرعاية    إصابة 3 أشخاص في حادث تصادم «توك توك» بدراجة نارية بالدقهلية    بالصور.. إصلاح كسر ماسورة مياه بكورنيش النيل أمام أبراج نايل سيتي    وزيرة التنمية المحلية تعلن انتهاء استعدادات المحافظات لاستقبال العام الدراسي 2024-2025    بلد الوليد يتعادل مع سوسيداد في الدوري الإسباني    أخبار الأهلي: تأجيل أول مباراة ل الأهلي في دوري الموسم الجديد بسبب قرار فيفا    اليوم العالمي للسلام.. 4 أبراج فلكية تدعو للهدوء والسعادة منها الميزان والسرطان    بطاقة 900 مليون قرص سنويًا.. رئيس الوزراء يتفقد مصنع "أسترازينيكا مصر"    حزب الله يعلن استهداف القاعدة الأساسية للدفاع الجوي الصاروخي التابع لقيادة المنطقة الشمالية في إسرائيل بصواريخ الكاتيوشا    هانسي فليك يفتح النار على الاتحاد الأوروبي    ضبط شركة إنتاج فني بدون ترخيص بالجيزة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 21-9-2024 في محافظة البحيرة    اسكواش - نهائي مصري خالص في منافسات السيدات والرجال ببطولة فرنسا المفتوحة    صلاح يستهدف بورنموث ضمن ضحايا ال10 أهداف.. سبقه 5 أساطير    توجيهات عاجلة من مدبولي ورسائل طمأنة من الصحة.. ما قصة حالات التسمم في أسوان؟    واتكينز ينهي مخاوف إيمري أمام ولفرهامبتون    هل الشاي يقي من الإصابة بألزهايمر؟.. دراسة توضح    18 عالما بجامعة قناة السويس في قائمة «ستانفورد» لأفضل 2% من علماء العالم (أسماء)    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 21-9-2024    فيديو|بعد خسارة نهائي القرن.. هل يثأر الزمالك من الأهلي بالسوبر الأفريقي؟    مريم متسابقة ب«كاستنج»: زوجي دعمني للسفر إلى القاهرة لتحقيق حلمي في التمثيل    «الإفتاء» توضح كيفية التخلص من الوسواس أثناء أداء الصلاة    "ألا بذكر الله تطمئن القلوب".. أذكار تصفي الذهن وتحسن الحالة النفسية    ضحايا جدد.. النيابة تستمع لأقوال سيدتين يتهمن "التيجاني" بالتحرش بهن في "الزاوية"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثلاثون عامًا في صحبة نجيب محفوظ
مقهي ريش
نشر في أخبار الأدب يوم 08 - 12 - 2018

ما بين اللقاء الأول في مقهي ريش يوم الجمعة 13 فبراير 1976 وأنا ابن التاسعة عشرة عامًا،حتي صعودي من جوف المقبرة علي طريق الفيوم، بعد أن قبّلت الأستاذ والأب الحبيب للمرة الأخيرة في يوم الخميس 31 أغسطس 2006، وأنا ابن التاسعة والأربعين عامًا.
في ذلك اليوم الشتوي البعيد، وأنا أجلس منتشيًا بالقرب من الأديب العظيم أري وأستمع لأول مرة، لم أكن أدري أنني أبدأ أكبر تجربة فكرية ووجدانية تشكّلني وتتغلغل في أعماق عقلي وروحي.
لم أكن –أيضًا- أدري أنني سأجلس بعد أكثر من أربعين عامًا، أتذكر وأتأمل وأسجِّل بعضًا مما رأيت وسمعت، بعدما أصبح اللقاء مئات اللقاءات، وبعدما أصبح نجيب محفوظ بالنسبة لي، ليس فقط الأديب العظيم، بل الأب والقدوة والإنسان الذي أكتشف مع الوقت أن وجوده في حياتي، أصبح رغم غيابه الجسدي أكثر حضورًا وتأثيرًا.
علي مدار أعوام اللقاء الممتدة، خطر لي بين الحين والآخر أن أسجل ولو أحيانًا ما يدور أمامي وأشارك فيه، لكني لم أفعل، انتابني شعور أنه الأولي أن أتشبع بروح وفكر الأستاذ بشكل شامل ولا أنشغل بالتفاصيل، انتابني نفس الشعور الذي يمكن أن يجده الإنسان عندما يريد تسجيل مشهد هام بكاميرته، فيجد أن هذا رغم ميزة تسجيل اللحظة قد أفقده جزءًا هامًّا من الإحساس المباشر بالمشهد، بل إنني –أيضًا- لم أسعَ للإحتفاظ بصور فوتوغرافية تسجّل تلك العلاقة الطويلة ومحطاتها، ولا أجد في حوزتي إلا صورًا قليلة أسعدني بعض الأصدقاء بالتقاطها وإهدائي إياها.
أجد نفسي الآن مُتمنيًا، لو أن بيدي دفاتر بها ما كتبته طازجًا وقتها، فتنير لي زوايا الذاكرة التي تخفت إضاءتها مع الوقت، وتتيح لي التأمل في الفرق بين ما خطر لي وقتها وما أراه الآن، وتضبط بدقة التواريخ والتفاصيل التي يصعب ضبطها الآن.
لكن يعوّض ذلك، أن هناك أحداثًا راسخة في الذاكرة، وأنني سأسعي أن أسجل المناخ العام، وفقط التفاصيل التي ما زلت أحتفظ بها واضحة لأهميتها ولتأثيرها، وأن حديثي لن يكون مجرد سرد لمواقف خبرتها، بل به جزء أساسي من تأمل ما وراء تلك المواقف.
ولعلها فرصة لي أن أؤكد ترحيبي وسعادتي بأي تصحيح أو إضافة لما سأكتبه ممن عاصروا تلك الأحداث، وربما يمتلكون ذاكرة أقوي من ذاكرتي وربما رأوا جوانب لم أرها أو لم أنتبه إليها.
فبراير 1976
اليوم جمعة.. أتسكع مع بعض أصدقائي في شوارع وسط البلد، زملاء السنة الدراسية الجامعية الأولي.
وسط البلد درَّة القاهرة، السينمات والمسارح، المقاهي والبنوك، محال الملابس والأحذية، العمارات المتأنقة بمجدها القديم وجمال أبوابها وشرفاتها.
الساعة نحو التاسعة مساءً.
نسير في شارع طلعت حرب، بالقرب من مقهي ريش.
أراه واقفًا علي الرصيف وعلي ذراعه بالطو لم يستخدمه، فبرودة الطقس ليست شديدة.
نجيب محفوظ!
تعجبت أن أراه وجهًا لوجه، رغم أنني كنت أعلم أن الكثيرين يرونه ويجالسونه، وأنه يرتاد مقاهي وسط البلد كل يوم.
لكني تعجبت، كأنه يصعب علينا أن نتصور أصحاب المقامات العالية كأنهم مثل كل الناس، يمكن أن نراهم في الشوارع وسط الرائحين والغادين، وأن نصافحهم وأن نتحدث معهم وأنه يمكن –أيضًا- أن يتحدثوا معنا.
اندفعت إليه، وقفت أمامه أتطلع إليه بسعادة كبيرة، مددت يدي لأسلم عليه، فصافحني بود جميل.
قلت له إنني أقرا له وإنني شديد الإعجاب برواياته وأنني فخور بلقائه، سألني عن اسمي وعما أدرس بهدوء وطيبة هدّأت من انفعالي وتلعثم كلماتي.
»اسمي محمود الشنواني، وأنا طالب في أول سنة في كلية الطب»‬.
قال لي: »‬لو تحب تقعد معانا، تعالي هنا في ريش، بنكون موجودين كل جمعة الساعة خمسة ونص».
فقلت له: »‬بجد يا أستاذ، شكرًا، شكرًا جدًّا، ان شاء الله آجي الجمعة الجاية».
ابتسم وهو يسلم عليّ:
»‬أهلًا وسهلًا».
ركب التاكسي أما أنا فقد كنت أعانق السماء.
قبل ذلك بنحو عام، كانت بداية لقائي برواياته، منذ صغري وأنا أعشق القراءة، لكن قراءتي لنجيب محفوظ تأخرت حتي بلغت الثامنة عشرة لسبب لا أعلمه، قبلها كنت أقرأ للمنفلوطي وطه حسين والسباعي وإحسان عبد القدوس ومحمد عبد الحليم عبد الله،وفي يوم لا أنساه حتي الآن، بدأت قراءة (ميرامار).
(الإسكندرية أخيرًا.. الإسكندرية قطر الندي، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع).
لا أنسي أبدًا وقع تلك العبارة الافتتاحية عليّ، كأنني وقتها فقط أدركت معني الأدب، وكأن »‬ميرامار» هي الرواية الأولي التي أقرأها، وكأنني دخلت إلي حيث كنز الدرر الفريدة، عالم نجيب محفوظ، وأخذت ألتهم روايات نجيب محفوظ التهامًا، ومع كل رواية يزداد يقيني أنه قمة شاهقة وحده، لا يشاركه فيها أحد، ولا يقترب من قامته العالية أحد، لهذا فعندما رأيته أمامي وصافحته وحادثته، كان انفعالي بلا حدود، وعندما قال لي إنه يمكنني أن أجلس إليه بعد أسبوع، صارت أيام الأسبوع مجرد محطات انتظار حتي مجيء الجمعة التالية.
من الطبيعي أن أصل إلي ريش مبكرًا، وقفت علي الرصيف، لا أدري ماذا أفعل، هل أنتظر في الخارج أم أدخل؟
ريش وقتها كان لها مظهر مختلف، لم تكن مغلقة كما هي الآن، كان هناك جزء داخلي به موائد، وعلي حوائطه تتراص صور لأعلام الثقافة في مصر، وكان لها نوافذ كبيرة مفتوحة علي الخارج، وكانت تحتل جزءًا كبيرًا من الممر المجاور لها، مرصوص به كراسٍ خشبية تتوسطها »‬الترابيزات» المعدنية الصغيرة، وفي الشتاء عندما يشتد البرد في المساء، يمدون تندة قماشية كبيرة تغطي المكان.
سألت عن المكان الذي يجلس فيه الأستاذ نجيب محفوظ، فأشار لي الجرسون لمكان في منتصف الممر الخارجي.
كان المكان ما زال خاليًا،إلا من زبائن قلائل ليس منهم من يجلس في المكان المخصص للقاء؛ جلست علي كرسي علي الأطراف، بعد دقائق حضر رجل في نحو الخمسين من عمره، جلس حيث أشار الجرسون، لاحظ وجودي، فسألني: أنت جاي ندوة نجيب بيه؟ فأجبته: أيوه، ابتسم لي وقال: طيب قاعد بعيد ليه، تعالي هنا جنبي، اسمك إيه؟
كان هو الأستاذ (مصطفي أبو النصر) أكثر أعضاء الندوة انتظامًا في الحضور، وأكثرهم حضورًا وتفاعلًا فيما يجري فيها من نقاش، وفي الدقائق التالية توالي حضور بعض الأشخاص، وفي الخامسة والنصف وصل الأستاذ، وقفنا وسلم علينا جميعًا، وجلس إلي مقعده المستند إلي الحائط بين نافذتي المقهي المطلتين علي الممر، وبدأ بعض رواد المقهي الذين كانوا يجلسون علي أطرافها في الانضمام إلي مجلس الأستاذ.
كانت البداية مبهرة...
أنظر إلي الأستاذ، يتحدث ويستمع بإنصات،علي وجهه دائمًا ملامح ودٍّ واهتمام، صوته عميق هادئ واضح النبرات، روحه بشوشة، أما ضحكته التي تتردد بين الحين والآخر، فلا أعتقد أن من سمعها يمكن أن يغيب انطلاقها وبهجتها عن ذاكرته أبدًا.
معظم الحاضرين في منتصف العمر، غالبًا بين الثلاثين والأربعين، وكنت أنا أصغر الحاضرين سنًّا، أفتح أذنيّ علي مصراعيهما، وأخشي أن أفتح فمي، فلم أظن نفسي جديرًا بالحديث وسط تلك الهالة من المصطلحات والموضوعات ووسط تلك الحدة في النقاش.
في التاسعة قام الأستاذ وسلم علي الحاضرين فردًا فردًا كعادته التي استمرت دائمًا، وغادر المكان وبدأ بعض الحاضرين في الانصراف إلي خارج المقهي والبعض إلي أطرافه من جديد، أما أنا فقد قادتني طاقة الانفعال الضخمة التي شملتني، إلي العودة سيرًاعلي الأقدام من وسط البلد إلي حيث كنت أقيم في المدينة الجامعية بجوار جامعة القاهرة.
في الجمعة التالية، عندما ذهبت وجدت المكان مضاء بأنوار ساطعة مركزة علي المكان الذي يجلس فيه الأستاذ الذي لم يكن قد حضر بعد، كاميرات سينمائية وأشخاص كثيرون يتحركون،عرفت أنهم يصورون فيلمًا تسجيليًّا عن الأستاذ، جلست إلي يسار الأستاذ مصطفي كما الأسبوع السابق. حضر الأستاذ، بالطبع جذب المشهد المارة، فوقفوا علي الرصيف أمام المقهي يتطلعون للكاميرات والأضواء ويتساءلون عمن في الداخل وبعض العاملين في الفيلم يبعدونهم.
نظر لهم الأستاذ وقال: »‬مساكين، تلاقيهم فاكرين إنهم لو دخلوا حيلاقوا سعاد حسني، شوف بقي المقلب اللي مستنيهم».
و جلجل ضاحكًا.
بعد ذلك بسنوات، رأيت هذا الفيلم الذي كان يذاع كثيرًا وقت الاحتفال الإعلامي الكبير بحصول الأستاذ علي جائزة نوبل وكذلك وقت وفاته.
كنت أترقب اللقطات، وأري نفسي بشعري الخشن الطويل وسوالفي العريضة كما كانت الموضة وقتها، أبتسم سعيدًا أن هذا الفيلم التسجيلي جمعني بالأستاذ في تلك المرحلة المبكرة، وأحس بالحنين لتلك البدايات التي أصبحت بعيدة.
في تلك المرحلة وخلال الشهور الأولي لانتظامي في ندوة الأستاذ، كنت في كل مرة أجد أبوابًا للثقافة تطرق عقلي، تطلب أن أفتحها وأن أعرفها.أسمع من يقول إن حادث 4 فبراير تاريخ فاصل بين مرحلتين في حياة حزب الوفد، فأجد أن عليّ أن أقرأ عنه وعن الحياة الحزبية في مصر بين ثورتي 1919 و1952.
يُبدي الأستاذ إعجابه برواية (الحرب والسلام) لتولستوي، فأحس أنه من الضروري أن أقرأها وأن أقرأ لتولستوي، ثم تمتد الرغبة في المعرفة إلي دستويفسكي وتشيكوف وبوشكين وغيرهم من عمالقة الأدب الروسي.
أستمع إلي مناقشة حادة حول التجربة الناصرية، وأجد أن الآراء حولها تصل إلي درجة التناقض، فأقول لنفسي إنه يجب أن أعرف أكثر حتي يكون لي رأيي.
يأتي زائر إلي الندوة ويقدم نفسه أنه عالم في الآثار الفرعونية وأن لديه نظرية جديدة حول أهرام الجيزة، يمضي ولا يتكرر حضوره، لكن يتولد بداخلي شغف كبير بما قاله، وغير ذلك كثير.
أعتقد أن هذا ما حدث –أيضًا- مع كثير من الحاضرين، إلا من كان مصممًا أن دوره هو الحديث فقط، ولم تكن أذناه تستمعان لما يدور حوله، وهذا نموذج ليس نادرًا في ندوة الأستاذ.
كنت في كل مرة أعود ورأسي يطن بمصطلحات جديدة وأسماء لكتب وكتاب، لا يكفي أبدًا الأسبوع التالي للتعرف، مجرد التعرف عليها، وبعدها بأسبوع يضاف الجديد إلي قائمة الاهتمامات، ويحدث ما لابدَّ أن يحدث في تلك الحالة، أن يتنقل الإنسان بسرعة بين موضوع وآخر، وأن تسقط رؤوس موضوعات من القائمة، وأن يتجه الإنسان لما هو أقرب لاهتماماته الحقيقية ولنوعية القراءة الأكثر إمتاعًا له.
كانت هذه السنة هي أكثر سنوات عمري كثافة في القراءة والمعرفة عامة، خاصة أن شغفي بإنتاج الأستاذ، دفعني وسط كل هذا الازدحام في قائمة القراءات المطلوبة، أن أقرأ كل ما كتبه حتي وقتها باستثاءات قليلة.
الروايات التي لم أجد بداخلي رغبة في قراءتها هي رواياته الأولي الفرعونية، ربما أكون قد سرت علي خطي الأستاذ في تجاوز المرحلة الفرعونية في رواياته!
كما ذكرت، لم أسجل وقتها أي ملاحظات أو خواطر يمكنني أن أرجع اليها الآن، فتفتح أمامي الباب لاستعادة تفاصيل ما كان يدور من مناقشات، وما قاله الأستاذ وما قاله المتحاورون ولا أدري هل فعل أحد وقتها ذلك واحتفظ لنا بكنز، مثل الكنز الذي سجله الصحفي الكبير الأستاذ (إبراهيم عبد العزيز) لندوات الأستاذ في سنواته الثلاث الأخيرة في فندقي شبرد وسوفيتيل، وقدمه بعد ذلك في سفر ضخم بعنوان (ليالي نجيب محفوظ).
لكني أتذكر جيدًا المناخ العام للندوات، وهو مناخ تشاركت في صنعه الظروف العامة التي كانت تمر بها مصر وقتها، وطبيعة وآراء الأستاذ نجيب، وشخصيات وانتماءات الحاضرين، وأيضًا ريش مسرح الندوة.
في تلك المرحلة من بدايات النصف الثاني من السبعينات، كانت مصر الساداتية تتجه كل يوم، بعيدًا أكثر عن مصر الناصرية، وكانت موضوعات النقاش وقتها تدور حول الصلح مع إسرائيل والعلاقات مع العرب، والمقارنة بين عبد الناصر والسادات، الانفتاح الاقتصادي وآثاره وما يتفرع عن ذلك من موضوعات الغلاء والقطاع العام وتجربة المنابر السياسية الوليدة، وقصص التعذيب في عهد عبد الناصر وارتفاع أسعار النفط وآثار ذلك.
في تلك المرحلة كان الأستاذ نجيب يؤكد علي ما أبداه من قبل من أهمية إنهاء حالة الصراع المسلح مع إسرائيل والالتفات إلي الأحوال الداخلية، وكان يُبدي إعجابًا وأملًا كبيرًا فيما يخص الانفتاح السياسي الذي بدأت بوادره في تلك الفترة، وعبر عن هذا من خلال مقابلات صحفية عديدة أثارت الكثير من الجدل، وأثارت مناقشات حامية في الندوة التي كان معظم حاضريها لهم آراء هي النقيض من آراء الأستاذ، لم يكن يخففها ويحفظها من الانفلات إلا روح الأستاذ الودودة وأريحيته الفكرية، ورصيده الكبير عند معظم الحاضرين كأديب وإنسان.
كانت تلك الموضوعات هي الغالبة، وتتخللها أحيانًا أحاديث عن شؤون وقضايا ثقافية، وكان المكان هو ريش، قهوة المثقفين الذين يغلب عليهم الانتماءات اليسارية، ولعل تقديم بعض شخصيات الحاضرين، يمكن أن يضيف لمعرفتنا بأجواء الندوة، فرغم أنها تحمل اسم الأستاذ، لكنها لم تكن أبدًا حكرًا له، بل كان في أوقات عديدة هو أقل الحاضرين حديثًا.
الأستاذ (مصطفي أبو النصر)
هو الاسم الأول الذي يأتي ببالي، وأعتقد ببال معظم رواد الندوة، سواء في ريش أو في قصر النيل، فهو أكثر الرواد انتظامًا في الحضور، لا أكاد أتذكر أنه تغيب عن اللقاء ولو لمرة واحدة، وهو أكثر الحاضرين حضورًا في المناقشات، وهو صاحب المقعد إلي يسار الأستاذ في ريش والمقعد المواجه له في قصر النيل.
وهو بالنسبة لي الوجه الأول الذي رأيته في يومي الأول هناك، وهو من كسر حدة انكماشي بعيدًا، ودعاني للجلوس بجانبه، فكأنه قربني من مركز الدائرة.
الأستاذ مصطفي كان يعمل في الرقابة علي المصنفات الفنية، مثقف كبير حقًّا، أعتقد أن رواد الندوة يتذكرون معلوماته الثرية وتعليقاته المهمة عندما يكون الحديث عن أديب أو عمل فني أو ظاهرة ثقافية، وهو أديب صدرت له عدة مجموعات قصصية منها »‬قلب الوردة» و»التيه» و»‬الركض في مكان مغلق».
كان ساخطًا بشدة ومنتقدًا بمرارة للأحوال السياسية والمناخ الثقافي، بداخله ليبرالي أصيل، لا يتخيل أن تُدار البلد بتسلط القوة، وبهذا القدر من عدم الكفاءة.
في تلك الفترة في ريش كان تحت سيف الاتهام السخيف بالإساءة إلي سمعة مصر، هذا السيف الذي يسلط علي الأعناق بين الحين والآخر؛ لأنه كرقيب علي المصنفات الفنية كان ممن أجازوا التصريح بعرض فيلم (المذنبون) الذي أثار ضجة وقتها، وقد نال جزاء إداريًّا باعتباره من المذنبين الذين يسيئون لسمعة مصر!
كان محبًّا حقيقيًا للأستاذ، يحمل له كأديب كبير تقديرًا بالغًا.
رغم فارق العمر بينه وبيني، فقد كانت بيننا علاقة شديدة الود، وكثيرًا ما كنا نتمشي معًا، من كازينو قصر النيل إلي ميدان التحرير، فأركب أنا الأتوبيس من هناك ويستكمل هو الطريق إلي بيته في شارع رمسيس.
بعد عودتي من خارج مصر، كان هو طريقي للقاء الأستاذ من جديد، فلم أكن أعرف طريقًا لأحد غيره أعرف منه، أين يذهب الأستاذ الآن، كان ذلك في نوفمبر 1995، ذهبت للقاء الأستاذ نجيب من جديد، ولكنه أيضًا كان لقاء وداع للأستاذ مصطفي، فقد توفي في الأسبوع التالي.
أصر الأستاذ نجيب علي الذهاب لجنازة الأستاذ مصطفي، رغم وهن الصحة وأيضًا رغم عدم الرضا الأمني عن تواجده في مكان عام مفتوح ومزدحم، وأظن أن تلك كانت المرة الأخيرة التي يشارك فيها الأستاذ في تشييع جنازة.
كان هذا دليلًاعلي محبة كبيرة من الأستاذ، وهي محبة أدّعي أنني كنت أراها في نبرات وكلمات تحاوره مع الأستاذ مصطفي.
الأستاذ (هارفي أسعد)
هو أقدم رواد الندوة، وأكبرهم سنًّا بعد الأستاذ نجيب، وهو صديق قديم له منذ الأربعينات، وكان ممن يرتادون ندوته في كازينو (أوبرا)، وقد أضفي ذلك عليه مكانة خاصة عندي، فهو عاصر وشارك فيما أسمع عنه وأتمني لو كنت حاضرًا فيه.
هارفي أسعد المحامي، هكذا كان يقدم نفسه، كما كانت العادة عند المحامين وقتها، أعزب وماركسي قديم، كنت أحس بروح من المودة الخاصة الممتدة بين الأستاذ نجيب والأستاذ هارفي، أحسستها –أيضًا- فيما بعد في علاقة الأستاذ نجيب بالأستاذ توفيق صالح، ولا شك أن أربعين عامًا من الصداقة تعمق نوعية علاقة ومشاعر تختلف عن العلاقات الأقصر.
حكي لي الأستاذ هارفي أنه كان يجلس خلف الأستاذ نجيب في كازينو أوبرا وقت أزمة رواية (أولاد حارتنا) خوفًا أن يأتي أحد يؤذيه من الخلف، و قد أكد ذلك الأستاذ نجيب في ما بعد وهو يترحم علي صديقه القديم.
في ريش كان يجلس دائمًا إلي يمين الأستاذ، وكان –أيضًا- منتظمًا في الحضور مثل الأستاذ مصطفي، لكن هذا الحرص علي الحضور ضعُف مع الانتقال لقصر النيل، وظنّي أن ذلك أتي كما حدث مع كثير من رواد الندوة في ريش من اليساريين لاتساع الفجوة بينهم وبين الأستاذ، ولأن أجواء قصر النيل، لم تكن مريحة لهم كما سأتحدث فيما بعد.
في قصر النيل، هاجم أحد الحاضرين الشباب الأستاذ هارفي،الذي غضب وغادر الندوة، وكما قال وقتها، إنه غضب من هذا الشاب، وغضب –أيضًا- أن الأستاذ نجيب لم يتخذ موقفًا مدافعًا عنه ولم ينهر هذا الشاب.
كنت أحيانًا أقابل الأستاذ هارفي في مكتبه في شارع عماد الدين، تفهمت ضيقه من المناخ العام للندوة، لكني لم أقتنع بغضبه من الأستاذ نجيب، فهو بحكم العلاقة الطويلة، يعلم جيدًا أن الأستاذ لا يتدخل ولا ينهر أحدًا في تلك المساجلات السياسية أو الفكرية.
لم تطل القطيعة، وعاد الأستاذ هارفي للحضور، ولو بشكل غير منتظم.
سافرت للعمل خارج مصر سنة 1989، وعرفت خلال ترددي علي الندوة في إجازاتي أن الأستاذ هارفي توفي إلي رحمة الله.
الأستاذ (إبراهيم منصور)
ليس فقط من رواد ندوة الأستاذ نجيب محفوظ، لكنه من المرتادين الدائمين لريش ولمقاهي وسط البلد، يعتبر رمزًا هامًّا من رموز جيل الستينات، وشريكًا أساسيًّا في أنشطتهم، وأظنه حسب الذاكرة من مجموعة جاليري 68 المهمة.
فارع الطول، فضي الشعر، دائمًا معه عكاز، عندما يجلس يرتكز عليه بوجهه وكفيه، ويقول عنه: هذه عصاي أتوكأ عليها ولي فيها مآرب أخري، ثم يلوّح به مهددًا من حوله وهو يضحك.
إذا تحدث الأستاذ ابراهيم، فمن الصعب إيقاف تدفق حديثه ومن الصعب الصمود أمام هجومه أو سخريته إذا هاجم وإذا سخر، وكثيرًا ما كان يفعل.
استمر في حضور الندوة بعد انتقالها إلي قصرالنيل، وفي منتصف عام 1979 غادرها غاضبًا ومقاطعًا لها، عندما حضر السفير الإسرائيلي وقتها راغبًا في لقاء الأستاذ نجيب، وتلك حادثة سأتحدث عنها فيما بعد.
الأستاذ (علي سالم)
رجل المسرح والآراء المثيرة للجدل.
يختلف الناس كثيرًا حول الأستاذ علي سالم، فهو ممن يصعب اتخاذ موقف محايد أو معتدل إزاءهم، أو أن تتجاهل وجودهم أو أن تنساهم.
عندما يحضر وقد كان متوسط التردد علي الندوة كان يمسك بناصية الحديث ويحتل المسرح، ليصبح البطل ويصبح الحاضرون جمهورًا.
فارع الطويل، صوته عريض قوي، سيجارته المارلبورو في يده دائمًا مطفأة أو مشتعلة، ذراعه تتحرك كثيرًا.
عندما يتحدث فهو في مونولوج طويل، حكايات عن المسرح والفن والصحافة والسياسة، يجذب الجمهور بحكاوي الكواليس ويجسد مشاهدها باقتدار، ويجذبهم –أيضًا- بآرائه وأفكاره التي تسترعي الانتباه لزاوية رؤيتها المختلفة.
أظن أن حضوره كان جذابًا لمعظم الحاضرين، بمن فيهم من لم يكن يرتاح إليه، لما يضفيه علي الندوة من حيوية.
رأيته في ريش ثم في قصر النيل،التي انقطع عنها لنحو عام؛ لأنه كان مدعوًّا لجولة في الولايات المتحدة الأمريكية للحديث عن تجربته المسرحية، استمر حضوره بعدها، وكذلك في مرحلة السنوات العشر الأخيرة التي كانت الندوة تتنقل فيها بين قاعات مغلقة لبعض الفنادق.
لم أكن في مصر عندما قرر السفر إلي إسرائيل في بداية التسعينات، وبعدها أصبح مبشرًا بضرورة التطبيع والتعاون مع إسرائيل، وأصبح اسمه مقترنًا بتلك القضية، بكل ما يثيره ذلك من جدل ومن حدة في المواقف.
في الفترة الأخيرة من حياة الأستاذ، استمر حضوره في الندوة، لم يعد حديثه -في نظري- جذابًا ومؤثرًا كما كان، فقد أصبح له موضوع وحيد هو العلاقة مع إسرائيل والدفاع عن وجهة نظره بخصوصه.
الشاعر (نجيب سرور)
لا يحتاج الشاعر والمسرحي الموهوب للتعريف بإنتاجه الأدبي، وهو الإنتاج الذي كنت وقتها قد قرأت بعضًا منه، فأحببته وأعجبت به، بل وحفظت بعض أشعاره.
وهو الفنان الذي عرفت عن مشاكله الشخصية واضطراباته النفسية، ولكن أن تسمع عن فنان تحبه ما يحزنك شيء، وأن تراه كما رأيته في ريش، مهلهلًا متلعثم الكلمات، فهذا مما يحزن حقًّا.
خلال فترة ريش رأيته عدة مرات، وفي إحداها كان اضطرابه أشد وضوحًا مما كان في المرات الأخري.
أتذكره وهو يقول بتلعثم مؤلم:
»‬أنا باحبك قوي يا أستاذ نجيب، وأنت كمان بتحبني، أنت راجل طيب يا أستاذ نجيب، وفاهمني، أنت أكثر واحد فاهمني».
لم أشاهد نجيب سرور بعد انتقال الندوة إلي قصر النيل، وقد توفي في أكتوبر 1978.
الشاعر (أمل دنقل)
شاهدت هذا المبدع الكبير، لكني لا أتذكر أنني سمعت صوته، رأيته مرتين، ولا أعرف هل كان حضوره خصيصًا لندوة الأستاذ، أم أنه كان في المقهي وامتدت دائرة الندوة حتي وصلت لمكانه.
في المرتين كان جالسًا في صمت كبير، ملامح وجهه محايدة، صورة هي النقيض مما سمعت أنه طبعه الشخصي في التعامل الحاد والانفعال القوي، وكأنه النقيض لسمات شعره العظيم الذي يعلن التحدي والتمرد.
الشاعر الرائد (عبد الوهاب البياتي)
مرة واحدة التقيت الشاعر العراقي الكبير، كانت ريش وقتها مثلما كان قلب القاهرة مفتوحًا للمثقفين العرب ومحطة أساسية في خطواتهم علي الساحة الثقافية العربية.
حضر قرب نهاية الندوة، وبعد ذهاب الأستاذ، استمر جالسًا ومعه آخرون منهم الأستاذ هارفي أسعد،الذي كان يعرفه من فترة طويلة.
في دقائق قليلة، كان قد وزع السباب علي كل من تطرق الحديث إليه من ساسة وأدباء، وحتي الأماكن والنظريات الفكرية.
قال لي الأستاذ هارفي معلقًاعلي ملاحظتي ومقهقهًا:
»‬متستغربش، هو عبد الوهاب كده، لازم الجملة يبتديها بالله عليك وينهيها إن فلان أو علان راجل...».
ومن رواد ريش الأستاذ (جميل عطية إبراهيم) الروائي المصري صاحب روايات 1952 و1954 و1981 ونخلة علي الحافة وغيرها، الذي كان قد انتقل للمعيشة في جنيف، وفي إجازاته كان يأتي لحضور الندوة ولقاء الأستاذ وأصدقاء ريش، وكان عند حضوره يهديه شيكولاتة مخصصة لمرضي السكر، وقد كان هذا شيئًا عجيبًا في ذلك الوقت.
الأستاذ جميل كان رفيقًا في الغربة لمبدع كبير آخر، هو الأستاذ (بهاء طاهر) الذي كان قد انتقل وقتها مؤخرًا إلي جنيف، ولم يكن قد أبدع بعد تلك الروايات والقصص التي وضعته في مكانته الأدبية المرموقة، وكان الأستاذ جميل يحمل السلام دائمًا من الأستاذ بهاء للأستاذ نجيب.
كانت سيرة الأستاذ بهاء تأتي –أيضًا- كثيرًاعلي لسان الأستاذ مصطفي أبو النصر، فقد تزاملا في كلية آداب القاهرة، واستمرت علاقتهما بعد ذلك.
أديب آخر من جيل الستينات، كانت سيرته تتردد كثيرًاعلي ألسنة الحاضرين تفتقد وجوده وتتحدث عن ظروفه الصعبة في ألمانيا التي سافر اليها، هو الأستاذ (عبد الحكيم قاسم) صاحب روايات »‬أيام الإنسان السبعة» و»قدر الغرف المقبضة» وغيرها، وهو من أكثر أدباء جيل الستينات تميزًا.
في السبعينات كانت هناك حالة واسعة من ارتحال وهجرة المثقفين المصريين، الذين أحسوا مع سياسات السادات، أن الوطن الذي اعتادوه ووجدوا مكانهم ومكانتهم فيه يتغير إلي عكس تصوراتهم.
كان منهم من قرر ذلك لأسباب عقائدية، ومنهم من كانت له مواقعه في أجهزة الدولة الثقافية والإعلامية ولم يعد مُرحبًا به، ومنهم من جذبته البلاد التي سافر إليها.
منهم من ذهب إلي أوربا، والبعض سافر إلي العراق وسوريا حيث أجواء البلاد السياسية والاجتماعية تقترب من مصر التي ألفوها وحيث أنظمة الحكم هناك تسعي لاحتواء معارضي السادات وتفتح لهم المجال، ومنهم من اجتذبتهم الكويت بمناخ الحرية الأوسع فيها وبمجلة العربي التي عملوا فيها.
وفي مهجرهم الذي طال عند البعض وصار دائمًا عند البعض، تفاوتت مسيرتهم وتعددت اتجاهاتهم واختلفت مصائرهم.
وكان ممن يترددون –أيضًا-علي الندوة، الأستاذ الأديب (شمس الدين موسي) وقد كان قصاصًا كما عمل كسكرتير تحرير لمجلة القاهرة الثقافية في وقت لاحق، وقد كان إنسانًا طيبًا بشوشًا، والأستاذ (سيد موسي) وهو سينارست، كتب سيناريو سهرات للتليفزيون عن رواية ميرامار، وربما أعمال أخري، ويبدو أنه كان والشاعر الكبير أمل دنقل صديقين حميمين، فقد كان كثير الحديث عنه، وفي المرتين اللتين رأيت فيهما أمل دنقل، غادرا المكان معًا بعد الندوة.
ومن أصدقاء ندوة ريش الشاعر (عادل عزت) ومن دواوينه اختباء النور والسبعة والعرب القدماء، وهو إنسان رقيق ولماح وله حضور متميز في أي مناقشة، استمر في الحضور بعد ذلك في قصر النيل وقد قرأت في فترة لاحقة بعض أشعاره، وتعجبت أنه مع هذه الشاعرية الممتازة، لم يأخذ مكانه في الصف الأول من شعراء جيله.
و ممن رأيتهم مرات عديدة في الندوة الناقدين الكبيرين الأستاذين ( ابراهيم فتحي ) و ( فاروق عبد القادر )
وأيضًا ممن كانوا يحضرون الندوة أحيانًا الأستاذ (عبد الرحمن أبو عوف) الناقد الأدبي، والأديب الأستاذ (سوريال عبد الملك).
أتذكرهما معًا؛ لأنهما كانا صديقين للأستاذ هارفي أسعد، ولأنهما كانا يتميزان بحدة الآراء والتعبير عندما يختلف أحد معهما.
ورأيت أيضًا، لكن ليس كثيرًا الأساتذة (محمد المنسي قنديل) و(عبده جبير) و(سعيد الكفراوي) وقد صاروا مع الوقت من أعلام الروائيين والقصاصين.
في ريش بدأت رحلتي في صحبة نجيب محفوظ، أجلس إليه وأجلس وسط أصدقائه، وأستمع إليه وأحادثه.
وأيضًا في تلك الفترة بدأت رحلة موازية ومتداخلة مع عالمه الأدبي، أقرأ له وأتشبع حرفيًّا بعالمه.
وتعبير (أتشبع) أظنه الأدق وصفًا لحالي مع رواياته وقصصه، فأنا لا أهوي كثيرًا أن أتخذ موقف الناقد الأدبي بعينه الفاحصة الباحثة وعقله التحليلي والمناقشات التي تدور في رأسه أو تدور بينه وبين آخرين حول العمل الأدبي عما فيه وما وراءه.
وهو موقف بالقطع لا أنتقده، بل ربما أمارسه أحيانًا عند القراءة، لكن ذلك لم يكن حالي عند قراءة أعمال نجيب محفوظ.
كنت في حالة من تفتُّح مَسام الوجدان لاستقبال هذا الثراء العظيم من الشخصيات والأحداث واللغة المتميزة، كنت كأنني أتشرب وأتشبع بعالمه بشكل إجمالي، تتسلل الشخصيات إلي دنياي، فكأن من أعرفهم يتزايدون، فهم ليسوا مجرد شخصيات روائية بل بشر أعرفهم، تتقلب مشاعري بين عشق وكراهية وخوف وطمع وحيرة ويأس وأمل مع أجواء الروايات، تصلني الأفكار المعلنة والمخبأة في ما يكتبه، فتمتزج بأفكاري وتصبح جزءًا من الحوار الذي يدور طول الوقت داخلي بين الأفكار المختلفة.
لم أكن أقرأ وهناك مسافة تفصل بيني وبين ما أقرأ من كتابات الأستاذ، تتيح لي قدرًا من النظرة الموضوعية لها، بل كنت أندمج فيها بشكل شامل، وعندها تصبح جزءًا من وجداني، وبعدها ومع الوقت يحدث لها ما يحدث للمؤثرات التي يتلاقاها الوجدان علي مدار العمر، نوع من الفرز والتصنيف والاقتراب من بعضها والابتعاد عن بعضها الآخر، ويصبح الإنسان بعدها حصيلة هذا التفاعل الذي تم الجزء الأكبر منه بشكل غير واعٍ.
لهذا لم أكن أبدًا متحدثًا جيدًا عن أدب نجيب محفوظ، وكثيرًا ما كان أصدقائي المهتمون بالأدب يحدثونني عن آرائهم حول أدبه ويطلبون سماع رأيي خاصة بما يعرفونه عن صداقتي له وما يعرفونه من شغفي بأدبه، لكن لم أستطع بسهولة أن أقوم بهذا الدور، فطريقة قراءتي له تجعل إعادة قراءته بشكل نقدي محايد صعبة.
في بداية صيف 1975 الذي فصل عندي بين إنهاء الدراسة الثانوية ودخول الجامعة، اشتريت عدة روايات ومجموعات قصصية للأستاذ، بعدما أحسست بالقصور أنني لم أقرأ له حتي وقتها، رغم اهتمامي المبكر بالآداب.
وفي خلال تلك الإجازة الصيفية، بدأت بميرامار، هالتني اللغة وهالني براعة رسم الشخصيات وهالتني قوة بناء الرواية وهالني أسلوب الحوار، وكانت تلك هي البداية.
خلال أشهر ذلك الصيف قرأت (ميرامار) و(اللص والكلاب) و(الطريق) و(بيت سيء السمعة) و(حكاية بلا بداية ولا نهاية) و(السمان والخريف) و(زقاق المدق).
قرأتها وأنا مندهش من تلك القدرة الفائقة علي التعبير، مستمتع بهذا العالم الذي ينفتح أمامي، في مرحلة من عمري كان فيها عقلي وروحي في أقصي اتساعهما يسعيان لمعرفة العالم.
في تلك الفترة كنت أعيش في مدينة رأس غارب علي البحر الأحمر وكنا مجموعة من محبي الأدب والفن وكما يحدث في مدننا الصغيرة، نتقابل يشكل يومي في إجازتنا الصيفية لنتسامر حول ما نقرأه، ونتطلع إلي أنوار القاهرة، العاصمة البعيدة الزاخرة بما نشتهي من عالم الثقافة، كل منا يحكي بحماس عما قرأ، نتبادل الحماس ونتبادل تجاربنا الأدبية، وكان اكتشافي لكنز نجيب محفوظ الذي أذهلني هو محور الساعات الطويلة من أحاديثنا والتماع عيوننا بنشوة الفن الجميل.
واستمر شغفي بروايات وقصص الأستاذ، واستمرت القراءة له، وعندما قابلته في فبراير 1976 كنت قد انتهيت للتو من رائعته (حكايات حارتنا) التي جعلتني قريبًا من عالمه الشخصي والتي أظن أنها كانت تمهيدًا جميلًا لمحبتي له بالإضافة لإعجابي به.
وقتها (بداية 1976) كان آخر ما كتب الأستاذ رواية (حضرة المحترم) وفي ظرف عام تقريبًا من ذلك الوقت، كنت قد قرأت كل ما كتب من روايات ومجموعات قصصية باستثناء ما يُعد علي أصابع اليد الواحدة.
لكن وسط ذلك، هناك ما أحمل له ذكري خاصة؛ في أكتوبر 1976 صدر العدد الأول من مجلة (أكتوبر)؛ اشتريت المجلة بدافع التعرف علي مجلة جديدة، ووجدت أنها تنشر الحلقة الأولي من رواية نجيب محفوظ الجديدة (ملحمة الحرافيش)، لم تكن تلائمني فكرة قراءة رواية بشكل مسلسل في مجلة أو جريدة، لكني -وأنا جالس علي مقهي بجوار سينما أوديون في انتظار بدء الفيلم- بدأت القراءة.
(في ظلمة الفجر العاشقة، في الممر العابر بين الموت والحياة،علي مرأي من النجوم الساهرة،علي مسمع من الأناشيد البهيجة الغامضة، طرحت مناجاة متجسدة للمعاناة والمسرات الموعودة لحارتنا).
أقرأ وأعيد القراءة.. أي سحر هذا؟!
فاتني موعد الفيلم وأنا أقرأ ثم أعيد القراءة، وأخطو في الصفحات الأولي لملحمة الحرافيش العظمي، هذه الرواية لها مقام خاص عندي، لا يطاولها فيه أي عمل أدبي آخر.
قرأت كثيرًا لنجيب محفوظ نفسه، ولكل عمالقة الأدب في كل الآداب العالمية المعاصرين والقدامي، ولم أجد ما يزحزح (ملحمة الحرافيش) عن القمة المتفردة التي تتسامي فوقها.
هي عندي درة الأدب العربي.
هي عندي درة الأدب علي الإطلاق.
ظني أن معظم الناس -علي الأقل من جيلي والأجيال التالية- عرفوا الأستاذ نجيب عن طريق الأفلام المأخوذة عن رواياته قبل أن يقرأوا له، ولقد حمتني الظروف من التأثير السينمائي والتليفزيوني الذي كثيرًا ما يشوش قراءة الأعمال الأدبية؛ فمن شاهد (بين القصرين) مثلًا في السينما أو التليفزيون، لن يستطيع أن يقرأها منفصلًا عما شاهده، وهذا سيجعل قراءته مختلفة وأقل وضوحًا عما لو كان قد قرأها قبل مشاهدتها.
وقتها لم يكن الإرسال التليفزيوني قد وصل بعد إلي رأس غارب، ولم يكن هناك دور للسينما باستثناء ما تعرضه سينما نادي شركة البترول هناك؛ لهذا فقد قرأت أعمال الأستاذ نجيب كأعمال أدبية بحتة، وأعتقد أن هذا ساعدني كثيرًا علي رؤيتها كنص أدبي لا يخالطه أي معالجة مطلوبة لتحويله إلي شكل فني آخر.
وقتها لم أكن قد شاهدت أفلامًا عن روايات للأستاذ باستثناء (ثرثرة فوق النيل) والتي لم أستطع -رغم محاولاتي المخلصة- أن أقرأها دون أن تلاحقني خيالات الفيلم.
وأيضًا فيلم (الكرنك) وقد تم عرضه في دور السينما قبل لقائي بالأستاذ بأكثر من عام، وفي إحدي لقطاته ضمن الاستجواب الذي تعرضت له سعاد حسني في دور زينب دياب، سألها المحقق: »‬تعرفي إيه عن محمود الشنواني؟!!».
علامة الاستفهام طبيعية فهذا سؤال من المحقق، أما علامتا التعجب فهما من عندي، لورود اسمي في فيلم مأخوذ عن رواية للأستاذ قبل أن يعرفني، وهي عبارة لم ترد في الرواية كما لم يرد اسمي فيها، فضلًا عن أن السيناريو والحوار كان للسينارست ممدوح الليثي، لكن انزعاجي لسماع اسمي في قاعة العرض السينمائي وسط أهوال التحقيق والتعذيب التي كنا كمشاهدين نراها وقتها لأول مرة علي الشاشة، عوضه بعد ذلك إحساس لطيف ينتابني وأنا أتصور أن شيئًا ما جمعني بالأستاذ قبل أن يراني، كأنها إشارة جميلة أتت من الغيب.
كانت مرحلة ريش علي وشك الانتهاء، فقد صدر قرار غريب ومريب، وهو أن المقهي سيغلق أبوابه يوم الجمعة من كل أسبوع، ولعله بذلك القرار الغامض يكون المقهي الوحيد الذي له إجازة أسبوعية!
لا أعلم ملابسات هذا القرار، ولعل آخرين ممن عاصروه وكانوا وقتها أقرب للأستاذ أو كانت لديهم القدرة علي معرفة معلومات حول ما وراء هذا القرار، أن يفصحوا عما يعرفونه.
أصبح مطلوبًا إيجاد مكان بديل، يناسب عقد الندوة الأسبوعية، موقف كان قد حدث قبلها بنحو خمسة عشر عامًا، عندما اضطرت الندوة للانتقال من كازينو (أوبرا) في ميدان الأوبرا إلي مقهي (ريش).
تعددت الاقتراحات وقتها عن مقاهٍ أخري في وسط البلد، لكن كل منها كان غير مناسب لسبب أو آخر، إلي أن جاء اقتراح بالانتقال بشكل مؤقت إلي مقهي (علي بابا) في ميدان التحرير،حتي الاستقرار علي مكان جديد دائم.
لا أتذكر هل الأستاذ نجيب هو من اقترح تلك الخطوة أم أحد آخر، لكن هذا الاقتراح بدا حلًّا مؤقتًا مناسبًا، فالمقهي في وسط البلد ليس بعيدًا عن ريش، وهو المقهي الذي يرتاده الأستاذ كل صباح لقراءة الصحف، وفي النهاية فالأستاذ علي وشك السفر إلي الإسكندرية كما تعوّد كل صيف، وعند عودته تكون الأمور قد اتضحت أكثر.
مقهي (علي بابا) يطل علي ميدان التحرير، وهو مقهي صغير، له طابقان، وهو ضيق منخفض السقف ومع دخول الصيف كان شديد الحرارة، لكنّ أحدًا لم يهتم كثيرًا، فهو في نظر الحاضرين مكان مؤقت.
سافر الأستاذ إلي الإسكندرية كما كانت عادته في شهري يوليو وأغسطس، وعند عودته انتقلت الندوة إلي المكان الذي استمرت فيه حتي أكتوبر 1994 عندما حدثت محاولة الاغتيال المشؤومة، كازينو (قصر النيل) بجوار كوبري قصر النيل من ناحية الجزيرة.
لا أتذكر الآن من صاحب هذا الاقتراح، فقد كنت في إجازتي الصيفية بعيدًا عن القاهرة، وعندما عدت، عرفت بذلك ربما من جرسون مقهي علي بابا.
وبدأت مرحلة جديدة من الندوة، مرحلة بدت لي مختلفة.
رغم قصر مدة ترددي علي الندوة في ريش، إلا أنها كانت شديدة الكثافة والتأثير فيّ؛ لأنها بداية لقائي بهذا العالم وتلك الأجواء، ولهذا فهي تحتل مساحة واسعة في وجداني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.