أعتبره أهم من جلسوا علي كرسي البابوية، لأنه جاء في ظروف هي الأصعب والأخطر، وبالتحديد 18 نوفمبر 2012 حين تولي مهام منصبه، في أجواء فتنة قاتلة، فاستطاع أن ينزع الفتيل من أحداث كبيرة، ويرسي العلاقة مع أبناء وطنه علي قاعدة »وطن بلا كنائس خير من كنائس بلا وطن». تعرض الأقباط علي أيدي الجماعة الإرهابية لأكبر عمليات، لحرق الكنائس والتهجير القسري والاعتداءات علي الأشخاص والأموال، فكان حكيماً وهادئاً، وعالماً أن المحنة تعم الوطن كله بمسلميه ومسيحييه، وأن الاستهداف يقصد مصر قبل الأقباط، وأن الحكمة تقتضي الاحتماء بالوطن والارتماء في أحضانه وليس الاستقواء بالخارج. كانت الظروف الأمنية بالغة الصعوبة، والانفلات في كل مكان، والممتلكات العامة والخاصة تتعرض للسرقة والحرق، وكان الهدف زيادة جراح الوطن، وإشعال فتنة طائفية، تأتي علي بقية الأمن، وتشعل الفوضي في كل مكان، ولكن بحكمته استطاع أن يهدأ أقباط مصر، واثقاً بأن الدولة سوف تعود، وتسترد قوتها وتدافع عن وجودها وبقائها ووحدة شعبها. كانت الجماعة الإرهابية تستهدف توسيع رقعة النار، وإرسال إشارات للعالم، بأن الأوضاع في مصر مضطربة وغير مستقرة، وأن الحرب الأهلية علي الأبواب، ليست بين المسلمين والأقباط فقط، ولكن بافتعال فتنة غير موجودة بين السنة والشيعة. اتسمت تصرفات البابا بالهدوء، وضربت مواقف جموع المصريين الفتنة في مهدها، وعادت للجذور واستحضرت خبرات العلاقات الأصيلة، بين أبناء وطن واحد، عاشوا علي الحلوة والمرة، وبذلوا دماءهم وأرواحهم دفاعاً عن أرض الوطن، وكان فؤاد عزيز غالي بطل حرب أكتوبر جنباً إلي جنب عبد رب النبي حافظ. اختفت تماماً نبرة الاستقواء بالخارج، ولم نر تظاهرات لأقباط المهجر، الذين اعتادوا في فترات سابقة أن يصعدوا الهجوم، إن وقع حادث صغير، لا يمكن مقارنته بما تعرضوا له في زمن فوضي الجماعة الإرهابية، لأن الجميع أدرك، أن الحماية هي مصر، والأحضان الآمنة هي مصر، وليس الخارج الذي يستثمر مثل هذه الحوادث، لممارسة ضغوط سياسية، وليس أدل علي ذلك من المذابح الوحشية التي يتعرض لها المسيحيون علي أيدي داعش، دون أن يذرف الغرب دمعة واحدة. وراهن البابا تاوضروس علي الدولة المصرية وشعبها ورئيسها وجيشها وشرطتها، ولم ينطق حرفاً واحداً يغذي الطائفية أو يثير الفتنة، ووجد أفراد الشعب العاديين، يقفون أمام الكنائس لحمايتها، فلا فرق بين مسلم ومسيحي، ومقدساتهم هي مقدساتنا، وكنائسهم مثل مساجدنا. يذكرني هذا التلاحم الرائع، بما حدث أيام الاستعمار، حين جاء المستشرق الإنجليزي الداهية اللورد كرومر بتكليف من حكومته، لخلق فتنة بين المسلمين والأقباط، لضرب المقاومة الشعبية ضد المستعمر، واستخدم دهاءه ومكره، ولكن بعد سنوات، أرسل لحكومته يقول لم أجد في مصر غير مصريين بعضهم يذهب للمساجد، وبعضهم للكنائس ولا فرق.. وكتب بخط يده نهايته ونهاية المؤامرة. إنها مصر التي تقاوم الفتن بصلابة شعبها، وبعراقة القوة المصرية الناعمة الضاربة في جذور التاريخ، ومفرداتها التسامح والمودة والرحمة والسلام، واحتواء كل أبناء الملل والديانات علي قدم المساواة دون تفرقة أو تمييز، يحميها نسيجها القوي من الوقوع في مكائد، تفتت الأمم وتؤلب الشعوب. مصر التي لا تفرق بين مواطنيها، فيتعانق الأذان في المساجد مع أجراس الكنائس، ويظهر الوجه الطيب الذي يشع خيراً، ويلتهم الوجوه السوداء التي تضمر شراً، برعاية دولة تقف علي مسافة واحدة من الجميع، وتجلت روعتها في إقامة أكبر مسجد وأكبر كنيسة في العاصمة الإدارية الجديدة، رمزاً لعلاقات طيبة، لن يستطع أحد أن يمس قوتها.