والببغاء الحكيم عارف الحكايات ، لم يكن قد حدث بها من قبل ، فهي حكاية قديمة جديدة . وبعد الاندثار الغابر للغابة الجدة العجيبة ، لم يعد باقيا من شاهد عليها سوي الكلمات »حشرة الشمس نتاج أحد شعاعاتها روحي حزينة حتي الموت لافونتين - تبا ! قالها في نفسه ، دون حقد بالغ ، التمساح الضخم الجائع ، المتحين في مكمنه ، يلعن طائرا أسود هزيلا حط علي عود من نبات البوص يميل علي حافة النهر . توالدت في نفسه سخريات أخري ، علي الدرجة نفسها من الحقد والمرارة ، وقد طفق الطائر يغمر منقاره في الماء ثم يرفعه ناثرا القطرات اللامعة ، في ضوء الشمس ، علي ريشه الذي ينفشه فيضاعف حجمه . أحد عشر طلوعا للشمس ولم أحظ ، بعد ، بوجبة تقنعك يا معدتي الشبقة ، أحد عشر طلوعا للشمس صرت فيها صياد أسماك صغيرة وعصافير! تقدم بجسده المغمور تحت صفحة النهر . عيناه الطافيتان تزحفان علي السطح ، في هدوء ، مركزتان النظر علي الطائر اللاهي . الأيائل الثقيلة البهية ضخمة الجسم .. تضيق المسافة الفاصلة بين الجائع والهزيل .. .. تنزل خائضة في النهر ، تمد مخاطمها .. تعب من الماء وتشرب .. صار الطائر في حيز الإمكان . .. والظبيان الصغيرة الطرية .. طوح رأسه ، في لحظة ، يخترق الماء ، مشرع الأنياب ، هاجما ، يشق حلقه الفحيح صارخا : .. أين .. ؟! ثم .. خواء . اصطكت الأسنان منضمة علي ملمس الهواء . العينان الوحشيتان ، دهشتان ، تتابعان الطائر الأسود الناجي يصعد في السماء . ريشة وحيدة تهاوت علي سطح النهر . سحب التمساح نفسه باتجاه الشاطيء ، متنحيا عن مسار قطيع من أفراس النهر المندفعة ، في دبدبة وضجيج ، نحو النهر ؛ إذ عادت من رعيها الصباحي ، وقد أنعشها الشبع . قصد ، متثاقلا ، بقعة هادئة مشمسة ، بالقرب من الضفة ، وقبع فيها منعزلا . مدد بوزه علي الأرض . - أيتها المرضع البدينة آكلة العشب ! وأغمض عينيه . - نهار سعيد يا مهيب الطلعة ! فتح التمساح عينيه فأبصر صديقه الطفيلي الصغير ، طائر السقساق ، يضم جناحيه ويحط علي طرف بوزه . أعاد التمساح غلق عينيه ، رد من تحت أنيابه : - مرحبا . انتظر السقساق المندفع أخبارا سعيدة . لكن لم يقابل تفاؤله إلا الصمت الغامض . .. ببغاء الغابة ، المعمر منذ أمد ، الحكيم قليل الكلام ، يخرج عن صمت طويل جليل ، ويحكي اليوم حكاية . ورث الحكاية ، كما قال ، عن أب له ، معمر حكيم ببغاء ، عن سلسلة من الآباء ، معمرين حكماء ببغاوات ، عن سلف قديم سلحفاة ، عظيمة القدر معمرة حكيمة . الحكاية لعدم التصديق أقرب ، والببغاء الحكيم عارف الحكايات ، لم يكن قد حدث بها من قبل ، فهي حكاية قديمة جديدة . وبعد الاندثار الغابر للغابة الجدة العجيبة ، لم يعد باقيا من شاهد عليها سوي الكلمات و كما يقول شمس في الأعالي لم نعد نجيد تفسير لُغاها . هكذا حدث السقساق التمساح ، عما جد من طريف أخبار الغابة ، بينما التمساح فاغر فكيه علي مداهما ، يصرف الفائض من حرارة جوفه ، والسقساق دائر بين حراشف ظهره يلقط منه العلق وينقيه . هل هي الشيخوخة ؟ أم زحف نحوه الجوع هو الآخر فضربه ؛ فرأت عيناه ما لا يراه غيره ؟ لم صار ينطق ، بعد صمت طويل ، بجديد الحكايات ، أو يذكر قديمها المسكوت والمسهو عنه ، وهو الساكت وهو اللاهي ؟ قال السقساق : حاكانا الببغاء الحكيم فقال : من دكنة الظلام خرجتْ إلي النور . من جوف الغابة ، من بين تداخل امتدادات الأغصان ، من تحت تكاثف أوراق قاتمة الخضرة حد الإعتام ، انبثقت حشرة أنثي ضئيلة دقيقة . بدعة كانت في منظرها ، لا هي بالنحلة ولا بالفراشة ولا بالخنفساء ولا .. ولا .. بدعة كانت في منظرها . كيان هش ، له هالة من بهاء رقيق لفّات ، اختلف في وصفه الواصفون ، توله فيه المتولهون ، ثم تناكر فيه المتناكرون .كانت بدعة ، تحدثت عن بدعها الغابة .. كل ما يطير في جوها ، أو يدب علي أديمها ، أو نبت من باطن أرضها .. كل الغابة . كان للغابة القديمة ، وقتها ، لسان واحد مبين ، لم يكن قد أدركها يوم العُجمة الرهيب بعد . تغذت الرقيقة برحيق الأزهار ، وحنت عليها الأزهار . أرادت لها الغابة اسما ، ولم تعرف لها نسبا أو شبها ، فنسبوها إلي من يعم فضلها علي كل موجود ، وفي نعم نورها ودفئها يتمتع كل حي ، نسبوها إلي النور ، إلي الشمس ، وأسموها ابنة الشمس ، ويوما عن يوم ، كان حسنها يتجدد في العيون ، ويتبدي للقلوب علويا ، فتفرح الغابة بها وبالإسم . تنضج . وللنضج ميعاد وعلامات وعبير ، وللعبير سحر ، ومن سكرة السحر يندلع جنون ورقص وحياة . طائف الأسئلة والأفكار ، في الغابة ، طاف .. الزواج ، الفوز .. النسل .. العمر .. الجدارة .. الأجمل ؟ .. الأقوي ؟ .. الأبرع رقصا ؟ وكل الأفكار كان يشملها التفاؤل ويرعاها الفضول ، وكل الأسئلة يدفعها الشغف ؛ فمن يليق بالبديعة العجيبة ، روح الجمال والجلال والفرح .. ابنة الشمس ؟ وفي ميعاد منظور ، ابنة الشمس كانت تهيم ، لا كما كانت ساذجة تهيم ، وتزور العشب والأزهار والغصون ، لا كما كانت تزور . كان لها ذيل من شذي سيال ينسال ، في كل موضع ترك لها علامة . في شذاها كان من القرب نذير ، وفي كل علامة كان تحذير . تبدلت روح الجمال والجلال والأسي بروح الجمال والجلال والفرح ، فعافت كل رغبة ، وأبعد النذير الغامض والحزن كل راغب ذكر . طلعت ابنة الشمس علي كل حيرة وفضول واستفهام بمزيد من التلبيس العظيم ، وأعلنت علي الشاهدين أنها لن تحصل علي زوج أو وليف فقد كان . لقد بوركت بشعاع خاصب من ضياء ، وصار من كيانها الضعيف مستقر ووعاء . في الوعاء صفاء الحب والنور ، دفقة من حنان تتخلق ؛ فتصير نسلا وبذرة . من الأب ؟ كان السؤال المتشوف . وكانت الإجابة : الشمس . فبهت الخبر الشاهدين ، وحل سكون عميم . تبع الأمر جدل عظيم . ثار من ثار ، سخر من سخر ، صدق من صدق ، وأبي التصديق من أبي ، وتذبذب في الحيرة من تذبذب . صاروا أشتاتا أشتاتا . وعلي اختلافهم في صدق خبرها ، كانوا من أمرهم معها في صف واحد أجمعين : رفضها الجميع ، وتخلي عنها الجميع . وغمست ابنة الشمس في الشقاء غمسة واحدة . أبانت لها الأيام جهامتها ، فعرفها الهم وعرفته ، وأذاقتها الغربة من مرارتها . خافوا منها وأنكروها ، وعيونهم لها تترصد .. يتربصون ما تسفر عنه علامات الألم ومجاهدة العذاب والانتفاخ ، تلك العلامات التي قامت دليلا علي الصدق في جانب من خبر اليوم المشهود ، فثار المزيد من التحفز . و كسبت ابنة الشمس مع الألم شيئا من العطف والإشفاق ، وحسد الإناث . تمنت كل واحدة ، في حال كونها صدقت في أمر الشمس ، لو كانت هي من حظيت بشرف الوصل العظيم . تخيلن اللذة والبهاء والجلال ، تخيلن السطوة والغموض ، سكرن ، ودُخن في خيالات اللقاء السري الحميم وغياباته . أما هي ، ابنة الشمس ، زوج الشمس ، فتبيت وتصبح لا تعرف غير الذعر ؛ ما بداخلها يرعص وينقر ، في لطف وعند ، يتلمس الخروج ، وهي لا تعرف لخروجه سبيلا . كانت خبرتها الأولي . كانت تفكر في ذعر . كانت تفكر في حنان . وكما يتفتت كل هش ، دون مقدمات ، تفتتت ، علي مشهد من قطيع من غزلان ترعي . صارت في الهواء رمادا كثيفا ناعما ، كالضباب ، براقا . شخصت الغزلان بأبصارها نحو الرماد المتألق ، الذي ينداح ببطء ، وهو يذوب متلاشيا في الهواء ، كاشفا عن ابنة الانتظار والشك والخيال والنور . كان الميلاد . لم يوازه في الغرابة ميلاد سوي الظهور المفاجئ للأم .. انبعاث من الظلمة للنور ، وها كشف من الخفاء للعلن ، امتزاج للغياب بالبزوغ ، والفناء والتبدد بالاكتمال والحياة والحلول. فكأنما حلت الابنة محل الأم ، أو حلت الأم في الابنة . كانتا تكرارا ، كانتا شبيهتين ، كما تشبه عين الطائر عينه الأخري . لا تفترقان إلا في نضارة الإشراق ، فكأنما ذات الجمال والبهاء لا تفني ، ولكنها تتجدد فتشتد . خشعت عيون متطلعة ، وذابت قلوب ، وانحنت هامات . وحين رفت الأجنحة الشقيقة ، التي اخترقها ضي ضحوك بدوائر من ألوان ، وحلقت الابنة حقيقة حية متجسدة تشق الهواء ، كان فرح كثير وحبور . طارت طويلا ، وحطت في مواضع كثيرة ، وتبعها جمع غفير . حدث لغط عظيم ، وأعلم الشهود الغائبين و الجاهلين ، وصار للغزلان يومها شأن خطير . كان شغف كبير وتطلع ، أن تنطق الابنة ، أن تتلقف الآذان منها أول كلمة .. فلم تنطق . دعتها الأزهار للرحيق ، لتتغذي كما كانت أمها من قبل تتغذي علي الرحيق ، ولتفوز إحداهن بشرف الرشفة الأولي . لبت الدعوة ، رغبة تقودها ، ونداء داخلي غامض تجيبه ، لتسكت ناهز الجوع الذي ينهزها . عرفت طريقها ومنحاها . من زهرة لزهرة كانت تطير ، دون أن تقر علي أي منها . حسبتها الزهور مداعبة وملاعبة . الصغيرة الندية الغضة تلعب ؛ فتضاحكن ، وأردن المشاركة في اللعب ؛ فتمايلن ، وتصايحن داعيات متنافسات ، سمحات ، وتصاعد الصخب والمزاح والمرح بين الحاضرين ، بينما قلق الصغيرة ، ذعر الصغيرة ، توتر الصغيرة ، في ازدياد . لم تكن تلعب . جسدها الجوعان كان يصرخ بالعطل ، بالصموت ، لا يعرف السبيل لامتصاص الرحيق من الزهر . يحط علي الزهرة ، يتماس الكيانان فحسب دون اتصال ، ولا تصدر عن الجسد استجابة . لا ممصات ، ولا منفذ لاستجلاب أو سريان الرحيق . لحظت الحيوانات ، حين طال الأمر وخرج عن نطاق اللعب والدلال ، وازدياد أمارات الاضطراب والخوف والاحتيار ، والخرس . كانت خرساء ، انكشف أنها خرساء . أخذت تنظر للجموع في التياع ، وتصرخ العجز ، وصراخها صمت والتواءات وإبهام . ظلت تدور وتخبط في الهواء ، حتي غلبها الهمود ، فانهمدت . سقطت أمام العيون المتطلعة تحتضر ، العيون الهازئة منها والشامتة بلا سبب والذاهلة عطفا . يصارع الجسد الجاهل ، بالحركة ، ما لا يدريه . تري عيونه ما لا سبيل للإفصاح عنه . لم يكن له من العذاب من شافع ، حتي أدركته رحمة الخمود ، وتمت له نعمة الانتهاء ، فسكن الجسد سكنته الأخيرة . ارتفعت رؤوس دون اتفاق تطلعت بأبصارها نحو شمس السماء . رؤوس ورؤوس وعيون تتالي . وريح مطلوقة زاحفة مدومة أقبلت . قال البعض بعدها أنها الريح كانت متحفزة ، في غاية التحفز ، أو كانت كالمتحفز الذي استجمع قواه واندفع ، أو كانت كذيل الهواء حين يهب فيلفح الواقف إثر مرور مار به عنيف سريع . كانت كذيل عات لمرور جسم عتل جسيم ، لكنه غير منظور . اندفعت الريح فهاج السكون وعم الاضطراب وعج الغبار فلا تري فوق الرؤوس سماء وأغشيت الأبصار. وفي عسف الريح والعجاج غاب الجسد الوليد ، رضيع الحياة والموت ، ولم يبق له من أثر سوي الذكري في عيون وأفئدة . لم يدم سوي الحكاية وإرث الحكاية .. .. وظل يدمدم ويعيد : لم يدم سوي الحكاية وإرث الحكاية ، لم يدم سوي... ، ويغرق في مويجات من الصمت والإسبال بعد الترديد ، ويفيق فيعيد الحكي والإخبار من جديد كأنه يرويها للمرة الأولي ، ولا أدري كم مرة بلغتها الحكاية حد الآن ، ولا متي يسكت .. إن لم يكن هو فاسكت أنت . شعر السقساق ، القابع فوق ظهر التمساح ، أنه تحدث طويلا وبانبهار فسكت ، بينما يهزهز ذيله بحماس زائد واضطراب ؛ إذ لم يزل بداخله كلام يود لو يقفز من داخله قفزا ، ولسانه يتقلقل في جوف منقاره الرطب بنفس حماس الذيل . أغلق التمساح فكيه بعد أن هدأت حرارة جوفه واعتدلت . اختلج الغشاء فوق عينيه كما لو كانت تطرفان . رأي الشمس وقد مالت قليلا في السماء . طفق يفكر في قيظ الشمس ، والجوع .