ماراثون رياضي بجامعة عين شمس احتفالا بالعام الدراسي الجديد (صور)    الكهرباء: اتخاذ كافة الإجراءات الممكنة لمواجهة ظاهرة التعدي على التيار الكهربائي    أخبار مصر: موعد تشييع جثمان حسن نصر الله، قصة طرح شهادة استثمار بعائد 35 %، غموض موقف زيزو في الزمالك، ومفاجأة عن سعر الذهب    مندوب إسرائيل بالأمم المتحدة: سنرد بشكل محسوب على إيران.. ولا نريد حربا شاملة    ميسي يقود إنتر ميامي للتتويج بلقب درع المشجعين    درجات الحرارة اليوم الخميس 03 - 10- 2024 في مصر    حريق بشركة خاصة فى سوهاج والحماية المدنية تدفع بسيارتي إطفاء للسيطرة عليه    حزب الله يعلن استهداف تجمع لقوات إسرائيلية في موقع حانيتا بقذائف المدفعية    بعد إلغاء اشتراطات البناء.. هل تتراجع أسعار الحديد قريبًا؟    سبب مفاجئ وراء استبعاد حسام حسن ل إمام عاشور من قائمة منتخب مصر.. عاجل    موعد مباراة الأهلي وبرشلونة في كأس العالم للأندية لكرة اليد والقنوات الناقلة    زيادة 80 جنيها.. تعرف على سعر الذهب اليوم الخميس 3 أكتوبر    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الخميس 3 أكتوبر 2024    الفنانة منى جبر تعلن اعتزالها التمثيل نهائياً    تفاصيل حفل افتتاح مهرجان الموسيقى العربية في دورته ال32    إسعاد يونس تكشف موعد اعتزالها التمثيل عبر its show time    موعد مباراة مرموش مع فرانكفورت أمام بشكتاش اليوم في الدوري الأوروبي والقناة الناقلة    إعلام لبناني: 17 غارة للاحتلال الإسرائيلي على الضاحية الجنوبية خلال الساعات الماضية    حركة تنقلات محدودة في «تموين كفر الشيخ»    غداً.. قطع المياه لمدة 5 ساعات عن عدد من مناطق القاهرة    هجوم جديد ضد أحمد بلال بعد سخريته من الزمالك قبل السوبر الإفريقي    الجيش الإسرائيلي يعلن تنفيذ ضربات دقيقة على الضاحية الجنوبية لبيروت    حكم الشرع في أخذ مال الزوج دون علمه.. الإفتاء توضح    نجيب ساويرس: الواحد مبقاش عارف مين بيمثل ومين حقيقي    «البلدي.. لا يوكل» في الذهب| خبراء: حان وقت الشراء وخاصة السبائك    "فوز ليفربول وهزيمة الريال".. نتائج مباريات أمس في دوري أبطال أوروبا    أسعار الفراخ اليوم الخميس 3 أكتوبر 2024 بالأسواق.. وبورصة الدواجن الآن    قوتها تصل ل265 حصان... شاهد سكودا سوبيرب الجديدة    بشرى سارة.. علاج امرأة مصابة بالسكري من النوع الأول    منها تقليل خطر الزهايمر.. 7 فوائد لشرب القهوة    ما هي الصدقة الجارية والغير جارية.. مركز الأزهر يوضح    كيفية إخراج زكاة التجارة.. على المال كله أم الأرباح فقط؟    نجوم 21 فرقة تضىء مهرجان «الإسماعيلية للفنون الشعبية»    هانئ مباشر يكتب: غربان الحروب    أمل جديد لمرضى القلب.. تصوير مقطعي لتقييم تدفق الدم    "قومي المرأة" بالمنيا يناقش تفعيل مبادرة "بداية" لتعزيز التنمية البشرية وتمكين المرأة    الانقلاب يدعم المقاومة الفلسطينية بتجديد حبس 153 شاباً بتظاهرات نصرة غزة ً وحبس مخفياً قسراً    حرب أكتوبر.. اكتئاب قائد المظلات الإسرائيلي بعد فقد جنوده أمام كتيبة «16 مشاة»    محافظ الفيوم يُكرّم الحاصلين على كأس العالم لكرة اليد للكراسي المتحركة    حقيقة مقتل النائب أمين شري في الغارة الإسرائيلية على بيروت    حظك اليوم| برج الميزان الخميس 3 أكتوبر.. «فرصة لإعادة تقييم أهدافك وطموحاتك»    حظك اليوم| برج الأسد 3 أكتوبر.. «يوما مليئ بالإنجاز والفرح»    عبد العزيز مخيون يكشف تفاصيل مشاركته في الجزء الثاني من مسلسل جودر    قتلت زوجها بمساعدة شقيقه.. الجنايات تستكمل محاكمة "شيطانة الصف" اليوم    ضبط بدال تمويني تصرف فى كمية من الزيت المدعم بكفر الشيخ    ضبط تشكيل عصابي بتهمة الاتجار في المواد المخدرة بطوخ بالقليوبية    نشرة التوك شو| الزراعة تتصدى لارتفاع أسعار البيض والبطاطس.. وتأثر النفط والذهب بالضربات الإيرانية    تعدد الزوجات حرام.. أزهري يفجر مفاجأة    وزير الصحة الأسبق: هويتنا تعرضت للعبث.. ونحتاج لحفظ الذاكرة الوطنية    فوز مثير ل يوفنتوس على لايبزيج في دوري أبطال أوروبا    حدث ليلا| حقيقة زلزال المعادي.. وحقوق المنوفية توضح تفاصيل واقعة سب أستاذ للطلاب بألفاظ نابية    دمياط.. انطلاق فعاليات المبادرة الرئاسية بداية بقرية شرمساح    «احذر خطر الحريق».. خطأ شائع عند استخدام «الإير فراير» (تعرف عليه)    ضبط 3 أطنان لحوم حواوشي غير مطابقة للمواصفات في ثلاجة بدون ترخيص بالقليوبية    اغتيال صهر حسن نصر الله في غارة إسرائيلية على دمشق    أستون فيلا ينتزع فوزا صعبا من بايرن ميونخ في دوري الأبطال    عمرو موسي والسفير العراقي بالقاهرة يبحثان القضايا العربية على الساحة الدولية    الأحد المقبل.. وزارة الثقافة تحتفل بذكرى انتصارات أكتوبر المجيدة بحفل موسيقي غنائي (تفاصيل)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أبيض / أسود رحلة إلي جنوب أفريقيا
نشر في أخبار الأدب يوم 03 - 11 - 2018

كان حلما بعيدا يراودني أن أسافر إلي أفريقيا السوداء، قارتنا التي لا نعرف عنها شيئاً يذكر، كما أردت أيضا أن أزور كولومبيا بلد ماركيز والأرجنتين بلد مارادونا، والبرازيل بلد الرقص في الشوارع، والهند بلد أقصي الألوان والتوابل والمعابد والفقر. كل البلاد كانت مغوية آنها، السفر ذاته كان نداء ملحا، بل إن الهجرة كانت ضمن أحلامي للمستقبل. كنت أبحث عن أبعد مكان ممكن لأكبر فيه.
فيما بعد أنجزت بعض السفرات ولكن تبقت أفريقيا في آخر جدول الأحلام حتي هذا الصيف، صيف 2018.
كأنها كانت خطة محكمة أن تزامن عام سفري 2018 إلي جنوب أفريقيا مع توقيت احتفالها بذكري مائة عام علي ميلاد مانديلا.
الروائح مفاتيحي، ثلاثون عاما من التدخين لم تحجب قدرتي علي التدقيق والتمحيص والتفريق والاسترشاد ومتعة الاستنشاق، لازلت أفتخر بحساسية أنفي للروائح والخطر، غير أن غلالة من الدخان هي التي تشوش أحيانا صفاء الجو، لكنها لم تمنع موهبة أنفي قط.
منذ أسبوع تغزو أنفي رائحة قوية مثابرة، رائحة أعرفها، رائحة السكر في الهواء، تأتي من الذاكرة البعيدة وإفطار الإجازات في بيت جدي، الفطير »المشلتت»‬ بالعسل الأسود. نعم، هي رائحة العسل الأسود مخلوطة بعطر الأكاسيا وزهرة صبارة المارلوتي وجريان نهر التمساح.
أتأمل لافتات الطريق في الظلمة لننتبه معاً أنا وزوجي، هو الواقع تحت ضغط مزدوج ما بين العتمة والقيادة علي الطريقة الإنجليزية، ما نسميه نحن بكل غرور »‬بيسوقوا بالمشقلب». أتفاجأ بخط النار، منيرا، عريضا في الأفق، علي امتداد الغيط هناك. توجس قليل يثير فضولي، ليس هذا هو الحريق الأول الذي ألاحظه في هذا البلد.
سألت أصدقائي، أنا ضيفتهم في جنوب أفريقيا، أسكن بيتهم في منتجع مارلوتي بالمنطقة الشمالية الشرقية، بالتحديد في مقاطعة Mpumalanga مبومالانجا التي تلامس حدودها موزمبيق وسوازيلاند والحدود الجنوبية لمحمية الكروجر، حيث يفصلنا سُوَر من الأسلاك الخفيفة عن نهر التمساح.
يضرم أصحاب المزارع النار بحقول القصب. يحرقونه في غيطانه، يحرقون أوراقه علي الملأ هكذا، بلا خوف، وتتركز العصارة الحلوة به وتنحني العيدان أرضا، فتأتي الجرارات وعربات النقل لتحمله إلي المصانع.
كيف لا يخافون الحرائق؟ من أي قلب أتوا بهذا التعالي علي النار والثقة في قدرتهم السيطرة عليها، لابد أنهم حفظوا »‬تعويذة الحماية »‬ من أجدادهم و أجادوا »‬صرف العفريت».
بموسم الحصاد، يؤجر ملاك الحقول البيض عمالا زراعيين، السكان الأصليين، يحاوطون الغيط المشتعل بأجسادهم، ويشهرون فؤوسهم، وعندما تخرج النار عن الحد المسموح به يضربونها أرضا. تقنية قديمة للغاية، مؤكد أن ضحاياها كثر، صمدت أمام الزراعة الحديثة التي تغزو السافانا هنا، مؤكد أيضا أن ثمن حياة هؤلاء أرخص من أي اختراع أو وسيلة أخري لحصد السكر. حقول أخري وبقايا حشائش تلمحها سوداء متفحمة، إنهم يحرقون الأرض لكي تتطهر.
علي الطريق العريض المعبد المسفلت المؤدي إلي أقرب المدن كوماتي بورت تري حقولا علي امتداد البصر، فلولا أشجار الأكاسيا التي تنتهي قممها بخط أفقي كبصمة بصرية أفريقية ترسم حدودها علي الأفق ، لكنت تخيلت أنني في الغرب الأوسط الأمريكي، حيث المزارع الشاسعة والميكنة والمسافات المحسوبة هندسيا بين المحاصيل، تماما كالقصب والموز وأشجار البرتقال هذه.
تغرب الشمس الحمراء متسللة من خلف سحابات شتاء يوليو المبعثرة في السماء، سماء تبدو أكبر من التي أعرفها وسحابات كأنها مجاميع من الكومبارس يتحركون علي مسرح الطبيعة، يكسرون الضوء إلي ألوانه الأولي. ألوان ملتهبة وغير ملتهبة تقاوم تردد قدوم الليل، ألوان تغزو الأعالي والأفق حتي تستقر الرماديات الداكنة علي مهل شرقا. الحمرة تغزو كل شيء، النهر والطمي والوجوه والأشجار والحشائش الجافة وأنا، كأنه فعل اغتصاب السماء للكرة الأرضية.
نعم الطبيعة لها وطأة وسطوة هنا، أفريقيا السوداء، الأم أفريقيا، المسميات مستهلكة، كليشيهات اختصرت القارة في تألق وخصوبة طبيعتها فقط، لكنها مسميات لها أصل وسحر. سحر جعل المستعمر يظن أنه مروضها والعقل الفاعل بها.
يتجاور في هذا البلد الطابع الأنجلوساكسوني مع الأصل الأفريقي، ويتباعد الفقر عن الثروة بشكل سافر، تري الميكنة بجانب استواء القصب بالحرق علي الطريقة القديمة، الجرارات وعربات النقل الحديثة وعمال زراعيون يستوقفون السيارات المارة بالأوتوستوب بعد يوم عمل شاق لأن المواصلات معدومة حول الحقول ، كأنهم مجندون ريفيون بالجيش تركوا علي قارعة طريق مجهول »‬ليتصرفوا».
بالسوبر ماركت، تقع عيني علي رجل أبيض، يرتدي شورتاً في فصل الشتاء، قدماه حافيتان رغم »‬هندمة» ونظافة ملابسه فلا شبهة فقر بهذا الرجل!
نحتسي قهوة الصباح وننتظر »‬الرزق»، سيحضر قرد أم نسناس؟ غزال إمبالا أم كودو (نوع من الغزلان الكبيرة)؟ أم أن زرافة أنيقة سوف تلقي نظرة علينا من منظور عين طائر. نحن ضيوفهم هنا ضيوف فضوليون مستعمرون. لا، لسنا بهذا السوء، لسنا طامعين، فنحن نعد لهم عشاء كل يوم، نشتري ثمار الباباي و الموز والتبن ونلقي به أمام البيت لكل عابر.
عند اقتراب انتهاء الْيَوْمَ، ما قبل الغروب، يزداد نشاط الحيوانات، يبدو أنها لحظة البحث عن آخر الزاد فتتجرأ أكثر من العادة وتقترب، ربما أدركت أننا حيوانات صديقة.
القوانين هنا صارمة بشدة، لا تسمح لنفوس الصيادين بالانتشاء. كما أن السكان يعينون أنفسهم مراقبين لأي هفوة أو شر قد يساور أحدهم. في مارلوتي فقط نستطيع أن نطعم جيراننا بحرية أما داخل حدود محمية الكروجر الرسمية لا يسمح لأي سائح إطعام حيوان.
لا يسكن الجنس الأسود هنا، يأتون للخدمة في البيوت فقط أو لتشييدها بناء علي رغبات ملاك جدد، يبنون بيوتاً بأسقف أفريقية، مستوحاة من طراز الأكواخ في زمن ما قبل الاستعمار، وأعمدة خشبية ترتفع للسماء لتشكل مخروطا عملاقا يتم تغطيته بطبقة من القش السميكة و يعلو قمته طين الأرض الأحمر القاني. فيكتمل بيت الإجازات الجميل ليسكنه مالك من ال »‬البوير» الذي سيطر أجداده الهولنديون علي هذه المنطقة قديما من قبل حروبهم مع الإنجليز علي المستعمرة.
هم فلاحون فقراء في الأصل، لا تخطئهم عين، لا يمكن أن يلتبس عليك أحدهم مع سائح أوروبي، يركبون في معظم الأحيان سيارات الدفع الرباعي رغم أن الأرض معبدة تماما لأي سيارة عادية، يتحركون كعائلات منصهرة، طوال القامة، معظمهم ضخام الأجسام، كالأمريكيين والألمان والشعوب الغنية. قياسات ملابسهم كبيرة بشكل لافت في المحلات تصل إلي ال(((L. حتي إننا واجهنا صعوبة في شراء تي شيرت للذكري علي قياس زوجي الذي يجاهد الْيَوْمَ للتخلص مما تراكم من أطايب المأكولات الأفريقية بجسده.
أهو شعب لاحم بشكل خاص؟ تبدو مظاهر ثقافة الشواء في كل مكان. عندما تتوقف في متجر ملحق بمحطة بنزين بحثا عن زجاجة ماء أو مكان لقضاء الحاجة، متجر للعصائر والشوكولاتة والمحمصات، ستجد بجانب كل هذا أكياس الفحم وأدوات الإمساك باللحم الساخن وشوايات للاستخدام مرة واحدة فقط. علي يسار المقرمشات ستلاحظ أكياسا معلقة بها قطع صغيرة من القديد المبهر، يسمي بولتونج. تشتهر به جنوب أفريقيا. ففي بلد أسعاره عالمية، تباع اللحوم بأنواعها بنصف أسعار أوروبا أو ما يقل. لكن نصف أسعار أوروبا قد لا تناسب الكثيرين هنا، فإذا تبضعت بأسواق هؤلاء الكثيرين، ستجد الثلاجات مليئة بأرجل الدجاجات يليها لحم الخنزير لحم الفقراء في معظم الدول عموما.
مرة أخري يصادفني طفل بصحبة رجل بالغ، من تشابه ملامحهما يبدو أنه أبوه، يلبسان »‬الشورت» مع حفاء الأقدام أيضا، تماما كالرجل الذي لمحته في السوبر ماركت وجاهدت نفسي لأحرف نظرتي عنه، من باب الذوق والتربية القويمة، كأنني ضبطته عاريا. لا ترتبط هذه العادة بأي حال من الأحوال بالمستوي الاجتماعي، فالرجل الحافي الذي يلبس شورتاً في شتاء جنوب أفريقيا والذي بدا لي مظهره عبثيا بعض الشيء أطلق خيالي لمحاولة تفسير هذا، فأنا بالفعل لا أعرف من أي مصدر جاء هذا التقليد. قد يكون تقليدا أو سلوكا مرتبطا بالفلاحة القديمة أوما يُسميه أبناء المدن احتقارا »‬جلافة فلاحين». لكنهم الْيَوْمَ أبعد ما يكونون عن الفلاحة، هم أسياد الأرض والاقتصاد والصناعة والمال والذهب والطاقة النووية.
فعندما استقبلني هذا البلد، وكنت ما أزال علي الطريق الواصل من مطار جوهانسبرغ إلي بيت الأصدقاء، رأيت البخار الكثيف يخرج من الفوهات العملاقة للمفاعل النووي الأول قبل أن يظهر التالي عليه، فسقطت بقلبي القبضة التي أعرفها كلما رأيت هذا البخار، البخار الناتج عن عملية التبريد، تبريد الجحيم المدمر المصنوع بإرادة وقصد الإنسان.
جنوب أفريقيا بلد من العالم الأول استقر في أقصي جنوب القارة السوداء، يحتضنه محيطان عند التقائهما، بلد يتكلم إحدي عشرة لغة، ويسكنه واحد وخمسون مليون إنسان، تسعة بالمائة، منهم لهم بشرة بيضاء وعشرة بالمائة آسيويون، أغلبهم هنود، أما السواد الأعظم فيمثل واحداً وثمانين بالمائة.
الكروجر بارك هي كبري المحميات الطبيعية في أفريقيا، تعادل مساحتها أقل قليلا من أربع مرات مساحة بحيرة ناصر كبري البحيرات الصناعية في العالم، فيها أشكال وألوان من حياة البرية، بين حيوانات عاشبة وأخري لاحمة وما بينهما، كائنات نهارية وليلية وتحت أرضية، ممالك للحيوان والحشرات والنباتات لا تحصي. ورغم هذا التنوع فالظاهر منه هو محض صدفة خالصة. يمكنك أن تري ال pangolin البنغول القشري في أول يوم تزور فيه المحمية ويمكن أن تعيش سنوات بل حياة كاملة في المنطقة دون أن تكافئك الاحتمالات بنظرة إلي هذا الكائن المدهش، آكل النمل المتسلل ليلا، والمهدد بالانقراض.
أما زائر مثلي، لا عين له خضعت لتدريب الرؤية وحدس البصيرة، فسوف يري الفتات دون مساعدة صديق أو متخصص. أعبر بجانب حفرة كبيرة تتناثر علي حدودها أكوام صغيرة من الطين اللدن دون أدني انتباه، يستوقفنا حارس المحمية ليفك الشفرة ويشرح أن هذا الطين هو فضلات ذكر خرتيت يحدد نفوذه علي جسد مملكته، وبعد دقائق قليلة رأيت الخرتيتة الأم والطفل بذيلها يتجولان.
ما يبدو كومة طين جافة ترتفع عن سطح الأرض بمتر أو نصفه أو أكثر أو أقل، ما هو الا بيت للنمل، بيت نسجته النملات البيضاء من لعابها المخلوط بالتراب، إسمنت طبيعي، شديد الصلابة، طابق فوق طابق تشغله البناءات بصبر أيوب وتكمل البناية الحمراء الطوبية، فأتخيل غرفها الداخلية وممرات الحركة بها، كل هذا سيظل خفيا علي إلا إذا حالفني الحظ وصادفت البناية مهدمة.
أقول إنها الصدف السعيدة، لا ليست الصدف السعيدة فقط ما تجعلك تري، إنه تعلم الرؤية. سأستعين إذن بخبرة الخبراء وأشحذ استنفار ما بي، لأبصر. لعل أجمل الهدايا التي يمنحها السفر للمسافر هو هذا الاستنفار للحواس والعقل، هذا الجديد الذي يثير الفضول ويجدد الدهشة.
غزالات الإمبالا في كل مكان
أعلي ظهرها لون طحيني دافيء، أعلي بطنها أفتح قليلا وأسفل بطنها أبيض، خلف كعبيها خطان أسودان كسهمين موجهين لأعلي مؤخرتها يشيران لعانتها، أيكون هذا هو الإغواء؟ لكن ذكر الإمبالا أجمل منها بشكل لافت! من منهما يغوي الآخر يا تري؟ يختال بقرونه الحلزونية الطويلة، ويحكم الحماية علي إناثه، فتراه يراقب وهن يأكلن أوراق الأشجار بهدوء.
أبهرتنا جميعا غزالات الإمبالا أول الأمر، ولكن بمرور الوقت وكثرة مشاهدتها، لاحظت أننا لا نعيرها اهتمامنا الأول، أهملنا كل هذا الجمال هكذا ببساطة، فقط لأنه متوفر كالزجاج، ليس ماسا مختبئاً في منجم، الأول رمل والثاني فحم في الأصل، لكن الندرة هي القيمة الحقيقية لفحم الماس، القيمة التي تدخل الأسواق والأمزجة و تباع لأحلام السيدات الوثيرات.
وللماس قصة أخري في جنوب أفريقيا، فلو كان له صوت وروي حكايته ربما ارتعبنا منها وخلناه شؤما أو تميمة للموت. هوت مناجمه علي رؤوس مستخرجيه وجلب لهم الفقر والاستعمار، وأشعل مذابح أكبر من أن يخفيها سجل التاريخ الرسمي.
بدأت القصة في ديسمبر 1866 عندما عثر الصبي إيراسموس جاكوبس البالغ من العمر خمسة عشر عامًا علي صخرة شفافة في مزرعة والده ، علي الضفة الجنوبية للنهر البرتقالي، Orange کiver. وفِي حسبة سنوات قليلة كانت مناجم جنوب أفريقيا تنتج أكثر مما أنتجته الهند في ألفي سنة بحسب الموقع الرسمي لمتحف الألماس في كيب تاون.
الماس، الذهب، اليورانيوم، النحاس، ثروات وافرة لم تجلب سوي الألم والفقر والحروب لسكان البلاد كلعنة اكتشاف البترول في منطقتنا.
بعد استراحة الغذاء التي تحدد إدارة المحمية نقاطا محددة للتوقف عندها، تتحرك السيارة ببطء ونفتح عيونا نهمة لرؤية أول حيوان سوف يكشف عن نفسه، فيصيح ابني: فيييل!!، وأصيح أنا، فيلان !!، فإذا بقطيع أفيال كامل علي يسار ويمين طريقنا، فيقود زوجي السيارة لل »‬خلف در» احتراما وربما توجسا أيضا، إذ لا يوجد عاقل يمكن أن يقف عائقا في طريق الأفيال. فلا طير أبابيل هنا تدافع عنا.
يقولون: إن رأيت أسدا أمامك فتأكد أنك في نفس اللحظة لا تري الثلاثة أسود الأخرين الذين يحكمون عليك الحصار، إنك في المصيدة .. أصبحت طبق يومهم. هذا إن كنت مترجلا أما إن كنت محميا داخل سيارة وتبحث بكامل إرادتك عن الوحوش، أؤكد لك أن المتوحشين لا يشاهدون بسهولة، لقد حالفنا الحظ برؤيته مرة، فهذا، ما يسميه الإنجليز شيتا، لم يكن بعيدا عنا، كان علي مسافة مناسبة لرؤية تفاصيله بالنظارة المعظمة، أما جائزتنا الكبري لاحت عندما فجأة توقفت أول سيارة فإذا برتل السيارات يقف، الواحدة تلو الأخري. إنه هو بالفعل، ملك الغابة.
لا يشبه في شيء أشلاء إخوانه الأسود الذين يقضون سنوات العمر وراء قضبان حديقة حيوان الجيزة، هو ملك، يختال ملكا ونظرته الكسولة نظرة ملك وله ثقة ملك وعضلات نافرة وجدت مساحات رحبة لتنمو وتشتد وتتسلق وتتصلب وتشكل جسدا حرا.
حرا من سوط محمد الحلو ، مدرب الأسود بالسيرك القومي الذي قتله الأسد سلطان علي مرأي من جمهوره في أواسط سبعينيات القاهرة. خيمت هذه القصة علي الفضاء العام آنذاك وعلي يوسف ادريس خاصة، فكتب عنها قصة قصيرة »‬أنا سلطان قانون الوجود» مستخدما الرمز للبوح السياسي، كما خيمت، أيضا، علي طفلة تزور مع خالها الشاب حديقة الحيوان، مفعمة بدراما الدم والخيانة والندم، تنظر إلي سلطان المتهم بجريمة قتل، محبوسا مستكينا للاكتئاب وللهزيمة، أهذا ملك الغابة؟!
قتل مدربه في لحظة غضب ندم عليها كما يقولون أم أنه قد سئم من كونه المهرج الذي يقفز في دائرة اللهب فيصفق الجمهور، من إشارات الحلو الموجهة بالسوط واستعراض سطوته علي جسد سلطان، سئم حتي غرز مخالبه في كل هذا الصخب ليعطله.
وفِي صباح ما، عندما فتح الحارس (الكلاف) باب القفص، وجده منزويا ميتا كأي منتحر في زنزانة أصابه الهبوط الحاد بالدورة الدموية. هكذا صمم الإعلام قصة سلطان الأسد.
عودة إلي مارلوت بارك حيث ال »‬بوش بيبي» أو »‬قرد الآي آي» يؤنسنا كل ليلة ونحن نجلس بحديقة البيت، متحلقين حول الطاولة الخشبية لتناول العشاء علي ضوء لمبة »‬الجاز» ورطوبة الليل. البوش بيبي هو أحد فروع الشجرة التي انتهت إلينا، لكنه حيوان خاص، عزل في رحلة التطور الداروينية في جزيرة مدغشقر عندما انشق البحر واحتالت الأرض إلي قارتين. تطور سلسال أجداده القردة إلي هذا الكائن دقيق الملامح والجسد واسع العينين بضراوة، ليلي الهوي، قليل الثقة، سريع القفز. يقفز كبرغوت عصبي ليلتقط قطع الموز الصغيرة التي وضعتها ابنتي علي سطح مائدتنا؛ ستون سم فقط تفصلني عنه، أنظر إليه، ينظر إلي، ونتواجه كأي كائنين يحسبان تصرفهما التالي حيال الآخر، مرتكنين إلي مجسات الخطر الغريزي. فأتذكر كم أنا حيوان أصلي نسيت نفسي في غابة الأسمنت هناك حيث »‬التمدن والحضارة» !
تزورنا أيضا الخنازير البرية القبيحة بفعل الطبيعة. مساكين هؤلاء الذين وقعوا ضحايا لعشوائية صدفها، لا تعدل الطبيعة في تجلياتها للأسف، بل أحيانا تمعن في ظلمها وتبدع قبحا صافيا: ضبع سمج أكبر طموحه أكل الجيفة، انتهازية عُقاب يحوم علي الحافة ريثما يموت المحتضر، تضارب نسب جسد طائر لقلق لص يبدو منقاره كبيرا كأنه حذاء رجل بالغ في قدم طفل، مساكين هؤلاء، لم تسعدهم الطبيعة بأي جمال، لكن القبح لا يحدد نجاح النوع في الاستمرار والتوسع علي الأرض. فالبقاء للأقوي دائما وإن كان قبيحا.
بضم ظبي النو إلي الخنزير البري والعقاب وطائر اللقلق والضباع، ستكتمل مجموعة القباح الخمسة the ugly five الذين تجد صورهم مطبوعة علي التيشرتات المتداولة في المحلات، كطرفة سياحية.
وإن أضفنا لهم الثعابين والتماسيح والنباتات آكلة اللحوم وهراوات الشرطة وإطارات السيارات والموتوسيكلات المحروقة علي المتاريس، سنكون قد كونا مجموعة أوسع من المفردات البصرية والرموز التي استخدمها الفن التشكيلي الجنوب أفريقي علي الحوائط واللوحات، منذ انتفاضة سويتو 1976 وخلال حقبة الثمانينيات. ففي الوقت الذي كانت الرقابة محكمة علي الكتب والجرائد، كانت الجداريات والستانسل المرشوش خلسة ليلا يحتل الفراغ العام ويحفر طريقا واثقا إلي المتلقي للتواصل والمقاومة معا.
هوامش
- سويتو: الحي الذي سكنه نيلسون مانديللا وعزل فيه السود في جوهانسبرج
- ثورة سويتو في 16 يونيو عام 1976, استمرت نحو ستة أشهر كانت مرحلة تاريخية في حياة جيل كافح ضد حكم الاقلية البيضاء في جنوب أفريقيا آنذاك وامتدت شرارتها إلي كافة أنحاء جنوب أفريقيا مخلفة ما بين 500 و600 قتيل شاب.
ثمانينات جنوب افريقيا اختلفت كثيرا عنها في القاهرة، فلم يكن أحد يحط من شأن الفن إن ارتبط بالسياسة، ولا وُجد مثقفو »‬قهاوي» يدافعون عن نظريات القرن التاسع عشر القديمة للغاية ويمجدون الفن للفن وهم يشربون ال »‬رويبوس» وهو المشروب الشعبي الذي يضاهي الشاي في مصر. باختصار لم يتمتع مثقفو ولا فنانو جنوب افريقيا بهكذا رفاهية للخوض في نقاشات شبيهة. كان الفن منخرطا في معمعة السياسة والحياة حتي الأنف والرئتين.
ففي بلد يتم فيه حظر التجمعات الجماهيرية والممارسة السياسية وتشديد الرقابة علي الفن والأدب والصحافة والحياة ، سبق »‬فن الشارع» الكلمة المكتوبة. فالمشهد الحضري يقدم أسطحا عديدة كلافتات الإعلانات والدعاية والمباني العامة، مساحات جذابة للغاية للاعتداء عليها تحت غطاء الليل وإخضاعها بالرسم لمساحة للتواصل و للتضامن والمقاومة، فانتشرت »‬عصابات الفنانين» guerilla artist الذين هاجموا الحيطان بالألوان واللفظ والخط والصورة والملصق.
الأبارتايد
كذب أن الفصل العنصري انتهي رغم ابتسامة مانديلا الساحرة علي أوراق النقد المحلي، الروند. كل ما تغير هو التعبير المفرط عن هذا التمييز. كنت أتجول بالسوق الشعبي الأسود أول أمس، في مدينة كوماتي بورت الصغيرة الأقرب إلي الحدود الموزبيقية، لا يختلط السكان في الأسواق هنا، البيض لا يشترون نفس بضائع الشعب الأسود، تماما كمحلات الماركات العالمية للأزياء بسيتي ستارز أو مول العرب وفرشات الملابس المستخدمة في وكالة البلح لا تختلطان، فلا مبرر للألوان أن تمتزج.
بائعات البطاطس والباباي والأفوكادو والطماطم والبصل يفترشن الطرق والساحة الرئيسيّة، بجانبهن الرجال يبيعون من فوق عربات نصف النقل »‬البيك أب». يأتي الموزمبيقيون إلي هنا لشراء البضائع رخيصة الثمن ويعودون بها، من أجل التجارة أو الاستهلاك. أما علي النقطة الحدودية فتراهم ينتظمون في طابور بحثا عن عمل في البلد الجار الأغني، بالطبع هم العمالة الأرخص لأنها عمالة غير مدربة، وبلا أوراق رسمية تحميها.
علي الجهة المقابلة من الشارع ألمح الجزء العلوي من سيارة قديمة، مزروعة في الأرض، بجانب الرصيف، أمام متجر الكحول، لم أستطع أن أتبين موديلها، مكتوب علي زجاجها الخلفي. »‬الأسود مثار للريبة دائما»، تصاحب العبارة صورة لوجه شيطان أسود بقرنين.
أتكون رغبة الذاكرة الجمعية في البقاء هي التي دفنت تلك السيارة القديمة هنا وحولتها لعمل فني معاصر؟ أم أن الأزمة لازالت حاضرة؟
لم أصادف عاملا أبيض في مدة شهر قضيته في جنوب افريقيا، بين الشمال والشرق، لا بائع في محل ولا نادل في حانة أو جارسون في مطعم أو عامل يصلح طريق أو جامع قمامة أو سيدة بيضاء تجلس علي مقعد الدفع (الكيس) في سوبر ماركت، لا يوجد. كلهم من الشعب الأسود. البيض يملكون والسود يعملون إن أردنا اختصار الأمور دون استثناءاتها، شعبان يعيشان بالتوازي ، السكن والمتاجر والبارات والمطاعم والجغرافيا كله بالتوازي، والتاريخ الذي تقاطع يوما بينهما تؤكد مجازره هذا التوازي.
جوهانسبرج، حي سويتو
في سويتو سكن مانديلا.
في سويتو، غيرت أنا المعسكر، تركت البيض وسكنت عند السود، في بيت يؤجره أهله للعابرين مثلنا وتعرفت علي ستلا الجميلة، سيدة البَيْت.
يصعب أن تكون متابعا بسيطا لذاكرة الفصل العنصري، أو صادف أن شاهدت فيلما عن سبعة وعشرين عاما »‬سجن انفرادي» من شباب مانديلا حتي الشيخوخة علي جزيرة روبن التي لم يفلح الا سجينا واحدا خلال ثلاثمائة وخمسين عاما من الاحتلال الأبيض في الهرب منها، أو أنك ثبتت في ذهنك صورة أول ظهور ل مانديلا بعد الانعتاق علي تليفزيونات العالم كثمرة نضال شعب عنيد، سيصعب عليك حينها أن تكون محايدا حيال مثولك أمام بيت الرجل الذي خرج من سجنه يبشر بالأمل بعد ظلم فادح، ثم يصبح أول رئيس أسود لجمهورية جنوب أفريقيا ويطوف العالم مرتديا قمصانا مبهجة بألوان القارة السوداء. الحياد العاطفي أمام بابه وسطح مكتبه وفِي مواجهة سريره لا يمكن أن يحدث، فإن التعاطف والطاقة التي تنبعث من المكان سابقة علي زيارته أصلا.
مانديللا المبشر بعالم ما بعد الأبارتايد وسفير السلام والسلم والتحول الديموقراطي لم يختر المقاومة السلمية علي طول الخط. طالبا بالجامعة، انضم نيلسون مانديلا إلي حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، وأسهم في إنشاء »‬رابطة الشبيبة» به، وزادت شعبية الحزب وتحول إلي حركة جماهيرية تضم عشرات ومئات الآلاف من السود، وقاد نضالات بلا عنف ضد نظام الفصل العنصري، حتي عام 1960. في هذا العام، حدثت المذبحة، ارتكب النظام مجزرة شاربفيل، تلاها حظر تام لكل المنظمات السياسية الممثلة للسود. فإذا بالكفاح المسلح يستبدل المقاومة السلمية، فيؤسس مانديلا مع الشيوعيين منظمة »‬رمح الأمة» المسلحة إلي أن يتم اعتقاله عام 1962 ليمضي إلي جزيرة روبن، رافضا خلال سبعة وعشرين عامًا كل عرض يقايض الحرية بالتوقف عن الأنشطة السياسية والاستكانة لواقع الأمور.
مجزرة شاربفيل
العاشرة صباحا، في 21 مارس أول أيام الربيع عندنا، عام 1960 وأول الخريف بجنوب أفريقيا ببلدة شربيفل، تقدم عشرة آلاف أسود يومها، متوترين وهادئين، تقدموا لتسليم أنفسهم لقسم الشرطة لأنهم لا يحملون »‬دفتر العبور»، فدفتر العبور هذا كان شيئا أشبه بباسبور محلي فرضه النظام علي كل ذكر أسود يريد أن يذهب أو يئيب من مدينة إلي أخري بداخل البلد، دفتر به معلومات دالة علي هوية حامله وجهة عمله وتاريخه، وتقبض الشرطة علي من لا يحملونه، لأنهم بحسب القانون خارجون عنه.
سرعان ما تضاعف العدد، كذلك الشرطة والكلاب والهراوات والمدرعات والخرطوش والأعيرة النارية وأُطلقت غازات الدموع وحلقت الطائرات فوق الجميع وحدثت مجزرة شاربفيل يومها وسُجل يوما تاريخيا لسفك الدماء.
نتبع علامات الطريق وإشارات يد الرجل صاحب الجيليه الأصفر الفسفوري حتي نصل إلي مكان صف السيارات لنزور مانديللا، نفتح أبواب السيارة ونخرج في نفس اللحظة التي تظهر أمامنا مجموعة من الشبان والشابات، بأجساد شبه عارية، يزينونها بجلد الغزال وقواقع المحيط التي تهتز محدثة شخشخة مع كل حركة رقص محسوبة بينهم. رقصة كالطعام البايت، المتكرر مع قدوم كل سيارة، بلا روح، فقط الشفقة علي تلك الأجساد العارية في برد يوليو هي ما جعلتني أهم مسرعة لوضع بعض النقود في الطبق المعد لهذا الغرض، لأتخلص من الشعور المربك دائما عند مواجهة المتسولين.
هكذا استقبلنا مانديلا كما يستقبل خوفو وخفرع مريديهما من السواح بصيحات أصحاب الجمال والكروت ذات الصور المحنطة، مانديلا أصبح مزارا سياحيا، بينما سويتو لازالت علي عهدها القديم فقيرة، مفعمة بالمخدرات الرخيصة، والآمال المجهضة. تحول الرجل إلي تي شيرت، وأكواب تباع وتشتري في السوق، موديلات قمصانه »‬المبهجة» تباع في دكاكين الحي الذي عزل فيه السود تحت الأسقف الصفيح وقتما كان عليهم أن يستخرجوا »‬دفتر العبور» هذا للانتقال، الحي الذي انتفض في 16يونيو 1976 وغير مسار المعركة.
اليوم تنشر الجرائد المحلية مانشتات غضب واعتراض مدير المتحف/ السجن (سجن روبن) من فعل فاضح ارتكبته مؤسسة »‬EO SleepOut الخيرية، بمناسبة العيد المئوي لميلاد مانديلا 18 يوليو 2018. فإذا بالمؤسسة التي تنظم سنويا »‬ايفنت»، طيب النية، لمساعدة الفقراء حول العالم، تجمع من خلاله التبرعات لساكني الشوارع ال »‬بلا مأوي» ، أعلنت هذا العام عن مزاد وفتحت باب المضاربة علي سعر قضاء ليلة في زنزانة مانديلا الانفرادية علي الأثير. تحت شعار
once-in-a-lifetime honour
شرف العمر؟
وصل سعر قضاء ليلة في حضرة أسطورة مانديلا الي ثلاثمائة ألف دولار أمريكي في غضون ساعات!! ثلاثمائة ألف دولار ثمن عرضه الأغنياء بشدة لليلة وهم يبحثون عن لعبة مثيرة أو مغامرة صبيانية تقتل الملل.
نقطن في غرفة فيها سرير مزدوج، أرضيتها قنالتكس (الاسم المصري)، يغطي الأرضيات مشمع بلاستيك سميك، قبيح قبح الفرومايكا والموكيت. لم أشعر بأي قبح هنا، كانت غرفة نظيفة يعلو دولابها ساكسيفون، عرفت فيما بعد أن أبو لونجي زوج ستلا، كان موسيقيا يعزف في الحانات.
البيت عبارة عن أربع غرف تطل علي حوش به حوض وصنبور للماء البارد أمامه حمام صغير لقضاء الحاجة، وممر طويل نسبيا آخره تجويف مربع وستارة بلاستيك، حيث يمكن للسكان أن يغسلوا أجسادهم بالماء الساخن؛ ثلاث غرف نوم ومطبخ يفتح بابه علي غرفة جلوس بها مدفأة، التي تفتح بدورها علي حديقة صغيرة بها ركن للشواء منحوت في سمك جدار السور المحيط بالبيت. نعد العشاء وتضيف ستلا خلطة مصاحبة حارة فاتحة للشهية، بعدما عرفت أنني الوحيدة التي تقدر الحار في المجموعة، فإذا بها تقطع قرن فلفل وقطع بصل صغيرة، تضعهم في طبق الخل وتضيف الملح، ابتسم لها وأخبرها أننا نأكل نفس الخلطة علي الجانب المعاكس لخط الاستواء.
من هنا أخذتنا ستلا لحي الأقمشة الهندية والافريقية وإلي السوق الذي يجاور النصب التذكاري لتأسيس أول دستور مشترك 1993 الذي تم العمل به 1997. وهنا جلست مع ابنتي أربع ساعات بالتمام وهي مستسلمة علي غير العادة لأصابع لينديويه الماهرة، كوافيرة الشارع الموزمبيقية، تجدل شعرها في صفوف دقيقة. تبيع حرفتها علي ناصية طريق رئيسي بالسوق، رأس مالها كرسي بلاستيك بلا ظهر، ومجموعة من الأوراق المغلفة بطبقة بلاستيكية، ترتبها في كرتونة، أوراق تبيّن كل أشكال الضفائر التي تستطيع جدلها.
لحسن الحظ أننا كنّا نقطن تحت السقف الصفيح الملون، عند ستلا، عندما حان موعد مباراة نهائي كأس العالم، حمدا لله لن يحدث هنا ما حدث لنا هناك، عندما شاهدنا مباراة من دور الثمانية، فذهبنا جميعا إلي الكافيه ذَي الشاشة الكبيرة المعدة، وعندما انتهي الشوط الأول، جاء النادل يعتذر عن مواصلة المباراة لأن هناك ماتش آخر للراجبي سوف يبدأ بعد قليل، اندهشنا و تفاوضنا وفشلنا وفهمنا أن الراجبي هو ما يعادل في شعبيته كرة القدم في مصر والبرازيل عند الشعب الأبيض، أما كرة القدم التي نعرفها فجمهورها هنا أسود. ناهيك عن الاحباط الناتج عن بتر مشاهدة »‬الماتش» أضفت إلي معارفي حينها أن المزاج الرياضي أيضا يخضع إلي لون البشرة.
وعندما حان موعد مباراة نهائي كأس العالم ذهبنا مع ستلا إلي البار المجاور للمشاهدة، كانت الأجواء تستعد للاحتفال. القارة الأوروبية البعيدة تنافس بعضها علي نهائي البطولة، سيحتفل الشباب هنا علي أي حال بأي فريق، لا يهم.
لعلها المرة الأولي التي أحضر فيها مباراة كرة قدم علي إيقاع أغنيات، افريقية، لا تعليق من مذيع ثقيل الظل ولا تشنج، لا لملء الفراغ بالجمل الفارغة، كانت الأغاني تنبعث من مصدر آخر والماتش علي شاشة التلفاز والمشاهدون يهللون للعبة الحلوة.
وعند انتهاء المباراة، علت الموسيقي وتدفق الرقص، وعند نهاية الشارع في الساحة، كانوا يتبارون ويستعرضون بسياراتهم كم عدد الدوائر المتتالية التي يستطيع أن يحرزها سائق السيارة للخلف وجمهور الحاضرين يصفق ويصفر.
سيارات فخمة ما بين البي إم دبليو أو المرسيدس وأشياء أخري. سيارات لا تشبه بأي حال من الأحوال الأسقف الصفيح الملونة التي تغطي البيوت هنا.
اندهشت صديقتي وسألت ستلا والفضول يؤرقها، »‬... لكنها سيارات فخمة يا ستلا، من أين لهم بأثمانها؟ »، قالت ستلا: بالتأكيد لا يملكون أثمانها، إنهم يسرقونها. حير صديقتي حياد الإجابة فمالت علي تخبرني وعيناها مفتوحتان يلوح منهما القلق، ابتسمت لها، بل سعدت في قرارة نفسي بهذا الانتقام المراهق الذي ربما يشفي الغليل.
في عام 1948 ، فاز الحزب الوطني الأفريكاني (الأبيض) في الانتخابات العامة تحت شعار »‬الأبارتايد» (الفصل العنصري).
متحف الأبارتايد
كانت السماء ملبدة بالغيوم، هكذا سأستخدم التعبير الدارج جدا حتي الضجر، كنت بالفعل ضجرة هذا الصباح، معتلة المزاج، بردانة، لون الدنيا رمادي بلا شمس. أأكون وقعت في فخ سويتو؟ كثيف هذا المكان، يثقل علي بكل المشاعر، الجميل منها والحزين، الطامح للأمل والمؤلم والمبهر المبهج والبائس. بهذه الروح ومنظر السماء الملبدة بالغيوم ذهبت لزيارة متحف الأبارتايد، الفصل العنصري، بجوهانسبرج.
بعد دفع التذاكر، خطوت أولي الخطوات في العتمة ثم انساب ضوء جانبي من فتحة زجاجية علي مستوي الأرجل، طويلة ونحيفة كشباك كنيسة قوطية بدون ألوان، من خلالها شاهدت ساحة واسعة ممتدة، أرضيتها حصي سوداء صغيرة، تناثرت بها قوالب طوب، قالب كل خمسين سم بالتقريب، مدفون بالأرض إلا سطحه العلوي محفور عليه اسم شهيد.
مذبحة تليها مذبحة وإضراب تدعمه مسيرة وانتفاضة يتبعها قانون طوارئ، وسجن يتوج بمنفي، وقتل بالمجان في الشوارع، ونضال التلاميذ في المدارس لتعلم لغتهم الأم، وأوان وصوان منزلية تستخدم كدروع للحماية من اختراق الرصاص للعيون والقلوب، كل هذا مكتوب بكلمات أصحابه ومصور بكاميرات معاصريه ومفرود علي حيطان المتحف صارخا. مانعا النسيان أو »‬التسامح»، فالتسامح في الدم ليس بفضيلة.
اختنقت كمدا، توقفت عن المشي ثم تراجعت، لم أكمل الجولة للنهاية، لربما النهايات المفتوحة تجدد الأمل. سأعتبر المتحف حافزا لتنشيط الذاكرة أو تنظيم الأوراق وترتيب الماضي ومراجعة دقيقة للأسماء والدماء وحقوق الحاضر لعل الجولة القادمة تكون أوفر حظا.
انتهي الشهر وعدنا إلي حر ورطوبة أغسطس بعد رحلة طيران دامت ثماني ساعات من أقصي جنوب القارة إلي شمالها وساعتين إضافيتين في شوارع القاهرة للوصول إلي بيتنا.
ألمح ابني يرتدي بنطالا طويلا وقميصا بأكمام، أندهش فهو المنبهر بمو صلاح ورونالدو وملابس اللاعبين يلبس بنطالا طويلا! أقترح عليه أن يرتدي شورت وتي شيرت ليتحمل الحر، فيقول لي:
•ايه ده! هو انتو طلعتو الهدوم الصيفي؟
أبتسم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.