ارتكبت الدراما أخطاء وخطايا كبيرة في حق الصعيد، وكلها تصب في خانة الجهل بذلك الجزء الشاسع من الوطن، وعدم الدراية بلهجاته المتعددة، وطبقاته المختلفة، وثقافته، وتغيرها من زمن إلي زمن، وتم اختزال الدراما في لهجة ركيكة وفجة وشديدة المبالغة وقضايا تتعلق فقط بالثأر والشرف، وكأن الصعيد لا يعرف سوي هاتين القضيتين، وإن كانت الاستثناءات حاضرة علي قلتها. مسلسل "الخواجة عبدالقادر" واحد من تلك الاستثناءات. صحيح أن المسلسل يتتبع رحلة الخواجة البريطاني الهارب من خيانة زوجته والكاره للحياة ومدمن الكحول، هربرت، وانتقاله للعمل بالسودان وتعرفه إلي مجموعة متصوفة هناك، دلوه علي طريق الله، إلا أن قلب المسلسل هو الصعيد، في فترتين تاريخيتين، من المؤكد أن إحداهما أثناء الاحتلال البريطاني، والثانية بعده. في الزمنين المختلفين صاغ السيناريست عبدالرحيم كمال صوراً شديدة البراعة للصعيد، وسيطرة إقطاع الكبار علي الغلابة تحت غطاء الاحتلال البريطاني وتفسخ قبضة هذا الإقطاع فيما بعد، والصراع بين الإخوة الكبار علي المال والسلطة، وتجارة الأثار، وفساد رجال الشرطة. جاء هربرت، الذي سيخلع عليه السودانيون اسم عبدالقادر تيمناً بشيخ الطريقة، إلي سوهاج بتكليف من بريطانيا. جاء إلي منطقة غارقة في قلب الظلم، منطقة تتناهبها قوتان إحداهما خارجية والأخري داخلية، ولكنه وجد الحب الصافي في قلب العتمة، ومارس بدوره دوراً في تنوير البسطاء الذين يعملون في تكسير الجبال باليومية، ووقف في وجه جبابرة الإقطاع، وأيضاً هتف ضد الاحتلال البريطاني. صحيح أن هناك مبالغة شديدة في هذا، وصحيح أيضاً أن قبره الذي سيتحول إلي مزار سيكون جزءاً من تلك المبالغة، حيث يدافع الرجل الميت عن نفسه في مواجهة المتطرفين (السلفيين في الأغلب) الذين يرفضون ضريحه، وهي قضية قديمة جديدة، إلا أن المبالغة في الفن مقبولة، وتتماشي مع فكرة الصعيد الممسوس بماضيه وأوليائه وعارفيه، حتي وإن كان ذلك الولي أو العارف شخصاً بريطانياً. الدراما التي ينتمي إليها "الخواجة عبدالقادر" ليست (فاقعة) أو شديدة الميلودرامية، ونجحت في درس اللهجة إلي حد كبير، فأخطاء النطق قليلة، والمفردات تبدو صحيحة للخبير بتلك اللهجة، التي تختلف أيضاً بين الزمنين، بقاعدة أن اللهجات تتطور وتختلف كما تتطور اللغات بتقادم الزمن وانقضاء العصور، وأضفي الخواجة عبدالقادر مسحة ساخرة علي تلك اللهجة بطريقة نطقه الغريبة التي تختلف أيضاً عن طريقة نطق الخواجات التقليديين في السينما والدراما المصرية، وعلي رأسهم الخواجة بيشو، ومفرداته التي تستبدل حرف الحاء بالخاء، في الأغلب وتحول، مثلاً، (حبيبي) إلي (خبيبي)! لم ينجرف عبدالرحيم كمال مثل غيره إلي قالب الشخصيات الصعيدية النمطية حيث يكون الخَيّر خيراً، والشرير شريراً علي الإطلاق، فداخل كل شخصية ذلك المزيج من الخير والشر، فعبدالظاهر، الإقطاعي الكبير، الجلاد، الكاره لزوجته، والمحب لشقيقته بطريقة غريبة وصفتها زوجته بأنها "حب الرجل للمرأة"، في إيحاء لزنا المحارم، هو شخص قد يغفر لشقيقه، ويشعر بالعذاب حينما تنكسر إبرة الجرامفون، أو يتعطل البيانو، ما يعني أنه ينظر إلي مثل تلك الأشياء بتقدير. لم ينجرف الكاتب أيضاً خلف لعبة الحنين التي يمارسها (كمال)، المهندس في الزمن الثاني، والطفل المرافق للخواجة في الزمن الأول، وكان الربط بين الزمنين موفقاً جداً، حتي علي مستوي الصورة، وهو ما يُحسب أيضاً للمخرج شادي الفخراني، وإن كان الحنين فقط إلي صورة البراءة والمحبة التي يمثلها الخواجة والتي حوّلته إلي طيف ملائكي بالنسبة إلي كل من تعاملوا معه.. التتابع والتقطيع السينمائي السريع للمشاهد كان هدفه إظهار الطريقة التي تغيرت بها الأمور من النقيض إلي النقيض، كيف يعترف الكبار في الزمن الحديث بأنهم لم يعودوا يمتلكون القدرة علي ربط الناس في الأعمدة وجلدهم، كيف زالت عهود الطغيان ومع هذا ظلت الكراهية تسيطر علي الناس وتدفعهم إلي بيع ذممهم لمن يدفعون، ولأصحاب السلطة الذين لا يرون سوي مصالحهم، ومصالحهم فقط.