»لم يترك الشعب المصري وقواته المسلحة الفرصة لديان لتنفيذ خطته وحدث الانفجار في الثانية وخمس دقائق». قبل حرب اكتوبر وجه هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي في ذلك الوقت رسالة للرئيس أنور السادات قائلا: »نصيحتي للسادات أن يكون واقعيا.. والواقع أنكم مهزومون فلا تطلبوا ما يطلبه المنتصر.. لابد ان تكون هناك بعض التنازلات من جانبكم حتي تستطيع أمريكا أن تساعدكم.. فكيف يتسني وأنتم في موقف المهزوم أن تملوا شروطكم علي الطرف الآخر.. أما أن تغيروا الواقع الذي تعيشونه فيتغير تناولنا للحل وإما أنكم لا تستطيعون وفي هذه الحالة لابد من ايجاد حلول تتناسب مع موقفكم غير الحلول التي تعرضونها». الأحد: لقد كان قرار الحرب هو النتيجة الطبيعية للطريق المسدود الذي وصلت إليه جميع الجهود السياسية والدبلوماسية ففي 24 أكتوبر 1972 عقد بمنزل الرئيس أنور السادات اجتماع للمجلس الأعلي للقوات المسلحة قال فيه: »نحن اليوم أمام امتحان خلاصته أن هزيمة يونيو 1967 جعلت العدو والصديق لا يثق بأننا سنقاتل ولذلك فإن الحلول التي تعرض علينا كلها من منطق أننا لن نحارب.. علينا أمام شعبنا وأمام العدو والصديق أن نؤكد أننا نستطيع التضحية والنضال.. والقتال يجب أن يتم بالأسلوب الذي يمكننا به ما عندنا من أسلحة وبما لدينا نرسم ونخطط وبذلك يكون الكلام له قيمة.. فمع الجميع سيتغير شأننا أو ستنتهي القضية إلي السكون والموت». لم أكن في ذلك الوقت شابا مشاركا في الإعداد للمعركة أو في أحد خطوط الدفاع الشعبي فمازلت وقتها تلميذا في نهاية مرحلته الابتدائية شاهد وعايش حال بلده وهي تدافع عن وجودها وتستنزف العدو المحتل جزءا من أرضها وتتعرض لهجمات طائراته الغاشمة وتهرب منها إلي الخنادق مع سماع صفارات الإنذار ولمست في طفولتي تأثير أن يكون اقتصاد دولتك »اقتصاد حرب» فكل شئ بالطابور وعلي بطاقة التموين حتي وقود »الجاز» بالكوبون.. ولكن لقاءاتي مع معظم قادة حرب أكتوبر وعلي رأسهم المشير محمد عبد الغني الجمسي رئيس هيئة العمليات ثم رئيسا للأركان في ذلك الوقت جعلتني أحيا تفاصيل المعركة والانتصارات والإعداد لها.. رحمة الله علي رجال مصريين صنعوا المستحيل. حمل الفريق أول أحمد إسماعيل وزير الحربية القائد العام للقوات المسلحة في إبريل 1973 دراسة مكتوبة بخط اليد وعرضها وناقشها مع الرئيس السادات في استراحة »برج العرب» ونقل انبهار وإعجاب الرئيس بها وقدم الشكر إلي هيئة العمليات قائلا: »كان تحديد يوم الهجوم عملا علميا علي مستوي رفيع سوف يأخذ حقه من التقدير ويدخل التاريخ العلمي للحروب كنموذج من نماذج الدقة المتناهية والبحث الأمين». تناولت دراسة هيئة العمليات الموقف العسكري للعدو ولقواتنا وفكرة العملية الهجومية المخططة والمواصفات الفنية لقناة السويس من حيث المد والجزر وسرعة التيار وساعات الإظلام وأوقات ضوء القمر والأحوال الجوية وحالة البحرين المتوسط والأحمر التي تحقق افضل استخدام لقواتنا للقيام بالعملية الهجومية بنجاح وأسوأ الظروف لإسرائيل واختيار التوقيتات التي تتناسب وتنفيذ الهجوم علي الجبهتين المصرية والسورية.. ووقع الاختيار علي الثانية وخمس دقائق من يوم السبت السادس من أكتوبر العاشر من رمضان. الاثنين: يخطئ البعض عندما يعتقد أن اختيار السادس من أكتوبر كان فقط لأنه يوم »عيد كيبور» في إسرائيل فهناك عوامل كثيرة اخري تحكمت في تحديد اليوم.. ودارت عجلة الاستعداد لشن الحرب بسرعة وفي سرية تامة.. وجاء يوم الاثنين 1 أكتوبر 1973 وبدأت قواتنا المسلحة مشروعا تدريبيا تحت ستاره اللمسات الاخيرة للاستعداد للهجوم..وفي مساء نفس اليوم اجتمع المجلس الأعلي للقوات المسلحة برئاسة »السادات» في وزارة الحربية واستمع السادات إلي تقارير القادة وتحدث عن مسئوليته عن الحرب وطلب الالتزام بخطة العمليات الموضوعة وأن يعمل القادة بهدوء وحرية وقال: »علي كل واحد أن يؤدي واجبه وأنا أتحمل وراءكم المسئولية كاملة تاريخيا وماديا ومعنويا وأقولها بصراحة: »أثق ثقة كاملة فيكم».. وشرح الفريق أول أحمد إسماعيل تصوره للمعركة وقال: باسم القادة وباسم القوات المسلحة نعد سيادتكم أن نبذل أقصي جهد يتحمله البشر لتحقيق النصر لبلدنا..كل قائد متفائل وفي قدرته تحقيق المهمة ونحن نشارك سيادتكم في المسئولية وكلنا مسئولون عن البلد معكم.. وأصدر السادات قراره بالحرب تحت عنوان توجيه صادر إلي القائد العام للقوات المسلحة ووزير الحربية، وشرح السادات في التوجيه »استراتيجية العدو» قائلا إن العدو الإسرائيلي كما تري انتهج لنفسه سياسة تقوم علي التخويف والادعاء بحقوق لا يستطيع العرب تحديها.. وهذا هو أساس نظرية الأمن الإسرائيلي التي تقوم علي الردع النفسي والسياسي والعسكري.. وأن نقطة الأساس في نظرية الأمن الإسرائيلي هي الوصول إلي إقناع مصر والأمة العربية بأنه لا فائدة من تحدي إسرائيل وبالتالي فليس هناك بد من الرضوخ لشروطها حتي وإن تضمنت تنازلات عن السيادة الوطنية..فإسرائيل تمارس سياستها علي أنها قوة لا تقهر وتفرض شروطها.. ولقد دخلنا منطقة الخطر وأن استمرار الوضع الحالي هو الموت المحقق.. فالأمريكان يقدرون سقوط مصر خلال عامين.. وبدون المعركة سوف تنكفئ مصر علي نفسها.. واقتصادنا في مرحلة الصفر وعلينا التزامات إلي آخر السنة لن نستطيع الوفاء بها للبنوك. وعندما تأتي سنة 1974 بعد شهرين لن يكون عندنا رغيف الخبز للمواطنين ولا أستطيع أن أطلب من أي عربي دولارا واحدا لأن العرب يقولون لنا »احنا بندفع الدعم بتاع قناة السويس وخلاص ولا فيه حرب ولا فيه حاجة».. وأن الهدف الاستراتيجي الذي أتحمل مسئوليته السياسية في إعطائه للقوات المسلحة تحدي نظرية الأمن الإسرائيلي وذلك عن طريق عمل عسكري حسب إمكانيات القوات المسلحة يكون هدفه إلحاق أكبر قدر من الخسائر بالعدو وإقناعه بأن مواصلة احتلاله لأراضينا تفرض عليه ثمنا لا يستطيع دفعه وبالتالي فإن نظريته في الأمن علي اساس التخويف النفسي والسياسي والعسكري ليست درعا من الفولاذ يحميه الآن أو في المستقبل.. وإذا استطعنا بنجاح أن نتحدي نظرية الأمن الإسرائيلي فإن ذلك سوف يؤدي إلي نتائج محققة علي المديين القريب والبعيد تجعل في الإمكان ان نصل إلي حل مشرف لأزمة الشرق الأوسط ويمكن ان تحدث متغيرات تؤدي بالتراكم إلي تغيير اساسي في فكر العدو ونفسيته ونزعاته العدوانية... وفي نفس اليوم كان في إسرائيل اجتماع دوري لمجلس رئاسة الأركان لبحث الموقف وقدم الجنرال الياهو زاعيرا مدير المخابرات العسكرية تقريرا بأن هناك حالة استعداد شديدة علي الجبهتين المصرية والسورية.. وقال إن هذه الظاهرة حدثت ايضا في شهر يونيو ولم يحدث اي شئ بعدها.. وأنه من المحتمل القيام بعمل عسكري وسيكون مجرد عملية استعراضية للاستهلاك الشعبي او كأحد المسكنات للجبهة الداخلية. الجمعة: واصلت قواتنا المسلحة علي مدار أيام 2و3 و4 مشروعها التدريبي والاستعداد للمعركة.. وفي يوم الجمعة 5 اكتوبر كانت قواتنا في اقصي دراجات الاستعداد القتالي.. ولا انسي ما قاله لي اللواء حسن الجريدلي امين عام وزارة الحربية في ذلك الوقت عندما اجريت معه حوارا بمنتصف التسعينيات من القرن الماضي انه في ذلك اليوم كان مع الفريق اول احمد اسماعيل في سيارة جيب بطريقهما إلي مركز العمليات بعد ان فرغا من اداء صلاة الجمعة.. وأثناء مرور السيارة بشارع الخليفة المأمون والشارع ساكن إلا من اعداد قليلة وبعض المارة يسيرون في هدوء أشار نحوهم الفريق أول احمد اسماعيل وهو يسأل اللواء الجريدلي ماذا سيقول الناس عنا إذا قلنا لهم ان الحرب غدا في مثل هذا التوقيت.. فرد عليه اللواء الجريدلي قائلا: »طبعا لن يصدقنا احد»..وفي نفس اليوم أصدر الرئيس أنور السادات التوجيه الاستراتيجي بناء علي طلب الفريق اول اسماعيل حتي تكون الأمور للتاريخ محددة وواضحة، تضمن التوجيه انه بناء علي التوجيه السياسي العسكري الصادر في اول اكتوبر وبناء علي الظروف المحيطة بالموقف السياسي والاستراتيجي قررت تكليف القوات المسلحة بتنفيذ المهام الاستراتيجية الآتية: أ - إزالة الجمود العسكري بكسر وقف إطلاق النار اعتبارا من 6اكتوبر 1973. ب - تكبيد العدو اكبر خسائر ممكنة في الأفراد والأسلحة والمعدات.. ج - العمل علي تحرير الأرض المحتلة علي مراحل متتالية حسب نمو وتطور إمكانيات وقدرات القوات المسلحة. 2 - تنفيذ هذه المهام بواسطة القوات المسلحة المصرية منفردة أو بالتعاون مع القوات المسلحة السورية. السبت: في نفس اليوم عقد اجتماع طارئ لمجلس رئاسة الأركان الاسرائيلي بحضور رئيسة الوزراء جولدا مائير.. شرح فيه موشيه ديان وزير الدفاع الاسرائيلي في ذلك الوقت خطته المسماة ب »الحزام الأسود» والتي وضعها في اوائل عام 1973.. وتتضمن ضم جنوبلبنان كله إلي اسرائيل.. وضم اجزاء اخري من سوريا.. وإقامة خط محصن يشبه خط بارليف في غور الأردن لحماية المستعمرات.. وتحويل سيناء إلي مركز تجارب للمفاعلات الذرية.. وهو ما يعني طبقا لتخطيط ديان اقامة حزام عسكري حول اسرائيل لتأمينها من اية عمليات عسكرية..وجعل زمام المبادرة في القتال في ايدي اسرائيل فيما لو ارادت ضم اراض اخري.. وقال بأنه سيتم توجيه ضربة قوية لجنوبلبنان..وأخري للقوات السورية.. وقبل ان تحاول مصر التدخل سيتم توجيه ضربة قوية ضد صواريخ الدفاع الجوي بمنطقة القناة وضد المطارات المصرية.. وحدد ديان ان تتم العمليات من 22 وحتي 25 اكتوبر بعد الانتهاء من عيدي الغفران والمظلات.. وقبل اجراء انتخابات الكنيست يوم 28 أكتوبر.. وبعد مناقشات قال إنه سيبكر بالضربة وستكون صباح 8 أكتوبر. لم يترك الشعب المصري وقواته المسلحة الفرصة لديان لتنفيذ خطته وحدث الانفجار في الثانية وخمس دقائق من بعد ظهر السبت السادس من اكتوبر.. بطولات لا تعد ولا تحصي سنظل علي مدي الحياة نحكيها لأبنائنا وأحفادنا وأحفاد أحفادنا فما حدث في اكتوبر انتصارات شعب أراد الحياة .. فدائما تحيا مصر ويحيا جيش مصر.