في مطلع الستينيات كان يوسف ادريس ملكا يجلس وحده تقريبا علي عرش القصة القصيرة ، وكانت الحركة النقدية مسخرة لقراءة أعماله القصصية والروائية والمسرحية، هذا فضلا عن ماكان يثيره من قضايا وأفكار علي صفحات جريدة الجمهورية ، أو ماكان ينشره في مجلة الكاتب الوليدة ، وتتمتع بمصداقية عالية بين جماهير القراء والكتاب والمبدعين علي السواء ، وإذا كان يوسف ادريس يذهب إلي معظم الأجناس الأدبية زائرا ومجربا ،باستثناء فن القصة القصيرة الذي كان ادريس قد احتكر التميز فيه ، وساعده الانتشار الواسع الذي كانت توفره الدولة له ، حيث أنه قد حقق علاقة وطيدة مع كافة أطرافه ،وكانت هذه الدولة الفتية تستقطب الكتاب والشعراء والصحفيين والفنانين الموهوبين ،هكذا كان الشاعر صلاح جاهين والفنان عبدالحليم حافظ ومحمدعودة ويوسف ادريس ، لذلك كان الاقتراب من عرين أي من هؤلاء ينذر بخطر الاندثار والتلاشي ، وكان اختراق هذه الحواجز نزعا من المغامرة ، وفي مجال القصة القصيرة بالذات كان يوسف ادريس يشعر بالثقة التي لا تجعل أحدهم يختال ويزهو بصفته كاتبا للقصة القصيرة ، وسبحان من له الدوام ، إذ بدأ بعض الكتاب الشباب يبرزون مواهبه علي استحياء في صحيفة المساء أحيانا ، وفي مجلة الشهر أحيانا أخري ، حتي استوي عود هؤلاء الشباب ليعلنوا عن أنفسهم بشكل فيه قوة وشجاعة ، وأصدر ستة منهم مجموعة قصصية مشتركة تحت عنوان "عيش وملح " وكتب تقديما نقديا عاما العم والأب والراعي الكبير يحيي حقي ، وعندما يذكر اسم يحيي فلابد أن ينحني المرء ويستغرق في تقدير واحترام يليق بقامة هذا الرجل ،، وكان ذلك عام 1960 أو بعدها بقليل ، وكان الكتاب هم سيد خميس ومحمد جاد ومحمد حافظ رجب وعباس محمد عباس والدسوقي فهمي وعز الدين نجيب ، ، وفي مقدمته دشن العم يحيي لولده جيل جديد ذي ملامح خاصة به ، وتختلف عن ماسبقها من ملامح ، إذ كتب يقول :ستري من الكلمات التي تقدم لهم فردا فردا أن بينهم شبها كبيرا وإن اختلفت مسالكهم ، فالسن متقاربة، والبيئة تكاد تكون واحدة ، ونوع الثقافة ومستواها عند الجميع سواء ،لذلك لا عجب أن شرب أسلوبهم من معين واحد ، وإن حاول كل منهم أن يستقل بحوض) وهكذا يسترسل العم يحيي حقي ليرسم ، وهو في الحقيقة يخطط لدفع جيل جديد وغض إلي الأمام وسط العاصفة الإدريسية التي مازالت تثير قدرا كبيرا جدا من الحوارات والكتابات النقدية الصاخبة في ظل موهبته الجبارة ، وهكذا بدأيتسلل كتاب القصة القصيرة واحدا واحدا من خلال منابر ليست ذائعة الصيت ، إذ أن هذه المنابر الكبيرة كانت مقصورة علي جيل الآباء بقيادة الناقد لويس عوض ومن لف لفه ، ولم يحظ هذا الجيل الجديد باعتراف الآباء إلا بعد أن ثبتت أقدامه ، وعلي رأس المعترفين كان يوسف ادريس ذاته الذي راح يقدمهم واحدا تلو الآخر علي صفحات مجلة الكاتب، وكان الكاتب الشاب محمد البساطي القادم من ريف الدقهلية يكتب في صمت ، حتي تقدم إلي مسابقة نادي القصة عام 1962 بقصة قصيرة هي قصة "الهروب" ونالت القصة المركز الأول ، وفي المسابقة نفسها كان معه الكاتب الشاب أسامة أنور عكاشة الذي فاز بالمركز الرابع عن قصته "اللغز" وفاز يوسف فرنسيس بالمركز العاشر في ذات المسابقة عن قصته "غبار من الماضي "، وبعد عامين من الفوز نشر البساطي القصة الفائزة في مجلة القصة التي كان يرأس تحريرها الكاتب محمود تيمور وبالتحديد في العدد الثاني من السنة الأولي لصدور المجلة في فبراير عام 1964 ، ومن هنا كانت ولادة الكاتب الشاب الموهوب محمد البساطي ، وراحت مجلة القصة تنشر له قصصه ،ففي يونيو عام 1965 أعدت المجلة عددا متميزا وكتبت علي غلاف العدد "عدد خاص عن الطلائع " كتب فيه ضياء الشرقاوي وجمال الغيطاني ومحمد حافظ رجب ومحمد حسن عبدالله , واستكتبت المجلة بعض نقاد ليعلقوا علي القصص المنشورة ، ولم تكن هذه التعليقات مجرد سطور يرضي بها الكاتب أو القراء ، ولكنها كانت التعليقات تصل إلي حجم وقيمة مقال ، وكانت قصة الكاتب الشاب محمد البساطي عنوانها "لقاء" وهو لم ينشرها في أي من مجموعاته التالية ،رغم أن له قصة بالعنوان ذاته منشورة في إحدي مجموعاته ، وأظن أن السبب الذي منع البساطي من نشرها كان سياسيا ، لأن القصة كانت تتحدث عن الضياع الذي كان يعيشه الشباب في ذلك الوقت ،من خلال لقاء تم بين شاب وفتاة في مقهي ، وكان هذا الشاب يعرف الفتاة منذ زمن ، ولكنه فارقها منذ ثلاث سنوات ، ساخطا من التشتت والتشرذم والتقزم الذي تفرضه المدينة ،وفي سياق القصة عرج الراوي من خلال حوار شخصين عابرين إلي حرب اليمن ،وكان ينظر إلي أن هذه الحرب لا تصنع أبطالا، فالحرب حرب ، كان كل هذا يتسلل في القصة بنعومة شديدة ودون إطناب أو تفصيل ، وكان الناقد الذي كتب التعلقالمقال هو الدكتور والناقد الكبير محمد غنيمي هلال ،وقدكتب يقول :(وقد عرف القاص الشاب محمد البساطي في "لقاء" كيف يتعمق رؤية عابرة ، باختياره نوعها ودلالاتها من بين رؤي الحياة الأليفة الدقيقة الدلالة معا ،) ويضيف (أن السيد القاص البساطي ذو طاقة شعرية أقوي منها قصصية ) ويسترسل هلال في سرد القصة بطريقة نقدية مبهرة حتي يقول في النهاية عن شعرية القصة (يجاري النسيج اللغوي تلك السمات الشعرية ، فالجمل لماحة خاطفة الدلالة ، والصور حركية متتابعة يواكب بعضها بعضا ،) هذا بعض مما أورده الدكتور غنيمي هلال في أول مقال يكتب عن محمد البساطي ، ويمر الوقت حتي يصدر البساطي مجموعته الأولي (الكبار والصغار)عام 1967 ، ويكتب لها المقدمة الناقد المرموق علي شلش ، وللأسف هذه المقدمة حذفت من الطبعات التالية ، رغم أهمية هذه الدراسة ، لولا إفراط علي شلش في الحديث عن العلاقة الجدلية بين ثورة يوليو ومافجرته من إبداعات متنوعة ، وكان أحري بالناقد علي شلش أن يبتعد عن هذه النقطة ، لأنه كان خارجا توا من السجن علي ذمة قضية عبثية لا مجال لسرد تفاصلها هنا ، لكن التحليل والقراءة العميقتين التي تمتعت بهما الدراسة ، كتبت للبساطي ذيوعا ، وضمنت له قراء واسعة بين الجمهور ، ويرصد علي شلش في هذه الدراسة عدة سمات أسلوبية منها سمة "الشعرية"التي تحدث عنها غنيمي هلال في مقاله السالف الذكر ، ثم رصد شلش رشاقة الجملة عند البساطي وخفتها وقصرها وماتحمله من ملامح حادة ومعبرة ، وتحدث أيضا عن الصورة المتحركة والمشهدية في مجموعته هذه ، وفي نهاية المقدمة يقول شلش : 0والحق أن هذا الكاتب في مجموعته هذه علي الأقل يعد بالكثير فهو كاتب معطاء سخي يملك أسرار فنه ويجيد التعبير عن تجاربه الفنية في عمق وصدق وشاعرية ، ولا يزال في مجموعته هذه الكثير مما أتركه لغيري ، ويكفيني أنني سعدت بتقديمه كاتبا ويستحق كل احتفال وتقدير وهكذا تترسخ أقدام البساطي ويصدر مجموعته الثانية "حديث من الطابق الثاني"ويكتب عنها في سياقات الكتابة عن الجيل الجديد صبري حافظ وخليل كلفت وغالب هلسا وابراهيم فتحي وعبدالرحمن أبوعوف وغيرهم ،،وإن كانت كتابة بعض هؤلاء وغيرهم قد جاء بتحفظات سلبية ، لكن هذه الكتابات التي صاحبت رحلة البساطي علي مدي خمسين عاما (2012 - 1962) علي اختلافات تقديرها ، تعني أن هذا الكاتب كانت وستظل إبداعاته مثيرة للجدل الإيجابي طوال الوقت ، لتوهجها وتقديمه لعالم يكاد أن يكون بكرا تماما.