كنت مستلقياً علي ظهري عندما افقتُ، حررت عينيَ من إظلام جفنيَ لكنني لم أر شيئاً، الظلام يحُول دون عيني والرؤية، الليل لم ينته فيما بدا، صوبت عينيّ نحو النافذة، لم يبن من خلال شقوق حصيرة النافذة بصيص ضوء، ليل الربيع الآني طويل، لكن قد تكون حصيرة النافذة مُحكمة الإطباق، لابد أن أتيقن، أن أنهض بعد أن استوفيت ساعات نومي. لم أقو علي الحركة، الجسد الذي أسكنه كان شائخاً خائراً لا يلبيِّ أوامري، ربما مجبراً ؛ فكل تجهيزات الجسد الذي يحتويني استهلكت، قدُمت، عطُبت جزئيا أو كليَّا، بادت رغم الإدامة الدورية عند الأطباء. مددت يدي إلي الطاولة الصغيرة المحاذية أتلمس مكان المصباح، ضغطت زر مفتاح الإضاءة، تذكرت أن السلك الواصل عارٍ في جزء منه، خشيتُ أن أتعرض لصعق كهربائي، تخلت أصابعي وانتفضت يدي لكن توقي إلي النور سري في الجسد الذي أسكنه، دبّت حيوية خجول في أنحائي أو ربما شُبِّه لي، غادرت فراشي علي وهن إلي النافذة، أدرتُ بكرة الحصيرة بصعوبة، تسلل نور ضئيل إلي الحجرة لكنه كان كافياً للرؤية، الساعة كانت السابعة صباحاً، الشمس تشرق بحُسبان، لابد أن تكون قد أشرقت لكن غيوم الربيع تحجب النور، خطوت نحو المصباح، أمسكت بالزر بعد أن تبينت عري السلك، ضغطت زر مفتاح المصباح فما أضاء، تسللت خارج الحجرة إلي الممر، ضغطت زر مفتاح المصباح المعلق إلي السقف فما أضاء هو الآخر، نبَّهتني الذاكرة إلي مصطلح صار متداولاً منذ الربيع الآفل : - طرح أحمال !! عييت، استلقيت علي الكنبة، تمطيت، خشيت النعاس، اشتهيت فنجان قهوة لكن الموقد الكهربائي مشمول بطرح الأحمال، أسطوانة الغاز آلت إلي ذات المآل، تناولت لفافة، لم تخذلني القدَّاحة، ملأت الرئتين بالدخان، نفثته، مججته في الأرجاء، عاودتني الكحة، كفكفت الدموع، مسحت الإفرازات، سحقت اللفافة في المنفضة، ما كان يجب أن ادخِّن علي خواء، توسدت تكوة الكنبة، فردت الجسد علي امتداده، انتويت الاسترخاء لكنني لم أدركه إذ عاينت الجسد، بدا ضيئلا يمكن احتواؤه في قفة إذا انطوي، استعرت ألسنة لهب تعتلج في الأعماق، صرختُ في الأنحاء مذعوراً : - ما جَّردني الزمن ولا سلبني بل أضاف، بتواليه تراكمت المعرفة والخبرات والتجارب في الأنا، صرت أكبر واقوي وأقدر. واجمة والجزع في العينين باد، صفقتْ كفاَّ بكف، قالت : - تُحدثُ نفسك ! ! ما بك يا رجل ؟ ! راعني رخيم الكلام حتي كاد يخرسني، بررت مراوغاً : - كنت أفكر بصوت مسموع. أضافت : - لا توجد في البيت كسرة خبز.. قم أحضر الخبز. تجنبت الكلام، هززت رأسي موافقاً. خذ في يدك كيس القمامة. هززت رأسي موافقاً مرة أخري. عناء القيام والخطو يرهق الجسد ويؤدي إلي الاحساس بالوهن والميل إلي التأنيِ، لكن أن تكون رب أسرة ؛ فأنت ملزم باحتمال العناء ومكابدة التعب، هكذا إذن، وبعزيمة مُراوحة نهضت واقفاً أترصد تداعيات طقطقة العظام وقد توالت إلا أنني مضيت صوب السيارة كي أدير المحرك بعد كشف دقيق علي المركبة من تحت إلي فوق توخياً للسلامة. دق جرس الباب، لم أُجِب، وقفت أتصنَّت، أتساءل، من هذا المبكرِ الذي جاءني تواًّ ؟! رجَّحت أن يكون أحد أقاربي، أحد أصدقائي، جاء يخبرني بموت ربما في أسرتي، استعرضت في عجالة كبار السن والمرضي منهم، استبعدت أن يكون أيُُّ من هؤلاء، موت كبار السن والمرضي يُحل تدريجياً، لا يباغت، دُق الجرس ثانية في متواليات مُلِحة، الأمر عاجل بالتأكيد،لا مجال للانتظار، هي قذيفة أو شظية قنبلة أو رصاصة عشوائية قتلت ربما أحد أفراد أسرتي أو أحد أقاربي أو صديق لصيق، لِمَ لا؟! هي وقائع يومية تتداولها الأخبار، لِمَ لا تنالني، هَلِعتُ، تلاحقت دقات قلبي مجاهرة باضطراب جوانحي، حُمُوَّة شديدة، نضح عرق، وجوم. استبعدت أن يكون الزائر ناعياً، فلو كان الأمر يتعلق بإخبار عن وفاة كان يمكن أن يهاتفني الناعي، ملياَّ، استبعدت هذا الاحتمال ؛ فشبكة هواتف المحمول خارج التغطية في الغالب ومقفلة إذا إنقطع التيار الكهربائي. بدا أن الزائر ثَبَّت أحد أصابعه علي زر الجرس، رنين مُتصل مِلحاح، خطوت نحو الباب افتحه، سمَّرتني الذاكرة، وقائع عِدة، يُطرق الباب باكرِاً فما أن يُفتح حتي يُصلي الفاتح بالرصاص ويحتسبُ شهيداً. - من ؟! من ؟! تمتم من وراء الباب، لم أتبين ما يقول، أضفت إلي خطوي نصف خطوة، سألته : من الأخ ؟ أنت من وماذا تريد ؟ أجاب في غلظة : - أعطني مما أعطاك الله. لم يتوقف رنين الجرس، قد يكون غرس الزر في المفتاح، نغمة صوته تشي بعدوانية متحفزة، تمنيت علي الله أن يعطيه مما أعطاني عقاباً له علي ما ألحقه بي فلا قِبل لي بأن أعطيه مما أعطانيه. إن الشحاذين يقتعدون الأرض أمام أبواب المساجد، يقفون عند النواصي، يتسكعون بحذاء تقاطعات الطرق، بجوار أعمدة الإشارات الضوئية، أمَّا أن يُدق باب البيت شحاذ فهو أمر مريب ! اعتراني قلق ما لبث أن اختفي بمجرد ترجيحي أن ما أحدثته أفواج المتسولين الوافدين من كساد في حرفة الشحاذة أدي إلي تمرد الشحاذين الأُصَلاء علي أصول الحرفة ومقتضياتها واللجوء إلي دق أبواب البيوت. أصَابت السائل نوبة سُعال، تَمخط، أصخت السمع أكثر، سمعت أنفاسه تتردد كحشرجة إنسان يموت، كان يلهث، أيضا كان يئن، أشفقت عليه رغم استفزازه إياي، لن أنهر سائلا، سأرد عليه ردَّا حسنا، أصرفه دون أن اؤذي مشاعره: - معذرة يا أخي.. ليس لدي.. قاطعني دون أن ينطق إذ ركل الباب بقوة حتي ارتج الباب وزيَّق ثم أطبق صمت أخافني، لكن الباب مغلق بقفلين ورتاج ولا يمكن لأي كائن أن يخترق الباب ويجتاز. أصابتني إهانة الشحاذ بألم شديد، وبدا الانكسار مخبوءاً في عينين نديتين، تقهقرت خانعاً أجر الخطا إلي الكنبة فقد يكون مضي. استلقيت علي الكنبة متمدداً شاخصاً إلي السقف، استرخيت، ما لبثت حتي وسنِت، غبت هنيهة ربما لكنيِّ جُلدت : راقد ؟ ! انتفضت فزعاً، أدركت في إناءة أن النور مُضاء شأن شاشة التلفاز وأن التيار الكهربائي عاد منذ واقعة دق الجرس. مستجدياً في إعياء : تِعبُُ أنا.. دعيني ارتاح قليلاً .. لم أفلح في استحلاب الرأفة. توَّا نططت كما جن .. لا تتكاسل.. قم... الخبز. الصبح باكر.. جُلَّ المحال مغلقة، تُفتح بعد حين وأحضر الخبز.. حاضر. عذرك جاهز دائماً. اختفت، فتحت عيني، رنوت إلي الشاشة، كان الصوت في وضع كَتْم منِّي، لا أطيق سماع الخرط، راودتني سِنةُُ فاستسلمت للرقاد. صوت يهمس حانيا فيوقظني : اصح .. كفاك نوماً ! بدت واقفة ترنو، عيناها لا تخلوان من شفقة ، قالت : قُم.. اشرب قهوتك.. دخِّن.. توكّل علي الله واخرج. بُخار طفيف يتصاعد من فنجان قهوة تفوح بالحبهان يجاوره علي سفرة كوب ماء مُثلج. راقني رخيم الكلام حتي أنطقني : حنونة.. والله حنونة ! ابتسمتُ، باسمتني، تزحزحتُ قاعداً، لا طفت مداعباً : شكراً يا عجوز. عجوز ؟ ! شكراً يا صبية !! هه. غادرتْ وقدح غضب في العينين، لا بأس، هو المد والجزر شأن كل يوم. احتسيت قهوتي مع سحبات من سيجارتي، مُتلذذاً، أجري الكيف نزراً من حيوية في عروقي، صقيع الماء أثلج صدري، نهضت متوخياً الحذر متسللا علي رءوس اصابعي نحو السيارة خيفة المناكفة بعد الملاطفة ! بحثت عن السيخ الذي دسسته في مكان خفي، وجدته، أدخلت السيخ الحديدي الطويل في أنبوب العادم، لم يعق السيخ الصلب عائق، توخيا للدقة في تنفيذ إجراءات السلامة كما وردت، استلقيت علي ظهري، أدخلت جسدي حتي الصدر تحت السيارة، أجريت السيخ الرفيع علي صندوق كاتم الصوت ثم تحسسته بكفي، ليس هناك أية لاصقة أو أي جسم غريب، حمدت الله، أنهك الجهد الذي بذلته منيِّ الجسد، استلقائي علي ظهري حثني علي الاسترخاء قليلاً لكن شهقة دوَّت عند قدمي جعلتني انتفض وتصطدم جبهتي بباطن السيارة وتُشج، جررت جسدي من تحت السيارة ونهضت واقفاً أتحسس بيدي جبهتي، رشْحُ دم، صرخت بي مرتاعة: - ما بك ؟ ! كنت أفحص باطن السيارة : - لماذا ؟ ! طرقتُ رفرف السيارة بالسيخ تحفزاً : - إجراءات سلامة ! سلامة ؟ ! - قد تُلصق بباطن السيارة لاصقة تتفجر بالحرارة ! - هراء.. أي منطق هذا ؟ ! - منطق العبث ! إجابة صادمة أخرستها فلاذت عيناها بالسيارة تتفحص الجوانب متغافلة جرحي، تحسسته كي أُلفت الانتباه : شُجّ رأسي. دون مبالاه : - خدشُُ ُ بسيط. خيّم علي المكان سكون خشيت أن يحبُل، استدرت أنوي إدارة محرك السيارة لكنها استطردت فالتفتُّ أنصتُ : لا تتأخر .. خذ معك هاتفك.. لا تجعلني أقلق.. انتبه ولا تخفْ.. أفرحني رخيم الكلام : - حنونة.. والله حنونة. قلت في خاطري. جحظت عيناها بعد أن صوبتهما نحو رأسي، مذعورة صاحت : - الخدش ينزف ! ! مرَّرت سبابتي علي موضع الجرح، تلوثت بدم يسير، قلت كاظماً غيظي : الخدش لا يحدث نزيفاً.. إنه جرح. قالت مواسية : حسناً.. أمسح الدم.. سأحضر قهوة.. القهوة توقف النزف. مضت، كفكفت قطيرات الدم بمنديل ورقي، أدرت محرك السيارة، شلتُ كيس القمامة متوجها إلي الباب افتحه، سمعت خشخشة ونباح كلاب، استطلعت الشارع من خلال ثقب، رأيت تل القمامة تعلوه وعلي جنباته بضعة كلاب تتقاتل كي تغُنم من فضلات غذائها وجرذان ربما كانت كامنة في عمق تل القمامة وقطط شوارع تتلطي الكلاب وتطارد الجرذان. زكمتني رائحة عفنة تنبعث من القمامة فتقهقرت متراجعاً، تخوفت من أن ينفذ جرذ من خلال فجوة إلي بيتي، تيقنت من خلو الباب من الفجوات، باب البيت موصد بإحكام ولا يمكن لجرذ أن يخترق الباب إلا إذا فُتح. طرحت كيس القمامة أرضاً: - لن أخرج. جاءت بقليل من القهوة في ملعقة صغيرة، كنت قد نسيت الشَّجة، وضعت كفِّي علي جبهتي، الجرح قب حتي كاد يلتئم، قلت متودداً : - أنظري.. الجرح قب، لكن، لا بأس.. داوني. عاينت الجرح ثم قالت : - قلت لك إنه خدش.. لن أمسه.. سيبرأ حالاً. كبَّت قليل القهوة علي الأرض، دعكت الملعقة براحة اليد، استطردت : - خذ كيس القمامة وارمه في المكب ثم أحضر الخبز... هيا.. قلت محذراً : - انظري من ثقب الباب. تمعنتْ المشهد، لم تكثرتْ، اعترضتُ علي اللامبالاة بصوت عال : - لن أخرج. تساءلت في هزأ : - أتخشي الكلاب ؟ ! عضة الكلب تُصِيب الإنسان بالسُّعار.. وقد تَقْتلُ .. - الجرذان أيضاً تحمل وباء الطاعون.. خطر الشحاذ الذي قد يكون متربصاً، لم أبح بالخاطرة، كفاني، تمادتْ : - بقيت القطط .. هه ! ! كظمت غيظي، لكن الاستخفاف بي أثارني، قررت أن اندفع خارجا حتي مشارف التهور، اوسعت الخطا في إتجاه الباب أفتحه، أوقفني صوت جلُّيُ يخاطبني من علٍ : مهلاً يا هذا. نظرت إلي العلا، شبِّه لي أن »أبو العلاء المعري » يعُودني. أضاف موجزاً : - لا تخرج.. ابق في بيتك تملّيت الوجه السمح، أجبت وقد غمرتني مشاعر متبانية : - المعاناة فوق طاقتي يا سيدي. استطرد رهين المحبسين في حزم : - تجلَّد يا رجل. غبت عنه بالتفكير في قوله، خجلت من القول بمعاناتي، بحثت عن الوجه الهلامي كي اعتذر لكنه كان قد تلاشي. أوقفت محرك السيارة، تقهقرت يثقل خطوي العجز والخجل، كانت هي قد جاءت، ما كُنت انتبهتُ، لطمتْ خدها، وجمت والفزع في العينين طاغِ، حشرجت : - تحدث نفسك مرة أخري ! ! ما بك يارجل ؟ ! أجبت : - علي ما أراد الله ! ! ما أدركت فحوي القول، طأطأتْ، استدركتْ : - الخبز ؟ ! قلت : - غداً. اتسعت حدقتا عينيها، واجهتني تصرخ غاضبة : - غداً بعيد ! رددت : - أبداً.. إن غداً لناظره قريب. تأوهت : قد لا تكون ناظره. فضضت الجدل : - سيكون له ناظر.. ثقي.