تفاصيل جدول أعمال الشيوخ يومي الثلاثاء والأربعاء الأسبوع المقبل    بالبركة والمحبة.. كنيسة بقنا تستقبل طلاب الثانوية العامة وقت انقطاع الكهرباء    الأمين العام المساعد لمستقبل وطن: 30 يونيو صخرة تحطمت عليها مطامع الإخوان    الفريق أول محمد زكي يشهد تخرج دورات جديدة بالأكاديمية العسكرية للدراسات العليا    تباين أسعار العملات الاجنبية في ختام تعاملات اليوم 27 يونيو    «اللى يعوزه البيت»    صرخات عجوز جباليا من نهشات كلاب جيش الصهاينة يفزع ناشطو "التواصل"    نائب جمهوري يطالب إدارة بايدن بإغلاق رصيف مساعدات غزة    13 توصية لمؤتمر «صراعات القرن الأفريقي وتداعياتها على الأمن الإقليمي والمصري»    يورو 2024.. توريس ينافس ديباى على أفضل هدف بالجولة الثالثة من المجموعات    ستولتنبرج: روسيا تفتقر إلى القوة لتحقيق "اختراقات كبيرة" في أوكرانيا    بعد شكاوى الأندية.. اتحاد الكرة يكلف بيريرا بمراجعة المواقف التحكيمية    تشكيل زد - زيكو يقود الهجوم ضد طلائع الجيش    16 شركة وراء المال الحرام    لرصد المخالفات والإشغالات.. محافظ القليوبية يجري جولة تفقدية في بنها    سوري نويل، شهادة تخرج ابنة توم كروز تكشف تخليها عن لقب والدها    كريم عبد العزيز يعلن موعد عرض الجزء الثالث لفيلم "الفيل الأزرق"    قائد القوات الجوية الإسرائيلية: سنقضى على حماس قريبا ومستعدون لحزب الله    لطيفة تطرح ثالث كليباتها «بتقول جرحتك».. «مفيش ممنوع» يتصدر التريند    دعاء أول شهر محرم.. احرص على 4 كلمات مع بداية السنة الهجرية الجديدة 1446    السبكي: الحوكمة محور رئيسي لتحقيق العدالة الصحية وتحسين الكفاءة والشفافية    «الرعاية الصحية» تعلن حصاد إنجازاتها بعد مرور 5 أعوام من انطلاق منظومة التأمين الصحي الشامل    لهذا السبب.. محمد رمضان يسافر المغرب    محافظ أسوان يلتقي رئيس هيئة تنمية الصعيد.. تفاصيل    أيمن الجميل: تطوير الصناعات الزراعية المتكاملة يشهد نموا متصاعدا خلال السنوات الأخيرة ويحقق طفرة فى الصادرات المصرية    «رحلة التميز النسائى»    تحرك جديد من بديل معلول في الأهلي بسبب كولر    بائع يطعن صديقة بالغربية بسبب خلافات على بيع الملابس    وزيرة التخطيط: حوكمة القطاع الطبي في مصر أداة لرفع كفاءة المنظومة الصحية    إصابة 5 أشخاص في حادث تصادم بالطريق الإقليمي بالمنوفية    محافظ المنيا: تشكيل لجنة للإشراف على توزيع الأسمدة الزراعية لضمان وصولها لمستحقيها    جهاز تنمية المشروعات يضخ تمويلات بقيمة 51.2 مليار جنيه خلال 10 سنوات    شوبير يكشف شكل الدوري الجديد بعد أزمة الزمالك    بيراميدز يتخذ قرارًا جديدًا بشأن يورتشيتش (خاص)    مواجهات عربية وصدام سعودى.. الاتحاد الآسيوى يكشف عن قرعة التصفيات المؤهلة لمونديال 2026    وفاة الفنان العالمي بيل كوبس عن عمر يناهز ال 90 عاما    شيخ الأزهر يستقبل السفير التركي لبحث زيادة عدد الطلاب الأتراك الدارسين في الأزهر    "قوة الأوطان".. "الأوقاف" تعلن نص خطبة الجمعة المقبلة    هل استخدام الليزر في الجراحة من الكيِّ المنهي عنه في السنة؟    حمى النيل تتفشى في إسرائيل.. 48 إصابة في نصف يوم    أستون مارتن تكشف عن أيقونتها Valiant الجديدة    تفاصيل إطلاق "حياة كريمة" أكبر حملة لترشيد الطاقة ودعم البيئة    تفاصيل إصابة الإعلامي محمد شبانة على الهواء ونقله فورا للمستشفى    ضبط سلع منتهية الصلاحية بأرمنت في الأقصر    21 مليون جنيه حجم الإتجار فى العملة خلال 24 ساعة    أمين الفتوى: المبالغة في المهور تصعيب للحلال وتسهيل للحرام    مصرع عامل بنزيما إثر حادث تصادم في بني سويف    أستاذ علوم سياسية: الشعب الأمريكي يختار دائمًا بين رئيس سيء وأخر اسوأ    مقتل وجرح عدد من الفلسطينيين فجر اليوم إثر قصف إسرائيلي استهدف 5 منازل سكنية في حيي الصبرة والشجاعية شمال قطاع غزة    أماكن صرف معاشات شهر يوليو 2024.. انفوجراف    الصحة تحذركم: التدخين الإلكترونى يزيد من خطر الإصابة بالنوبات القلبية    ليه التزم بنظام غذائي صحي؟.. فوائد ممارسة العادات الصحية    طلب غريب من رضا عبد العال لمجلس إدارة الزمالك    حظك اليوم| برج السرطان الخميس 27 يونيو.. «يوم مثالي لأهداف جديدة»    الكشف على 1230 مواطنا في قافلة طبية ضمن «حياة كريمة» بكفر الشيخ    هل يوجد شبهة ربا فى شراء شقق الإسكان الاجتماعي؟ أمين الفتوى يجيب    انقطاع الكهرباء عرض مستمر.. ومواطنون: «الأجهزة باظت»    بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم.. والأرصاد الجوية تكشف موعد انتهاء الموجة الحارة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نحو نظرية نقدية عربية في قراءة الشعر
نشر في أخبار الأدب يوم 14 - 07 - 2018

إذا كان للناقد الكبير الدكتور صلاح فضل فضلٌ كبير أسدي به للثقافة العربية والدرس النقدي العربي بما اضطلع به من دور تأسيسي وأثر إرسائي في تقديمه المناهج النقدية العربية منذ سبعينيات القرن العشرين بدءًا من كتابيه البارزين: كتاب منهج الواقعية في الإبداع الأدبي (1978) الذي كان فضل في هذا الكتاب أول من يقدِّم لنا دروس النقد الثقافي والنقد الماركسي، وأول من يُعَرِّفنا بالواقعية السحرية وبجابريل جارثا ماركيز قبل ترجمته إلي العربية وقبل فوزه بنوبل في (1982)، والكتاب الآخر نظرية البنائية في النقد الأدبي الذي كان أحد أهم الكتب التي مهدت الطريق لدخول النقد البنيوي إلي ثقافتنا العربية، مرورًا بكتابين آخرين كانا علامتين بارزتين في الدرس النقدي العربي هما »علم الأسلوب: مبادئه وإجراءاته»‬ (1984)، وبلاغة الخطاب وعلم النص (1992) اللذين قدم فيهما للأسلوبية وعلم النص- فإنّ لصلاح فضل أثرًا بالغ الأهمية في نقد الشعر تطبيقًا بتقديم قراءات واسعة وممتدة لتجارب عدد كبير من الشعراء وتنظيرًا بما قدمه في كتاب »‬أساليب الشعرية المعاصرة»، ليقدِّم فضل في هذا الكتاب طرحًا تنظيريًّا حول أساليب الشعرية ومداراتها وما شيده من مدرج تصنيفي ل »‬سلم» الدرجات الشعرية، وكذلك تصنيفه للأساليب الشعرية وتوزيعه لها بين الأسلوب الحسي والحيوي والدرامي والرؤيوي، ومع قيام صلاح فضل بالتحديد التصنيفي لهذه الأساليب معتمدًا علي سلم الدرجات الشعرية في تحديد انتماء التجارب الشعرية المختلفة والمتنوعة لأي من هذه الأساليب فإنّه يؤمن- في الوقت نفسه- بالانفتاح الأجناسي والتمدد النوعي، تلك الفكرة التي كان فضل طرحها في كتابه بلاغة الخطاب وعلم النص القائلة بعبر نوعية النوع الجمالي، إضافةً لمقاربات تطبيقية تراوح في تجارب العديد من الشعراء العرب الكبار ومن أجيال مختلفة كأدونيس ونزار قباني والسياب ومحمود درويش وسعدي يوسف والماغوط وغيرهم، تنقلاً بين مدارس متنوعة وأساليب شعرية مختلفة من الشعر الموزون التفعيلي أو العمودي إلي قصيدة النثر.
سيميولوجية التعبيرات الشعرية
يكشف العنوان »‬أساليب الشعرية المعاصرة» ببنيته الثلاثية وما يعتمل فيها من كميائية تفاعلية عن استراتيجية الرؤية النقدية في تعاطيها مع مادتها البحثية بلورةً لنظريتها وتأسيسًا لجهازها المفاهيمي؛ ف»‬أساليب» بتركيبها الجمعي تؤكد علي الوعي النقدي بتمايز »‬التعبيرات» الشعرية وطرائق الأداء الجمالية، وهي تختلف عن مفهوم »‬الأسلوب» الذي هو مجال الدراسة الأسلوبية، إذ يجنح الأسلوب كمفهوم أكثر نحو دراسة بني التعبير اللغوية رصدًا للعلائق بين تركيباتها النحوية وإنتاجيتها الجمالية، فمفهومية الأساليب كتعبيرات أوسع من مفهوم الأسلوب كبنية تركيبية وأداء لغوي إلي مفهوم الأسلوب كتعبير ميتالغوي يتجاوز مفهوم اللغة بنحويتها ليوسعها- باعتبار الأساليب تعبيرات- كمنظومة علاماتية، فيقول صلاح فضل:
»‬والتعبيرات- حسب وصفهم [علماء المعرفة]- مظاهر فيزيقية نستقبلها بواسطة الحواس. فنحن نري الكلمة المكتوبة، تمامًا مثلما نري العلامات المميزة علي أنواع الزهور، ونحن نسمع الكلمات مثلما نسمع صوت الرعد. لكن الكلمات، بعكس تلك المظاهر الأخري، لها طبيعة مزدوجة. فهي تحيلنا علي ما هو كائن وراءها. وهي تجسد لنا المعاني التي يمكن فهمها أو يتعذر إدراكها» (ص ص 18- 19).
مما سبق يتمرأي لنا تجاوزية الإدراك النقدي- لدي صلاح فضل- للمفهوم التقليدي للغة كنسق تجريدي من رموز أو كلمات تمثِّل بنية من المفاهيم concepts في الذهن وتصوراته يقابلها مدلولاتها أو أشياؤها في الواقع المادي الملموس، إلي »‬مادية اللغة» فيما يتمظهر من فيزيقية التعبيرات التي تُعمِل معها الحواس في عمليات الاستقبال والتلقي التي تُمثِّل آليات التأويل وأدواته فكًا للشفرات النصية المشحونة تلك التعبيرات بها. كذا يناظر التَمثُّل النقدي لصلاح فضل بين الكلمة المكتوبة والعلامة (العلامات) وهو ما يتجاوز كتابية اللغة وخطيتها إلي علاماتية الكتابة، وهو ما يتأكد مما أشار إليه فضل من الطبيعة المزدجة للكلمات، وهو ما يعني تجاوز لغويتها النحوية ومعناها الأول إلي ميتالغويتها وسيميولوجيتها، ومما يتبدي من وعي صلاح فضل بأهمية العنصر الصوتي باعتباره تمظهرًا مورفولجيًّا للكلمة بوصفها »‬علامة» مواكبة فضل الحداثية العميقة لمقولات فلسفة التفكيك التي قامت علي خلخلة التمركز اللوجسي للكلمة وإقامة التوازن بين الكلمة باعتبارها خطًا وكتابة والكلمة بوصفها صوتًا. فيقول فضل:
»‬ويطلق علي التنظيم الدقيق للكلمات عندما تندرج في تعبيرات تيسر مهمة الإحالة المزدوجة علي مصطلح اللغة. فاللغة نسق اصطلاحي للتعبير، ومن ثم فإنه يتعين تصنيف التعبيرات إلي طبيعية واصطلاحية، لاعتبار كل ما هو اصطلاحي لغة تصلح موضوعًا للدارس الإنساني. من هنا يتراءي لنا أن منطلق دراسة الأبنية الشعرية، باعتبارها لغة ثانية، لا بد أن يتأسس من منظور التعبير، لكنه لا يقع في منطقة التشفير ذاتها، وهي ميدان علم نفس الإبداع، ينحو إلي الارتباط بفكرة التوصيل المتعلقة بالقراءة، وهي متزامنة مع التوصيل اللغوي الطبيعي ومجاوزة له بشفرتها الجمالية». (ص 19).
يتبدي لنا- هنا- إبراز صلاح فضل لفكرة النسق الذي هو عملية تنظيم دقيق للكلمات أي فعل نحوي تركيبي مع فكرة الاصطلاحية التي تراعي مبدأ خصوصية النسق وسياقية التركيب، وهو ما يبرز كون الأبنية الشعرية لغة ثانية، أي لغة تتعالي علي اللغة بأجروميتها وهو ما يؤسس لشراكة هرمينوطيقية معتمدة علي دور القراءة وفعل التلقي في إدراك سيميولوجية التعبيرات الشعرية، وكما هو بادٍ فثمة وعي لدي فضل بفكرتي التزامن والتجاوز، تزامن الأبنية الشعرية لفعل التوصيل اللغوي الطبيعي الذي هو أداتها المادية المباشرة وتجاوزية تلك الأبنية الشعرية بشفرتها الجمالية للتوصيل اللغوي الطبيعي، وهو ما يؤسس للغة ثانية التي تبدو في هذه الحالة لغة مفتوحة ومتمددة البني بانفتاح المجاز واتساع الفاعلية التخييلية ما يؤدي إلي تعويم النص الشعري/ الأثر الذي يمسي كدال/ أثر قيدًا لاختلاف مرجأ لمدلولاته.
أما ثاني مكونات عنوان الكتاب »‬الشعرية» التي أراها تختلف- هنا- عن الشعرية بمعني الأدبية أو الجمالية التي تعني كون الأثر/ النص فنًّا جماليًّا، إذ تعني الشعرية- هنا- الإنتاجية الفنية للنص/ الأثر ما يجعل منه شعرًا، وهو ما يتفاعل مع مضافه »‬أساليب»، وكأنّ سمة الشعرية وخصيصتها البارزة إنما تنوعها الأساليبي وتعددها التعبيراتي.
ويأتي ثالث مكونات العنوان »‬المعاصرة» ليس ليحدد فقط المجال الزمني للعينة المبحوثة والنماذج المدروسة التي جاءت في النصف الثاني من القرن العشرين- بل ليبرز أيضًا تحولات الشعرية وتغير تأثيرات البني المساهمة في تشكيلها، فقد تزايد الفعل وتنامي الدور الذي تلعبه أبنية تكوينية في النسيج الشعري كدرجة الكثافة ودرجة التشتت ودرجة التجريد لترتفع أسهمها في الشراكة الإنتاجية للبناء الشعري مع البنية الإيقاعية والبنية النحوية اللتين كانتا أكثر استحوازًا علي النصيب الأكبر من أسهم الشعرية، وهو ما يبرز تغير مفهوم الشعر نفسه مع تطوُّر الزمن الذي يتمرأي في تطوُّر إسهامات البني التعبيرية في تشكيل اللوحة الشعرية.
سلم الدرجات الشعرية
في مسعاه لتشكيل جهاز مفاهيمي قابل لاستيعاب الأساليب الشعرية وتنظيم تعبيراتها وتعيين أبنيتها يؤسس صلاح فضل سلمًا للدرجات الشعرية خماسي الوحدات، بادئًا بالبنية الإيقاعية التي يعتبرها جريماس »‬أجرومية التعبير الشعري» فيبرز صلاح فضل مستويين للإيقاع مؤكدًا أنَّ:
»‬درجات الإيقاع تشمل المستوي الصوتي الخارجي، المتمثل في الأوزان العروضية بأنماطها المألوفة والمستحدثة. ومدي انتشار القوافي ونظام تبادلها ومسافاتها، وتوزيع الحزم الصوتية ودرجات تموجها وعلاقاتها، كما تشمل ما يسمي عادة بالإيقاع الداخلي المرتبط بالنظام الهارموني الكامل للنص الشعري.... وإذا كانت »‬ثورة الإيقاع» التي شهدها الشعر العربي المعاصر قد انتقلت بالمظهر الصوتي الخارجي للشعر من مجرد عرف محتوم مقولب، إلي بنية محفزة وسببية، تتشكل من جديد في كل مرة، عبر مستويات متدرجة، تبدأ من القصيدة العمودية التي تظل قطبًا موسومًا، إلي قصيدة النثر التي تمثل غاية الانحراف عن النموذج الأول، فإن توظيف هذا المدي الإيقاعي العريض يظل ملمحًا فارقًا وجوهريًّا يميز بين الأساليب الشعرية ويحدد درجة قربها أو بعدها من الغنائية التي تكاد تتمركز عند القطب الأول» (ص27- 28).
يبرز فضل مستويين للإيقاع أولها الصوتي الخارجي كالأوزان والقوافي مع بيان التطور الذي أصاب الشعر العربي بتلك الثورة الإيقاعية مع التحوُّل من القالب العمودي الآلي الوزن والثابت التقفية مع استحالة هذا المظهر الصوتي إلي بنية، في المقابل فإنّ التفات صلاح فضل للمظهر الصوتي كبنية يعكس ثورة أو تطورًا في النقد يواكب حركة الإبداع وثورة الشعر، استخدامًا لمفاهيم ومصطلحات علمية كالبنية، وهو ما يكشف عن العلل الكامنة وراء التشكيل المادي الظاهر للنص الجمالي، ومفهوم البنية يعني »‬نظامًا» خاصًا له قوانينه الذاتية وله بروزه الذي يمكن معه إخضاع تلك البنية وأية بنية للملاحظة والقياس إذ تتمتع البنية باستقلاليتها باعتبارها نظامًا له اكتفاؤه وآلية عمله، في الحين الذي تتفاعل فيه تلك البنية مع غيرها من بني النص وتؤثر- بالتالي- في النظام الكلي للنص وتسهم في نسج شبكة دواله، كما تعمل البنية الإيقاعية سواء ببذخ تمظهراتها وكثافة عناصرها أو اقتصادها علي تحديد نوع الأسلوب الشعري ومدي اقترابه أو بعده عن الغنائية.
وفي اتجاه موازٍ لا يغفل فضل مظهرين آخرين للانحراف التعبيري عن ذلك الأسلوب الغنائي أولهما ببيان مظهر آخر للإيقاع وهو »‬الإيقاع الداخلي المرتبط بالنظام الهارموني الكامل للنص الشعري» وهو الجانب الذي كان يغفله النقد الكلاسيكي والتوجه البلاغي المدرسي المحافظ في النقد الذي يحتاج لبصيرة نقدية ثاقبة وحس تشريحي قادر علي اجتراح أغوار النص واستكناه خلاياه الداخلية، وثانيهما هو التخلي التام عن الإيقاع الصوتي الخارجي فيما يُعرف بقصيدة النثر التي مثّلت شكلاً فنيًّا للمعاصرة الجمالية بالتخلي عن التمظهرات المادية للإيقاع الشعري في سبيل الصور والأفكار.
أما ثاني البني التي يضعها فضل في سلم الشعرية فهي الدرجة النحوية التي يذهب بأنّها: »‬مصطلح توليدي اقترحه أولاً »‬تشومسكي» كطريقة منظمة لتحديد نوعية الانحراف اللغوي عبر مقولات شكلية مضبوطة إذ يقول: »‬إنّ النحو المناسب وصفيًّا ينبغي أن يقوم بتشغيل كل تلك الفوارق علي أسس شكلية.. أن يميز بين الجمل المكونة بطريقة سليمة تمامًا وبين تلك التي لم تتولد من نظام القواعد النحوية، بالإضافة إلي فصله بين الجمل المتولدة بمخالفة المقولات الفرعية من تلك التي تنشأ بالانحراف عن قواعد الاختيار.. ويبدو أن الجمل التي تكسر قواعد الاختيار المتعلقة بخصائص المعجم علي »‬مستوي أعلي» أقل قابلية للتقبل، وأصعب درجة في التأويل من تلك التي تتعلق »‬بالمستوي الأدني»» (ص29).
يبرز صلاح فضل أنّ من سمات الشعرية وتعبيراتها هذا الانحراف اللغوي والخرق النحوي، وإن كان لتجاوزية الشعر للغة جذور في البلاغة والنقد القديمين فيما عرف بالضرورة الشعرية التي كانت تبيح للشاعر خرقًا لقواعد النحو، ولكنّ تلك الضرورة الشعرية كانت تتمثّل في خرق محدود في مكوِّن فردي من مكونات التركيب، فإنّ هذا الانحراف النحوي الذي مارسته الشعرية المعاصرة يبدو أوسع مدي وأكثر تعقيدًا مما أتاحته الضرورة الشعرية، وإن كان للخرق المعجمي تفضيل أكبر في الانحراف النحوي تأسيسًّا للشعرية. ولنا أن نشير في هذا الصدد إلي أنّ الجهود اللاحقة في هذا الشأن قد نظرت إلي هذا الانحراف التعبيري في الدرجة النحوية في أساليب الشعرية إلي كونه ليس خرقًا لقواعد اللغة بقدر ما هو استعمال لما سماه جان جاك لوسركل في كتابه عنف اللغة (1990) ب»‬المتبقي» الذي يراه لوسركل »‬يروغ من قواعد النحو، ويتفلّت من قوانين الألسنية التي درسها وصاغها فرديناند دوسوسير. وهذا الجانب هو الذي يرتع فيه المبدعون والشعراء والصوفيون والمهووسون ومن شابههم، ومع أنّ الممارسات في هذا الجانب لا تسير بحسب قواعد النحو، إلا أنّها، كما يؤكِّد لوسركل، تُغْني اللغة وترفدها ولا تنقض عراها»، فالمتبقي هو الوحشي المهجور من اللغة. ف »‬لئن كانت، علي حد قول جوديث ميلنر، صياغة قاعدة نحوية هي عملية، فإنّ وصف المتبقي هو نفي لهذا النفي- هو عملية تسير عكس الممارسة العملية، وهو التعامل، علي طريقة كوربيه، مع ما هو استثنائي وغير ذي علاقة، والمخالف لقوانين النحو»، لذا فالمتبقي هو توسيع دائرة النحو بالخروج علي دوجماطقية التقعيد.
وينتقل فضل لثالث البني التي ينشئها في سلم الشعرية وهي »‬درجة الكثافة» التي يقول عنها:
»‬هي ذات خاصية توزيعية بارزة، وهذا يجعلها قابلة للقياس الكمي والنوعي، وتتصل أساسًا في تقديرنا بمعيار الوحدة والتعدد في الصوت والصورة، وهذا يجعلها ترتبط بحركة الفواعل ونسبة المجاز وعمليات الحذف في النص الشعري. كما أنها تتجلي في مظاهر تتعلق بالفضاء غير اللغوي للنص وطريقة توزيعه. ويربط »‬جريماس» بشكل واضح بين درجة الكثافة الشعرية وعدد العلاقات البنيوية في النص». (ص ص30- 31).
كما يبدو فإنّ لغة صلاح فضل النقدية في خطابه النقدي التنظيري تبدو مراعية اللغة العلمية وتسعي في تمظهرها الإجرائي إلي استيفاء خطوات منهجية علمية مثلما يبرز في مصطلحات كالقياس الذي هو سمة المنهج العلمي التجريبي، ومراعاة شقي القياس الكمي والنوعي يتوازي كذلك مع العلمية التي تتحرك من الكمي إلي الكيفي.
كذا يبدو فضل منتبهًا إلي ضرورة تتبع عمليات الحذف في النص الشعري واضعًا في الاعتبار كتابة المحو والنص الغائب الذي يظلل النص الشعري المدروس، كما يعمل فضل علي استثمار نظرية الفواعل التي أسسها جريماس في تحليل النص السردي- في تحليل النص الشعري وهو ما يكشف عن حداثوية وعي فضل وتقدمية فكره النقدي وإدراكه بأنّ النص الشعري هو تمظهر من تمظهرات السرديات ونوع منها، كذا يبرز فضل أهمية معاينة التحليل النقدي الفضاء غير اللغوي للنص في تجاوز للنقد الكلاسيكي المؤسس علي البلاغة القديمة ذلك الذي كان يقوم علي الاقتصار علي تحليل لغوي للنص الشعري.
أما البنية الرابعة التي يؤسس لها صلاح فضل في سلم الدرجات الشعرية فهي درجة »‬التشتت» أو التماسك في النص الشعري، فيذهب إلي أننا بالوصول إلي تلك الدرجة:
»‬كنا حيال مظهره الكلي العام الذي تفضي إليه المستويات السابقة. وهو أكثر العناصر التحامًا بالخواص الجمالية الشاملة للنص، ويرتبط بدوره بالمستويات السطحية والعميقة لهٍ، حيث تقوم العلاقات النحوية والدلالية، ومدي ما يتمثل فيها من ترابط أو تفكك بدور هام في إنتاج درجة التشتت» (ص32-ص33).
يبدو صلاح فضل أنّه يؤسس سلمه النقدي في تحليل الشعر تأسيسًا علِّيًّا، كذا فهو يوظِّف مبادئ التحليل الألسنية في قراءة النص الشعري باستجلاء علاقات معالم النص بمستوياته السطحية والعميقة.
أما آخر درجات السلم الشعري لدي فضل، فهي درجة »‬الحسية أو التجريد» تلك الدرجة التي تكشف مدي ارتباط النص بدرجات النحوية والإيقاعية أو اقتصاده وتخففه منها، وبالطبع مع تعمق الوعي الجمالي في الحداثة وما بعدها يبتعد النص الشعري عن الحسية ليدنو أكثر من التجريد كتمظهر بادٍ ودال علي تعقُّد الخطاب الشعري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.