ربما يكون أكثر المرشحين إشكالية هو عبد المنعم أبو الفتوح. المشكلة الأساسية للإخواني السابق، أنه يبدو محسوباً علي تيارات متنوعة للغاية، فهو من جهة يمثل الإسلاميين، بوصفه إخوانياً، ويمثل الليبراليين، بوصفه إخوانياً سابقاً، تم فصله من الإخوان بعد توترات بينه وبين الجماعة استمرت لسنوات طويلة، كما يمثل بعضا من اليساريين، بصفته قريبا من بعضهم، حمدين صباحي الناصري اليساري، ورباب المهدي الاشتراكية الثورية نموذجاً. هذه هي الحالة المتناقضة له، هذا ما يجعله في أعين البعض مرشحاً توافقياً، يصلح لجميع الأغراض، ويجعله في أعين البعض الآخر مرشحاً مشكوكاً في فكره من الأساس. "أنا محافظ ليبرالي ذو هوي يساري"، هي جملته التي يستشهد بها من يحبونه ومن يكرهونه علي حد سواء. بدأت التوترات بين أبو الفتوح والجماعة علي حسب ما يحكيه المقربون منهما، بزيارة الأول لنجيب محفوظ وكتابته مقدمة رواية "أولاد حارتنا"، الزيارة كشفت عن حس ثقافي "لايت" لدي أبو الفتوح. قال أبو الفتوح لنجيب محفوظ لدي زيارته له في "فرح بوت": "كم نحن فرحون أن يدك عادت للكتابة مرة أخري بعد أن أراد الظلاميون أن يسكتوا هذه اليد وهذا الصوت". "نحن" هذه بالطبع تعود علي الإخوان . كان ذلك قبل سنوات من ترشحه للرئاسة وفصله من الجماعة. في زيارته لمحفوظ، كما كتب الزميل محمد شعير عن "الزيارة التاريخية"، بحسب وصف محفوظ نفسه، حمل أبو الفتوح رسالة من الإخوان إلي صاحب نوبل: "تحمل لك الإعزاز والتقدير، وتعتبر أن النجاح النسبي الذي حققوه في الانتخابات نتيجة لفضل محفوظ علي مصر كلها، بنشره الاستنارة والاعتدال في كتاباته ورواياته".
في حوار سابق معه أكد أبو الفتوح أنه يقرأ لمحفوظ وعباس العقاد وتوفيق الحكيم، ولكن قلة وقته تحول دون القراءة المكثفة والعميقة للأدب. قال أيضاً إنه يحب الاستماع لأم كلثوم واستشهد بعمر التلمساني: "كنت أتصور أنني الوحيد الذي يستمع لها [في الجماعة] إلي أن فوجئت أن عمر التلمساني يحب الاستماع لها أيضاً". وصف أبو الفتوح أم كلثوم بأنها "الصوت المغرد"، واستغل هذا للاحتجاج علي حالة الانحطاط الغنائي التي نعيشها، مستشهداً بأغنية "الطشت قالي". يبدو هنا أبو الفتوح مثل شخص عادي من المصريين، لا شيء لديه عميق ضد الغناء والموسيقي (في حد ذاتهما، ولكنه محافظ إزاء أنواع الغناء الجديدة التي يعدها "منحطة ) أو "أقل رقياً". في نفس الحوار يقول أبو الفتوح عن ام كلثوم والمتطرفين: "ييجي واحد متطرف يقول دي بتقول "بعيد بعيد وحدينا" (يضحك) ماهو "بعيد بعيد وحدينا" دي مالها"؟! هذا الفيديو تم وضعه علي موقع اليوتيوب في إطار الهجوم السلفي علي أبو الفتوح. أخذ الفيديو عنوان "أبو الفتوح يسمع أم كلثوم ويصف من يرفضها بالمتطرف". ومثل أغلب المرشحين، فالبرنامج الانتخابي لأبو الفتوح لا يحوي كلاماً مفصلاً عن الثقافة، وإنما فقط مبادئ عامة: "لا تتقدم المجتمعات إلا من خلال منظومة القيم والأخلاق المستمدة من التراث الأصيل، والمعرفة الإنسانية الحقة، التي تربط بين أفرادها ومكوناتها ومقوماتها في نسيج مجتمعي يعلي قيم البذل والعطاء، والحب والخير والتسامح ويقدم الوحدة الوطنية والتماسك المجتمعي علي المصلحة الحزبية أو الطائفية الضيقة، لذا فإن سياسة مصر ستكون منفتحة علي شعوب العالم وتنتصر للحرية ضد الاستبداد، والعدل ضد الظلم، والتحرر ضد العدوان". والدستور هو أول مهام الرئيس المنتخب الجديد، والدستور المنشود من وجهة نظره هو "دستور حضاري ينتصر للمواطن المصري من خلال إرساء قواعد سيادة وإرادة الشعب والحريات العامة والقيم، والديمقراطية واحترام الكرامة الإنسانية، وترسيخ حقوق المواطن المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وحق الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية والمساواة بين الناس في ظل سيادة القانون واستقلال القضاء والمحكمات المدنية العادلة". يبدو هذا الخطاب للكثيرين خطاباً إخوانياً صميماً، يحتفي بكل القيم "المتفق عليها"، ويهدف إلي طمأنة الجميع، بدون قول أشياء ملموسة وتفاصيل واقعية. لا يخفي أبو الفتوح هذا، لا يزال يفخر بنشأته الإخوانية والقيم التي تلقاها داخل الجماعة، ولكن خلافه مع الجماعة لا يتعلق فقط بزيارته لنجيب محفوظ، إنه يتعلق بكيفية اختياره لمديري حملته، رباب المهدي الاشتراكية الثورية (السافرة المتبرجة، بحسب أوصاف بعض السلفيين) هي المنسقة السياسية لحملته، كما أعلن أبو الفتوح تضامنه مع الثوار، حتي في ظل هجوم الإخوان عليهم. بالإضافة إلي أن عدداً من شباب الإخوان المنشقين عن الجماعة التحقوا بحملته وأدخلوا علي برنامجه بنوداً تتعلق بالعدالة الاجتماعية ومحاربة الخصخصة، وهذا ما يميزه عن برنامج الإخوان الليبرالي الصرف من الناحية الاقتصادية. مع هذا، يظل خطابه عن الثقافة مريباً للكثيرين، "نحن لم نختبر بعد كلامه"، والتجربة علمت الكثير من المتشككين أن الإخوان خاصة مع وصولهم للسلطة - لا أمان لهم. يبدو أبو الفتوح نفسه واعياً بهذه المشكلة. يشير طول الوقت لإيمانه بالشريعة الإسلامية، ولكنه يبدو مؤمناً بمبادئها أكثر من تفاصيلها الضيقة، ربما ليميز خطابه عن خطاب الإخوان والسلفيين علي حد سواء. ومبادئ الشريعة الإسلامية كما يقول، ويقول معه الكثيرون هي "الرحمة والعدل والحرية" وغيرها من المبادئ العامة. الوضع صعب. خاصة مع قلة البدائل الموجودة. في الأيام السابقة بدأ كثير من شباب المثقفين اليساريين والليبراليين يتجهون لتأييد عبد المنعم أبو الفتوح، وهو ما أثار حفيظة يساريين وليبراليين آخرين. كتب الشاعر محمد خير علي صفحته بالفيسبوك يتساءل كيف يمكن ليساريين أن يدعموا مشروعاً إسلامياً فاشياً، مضيفاً أن الكلام عن اعتدال أبو الفتوح وسماعه لأم كلثوم ليس كافياً، ليؤمن بتحرره. ولكن خير لم يطرح البديل، وهو النقطة الأصعب. البدائل ليست كثيرة بالنسبة للمثقفين، هناك مثلا عمرو موسي وزير خارجية مبارك الأسبق، وهناك خالد علي الناشط السياسي الاشتراكي، الذي تبدو فرصه في المنافسة ضعيفة للغاية، وهناك الناصري حمدين صباحي الذي يبدو أوفر حظا من خالد علي وأقل حظا من أبو الفتوح. كما أن مشاكل الليبراليين واليساريين مع الناصرية كفكر لا تقل كثيراً عن مشاكلهم مع الإسلام السياسي. أدي هذا للوضع الراهن، كثيرون من "المعسكر المدني الثوري" إذا جاز التعبير، وينتمي لهم غالبية المثقفين، يؤيدون أبو الفتوح وكثيرون يؤيدون صباحي. والمعسكر الإسلامي الثوري صوته سيذهب لأبو الفتوح في الغالب. المعسكر المدني غير الثوري في الغالب سيقوم بالتصويت لعمرو موسي، أما المعسكر الإسلامي غير الثوري فسيقوم بالتصويت لمرشح الإخوان. هذه هي الخريطة في الغالب. جدل محمد خير ليس منبت الصلة بالجدل الثقافي الواسع. كثير من النقاشات الآن بين المثقفين تدور حول نقطة واحدة "هل يمكن أن يدعم الليبراليون واليساريون إخوانياً سابقاً مهما ادعي الاعتدال"، والسؤال الأهم "من الأقرب للمثقفين، الإخوان أم النظام السابق، عبد المنعم أبو الفتوح أم عمرو موسي". الفريق الذي يعلن عن ارتياحه لعمرو موسي لديه معادلته التي يبرر بها اختياره،، رئيس مدني (مقبول شعبياً بشكل نسبي) أمام برلمان وحكومة إسلاميتين، وفريق أبو الفتوح لديه أيضاً معادلته "رئيس إسلامي معتدل، مثله مثل أردوغان أو مهاتير محمد، ولم يتم اختبار فشله من قبل مثل وجوه النظام السابق". من ناحية ملف الحريات، وهو وثيق الصلة بملف الثقافة، يطرح برنامج أبو الفتوح نقاطاً أكثر تفصيلية: "وضع قانون لمكافحة التمييز في الوظائف العامة والخاصة"، "إقرار قانون بناء دور العبادة، وتحويل ملف بناء الكنائس ليتبع الإدارات المدنية المحلية وليس للجهاز الأمني"، وتشجيع البحث العلمي وإعطاؤه الأولوية، أما بالنسبة للمناطق الحدودية فإن "التنوع الثقافي المصري طاقة ثراء للمجتمع. (وينبغي )التأصيل له عن طريق الاهتمام بالروافد المصرية الأصيلة من النوبة إلي أبناء سيناء، من البدو والحضر والصحراء الغربية والتعريف بهذا التراث ودمجه في المناهج التعليمية، ووضع برنامج مستقل للحفاظ علي وتنمية هذا التراث والثقافات المصرية المختلفة (نوبية، قبطية، إلخ)". كالعادة، ستتم مهاجمة أبو الفتوح من فريقين، أحدهما يري الإشارة إلي الثقافة القبطية (تحديداً) كدليل علي التفريط في ثقافة الأمة (العربية المسلمة طبعاً)، والفريق الآخر سيستشهد بهذه الفقرة للتدليل علي الكلام العام الذي لا يتضمن جديداً، وسيضعه في إطار "كلام مبارك عن محدودي الدخل" مثلاً. كما بدأنا أول المقال ننهيه، لا يزال أبو الفتوح هو المرشح الأكثر إشكالية ووقوفاً بين الحدود. لعمرو موسي ناخبوه، ولحمدين صباحي ناخبوه، أما أبو الفتوح فلا يعرف أين يضع رأسه.