من عشاق الأتوبيس أنا. أكثر من خمسة وأربعين عاما منذ جربت حرية الحركة وحيدا بين الأحياء بالقاهرة وأنا أهوي ركوب الأتوبيس. فالهواء الطلق وجغرافيا الناس والأماكن ومعالم الأشياء خير صاحب لرحلتي اليومية. أركب الأتوبيس منذ زحامه اللافت للنظر أوائل سبعينيات القرن الماضي وكان أشبه بسيدة تعيش أيام حملها الأخيرة وقد تدلي بطنها خارجا عن حدوده، لا فرق سوي أن بطن الحامل يسبقها أما حمل الأتوبيس فيتدلي جانبا من بابيه الأمامي والخلفي عشرة أشخاص أو أكثر يقفون علي سلم الأتوبيس أقدامهم علي السلم ونصفهم العلوي برؤوسهم يتدلي للخارج ويحميهم جميعا تعيس الحظ آخر من وضع قدميه علي سلم الأتوبيس. كان هذا المشهد وسعر التذكرة ثلاثة قروش للثانية وخمسة للدرجة الأولي، لتلعب مع الناس بعدها هيئة النقل العام لعبة الألوان، كأنما تضع لهم بين الوقت والآخر اختبارا لأنظارهم في عمي الألوان ولجيوبهم في القدرة علي المرونة وسعة الأفق مع تغيير سعر التذاكر الذي توالي يتري من قروش قليلة حتي بات الجنيه في عرفه عملة منقرضة غير ذات وجود أو اعتراف بها. من خمسة قروش للتذكرة بالأتوبيس إلي عشرة فخمسة عشر فعشرين فربع جنيه ثم نصف الجنيه فالجنيه ثم اللوثة بالجنيه ونصفه للغلابة واثنين ونصفهما لدفعة هدية الإمارات البرتقالية.. ومع لعبة الألوان جربوا فينا كل ألوان الطيف ومع كل لون كان السعر الجديد هو العفريت المختبئ وراء اللون والماركة الجديدة التي تجدد بها الهيئة أسطولها. وظلت أرقام أتوبيسات القاهرة صامدة محفوظة لكل مستخدمي الأتوبيس وأنا منهم حتي كان مرأي الأتوبيس من بعد موحيا بالرقم وخط السير. كانت تلك الأرقام في حدود معينة لأتوبيس النقل العام وأخري لأتوبيس القاهرةالكبري. وكانت ألوان الأحمر والأزرق والأخضر مجال التغيير الدائم لكن الأخضر ذات سنة من التسعينيات جاء بلون جديد وتعريفة غير مسبوقة بخمسين قرشا للتذكرة وتركت بعض الخطوط القديمة بربع جنيه للفقراء تأتيهم ملأي بالأوساخ البترولية من الجراج.. وتكررت اللعبة في التخلص من الخمسين قرشا واللون الأخضر بجنيه للون الأحمر ودفعة جديدة من الأتوبيسات التي ما كادت ثورة 25 يناير تقوم حتي خرج الأخضر من الملعن وبات الأحمر هو السيد، حتي إذا عادت الإمارات بعد سقوط الإخوان لدعم أشقائها في مصر بدفعة أتوبيسات صفراء وزرقاء كانت الثورة علي القديم ذات شقين بلعبة مزدوجة أمامية في وجوه الركاب فدمرت الأرقام القديمة ووضعت أرقاما جديدة لنفس المسارات لكن بجنيهين دفعة واحدة، وشيئا فشيئا تنقرض الأرقام القديمة المحفوظة للركاب لأنها بجنيه واحد، ثم تكتمل الضربة المزدوجة الأمامية برفع ذات الجنيه الحمراء إلي جنيه ونصفه والأخري الصفراء لجنيهين ونصفهما. وهنا تضرب الهيئة ضربة مزدوجة لكن خلفية بوضع الأرقام القديمة علي الأتوبيسات الجديدة الهدية والأسعار الجديدة علي الأتوبيسات القديمة التي علي وشك التكهين! وبات شعار الهيئة للركاب يخرج لسانه لهم وهو يقول: باتنين ونص.ِ