لا شيء سوي أني أري / أن »التاء« / في نهاية الكلمات / ابتسامة كبيرة / بينما يريدونها هم/ متجهمة دائما / ومربوطة هكذا لخصت ملكة بدر محاولتها الأولي في عالم الشعر، فهذه القصيدة القصيرة سجلتها علي ظهر غلاف ديوانها »دون خسائر فادحة« ، وهي تحمل الملمح الأول لهذا الديوان القصير، وإن احتوي علي ثلاثين قصيدة. فالبدء بأنه »لا شيء« هو رغبة في التخلص من العقبة الأولي أمام متلقي الديوان، وهو أن هناك أنثي تكتب، لنتخلص إذن من التاء المربوطة، علي الأدق نحررها ليبقي الشعر. وإذا عملنا برغبة الشاعرة، وبحثنا في الديوان دون تلك الخلفية التقليدية، سنكتشف أننا أمام بذور صالحة لشجرة شعرية مثمرة، ربما تحمل الدواوين القادمة ظلالها وأوراقها وما تفيء به. وربما كان المجاز صالحا كمدخل لتلك التجربة، فعبر قصائد الديوان الثلاثين تبذل ملكة محاولات حثيثة لخلق طريقتها الخاصة في صياغة الاستعارات. ولعل قصيدة/صورة »النفق« كانت أوضح تلك المحاولات: أكره الأنفاق/ ملتوية/ مفاجئة/ خانقة/ ولها دائما سقف وإذا كان المفهوم الكلاسيكي للمجاز هو تجاوز »الواقع« إلي خيال يشبهه، وذلك لتقريبه. فإنه يفترض وجود ذلك الواقع علي نحو ما، وإيضاح العلاقة بين الواقع والخيال، غير أننا نشهد هنا غيابا كاملا لذلك الواقع، حتي أنه يصبح واقعا افتراضيا. نحن لا نعرف ما الذي تحاول الشاعرة أن تشبه الأنفاق به: هل هو الحياة؟ الزواج؟ الحب؟ العلاقة بالذات؟ العلاقة بالآخر؟ ... إلخ، فهناك مجال مفتوح يكاد أن يكون لانهائيا لاختيار واقع يلائم المجاز علي عكس الشائع. وهكذا فإن قصائد الديوان تصل إلي »بيت القصيد« ، وهي القصيدة التي تحمل عنوان: »حقائق علمية« ، وأخيرا وصلت ملكة إلي مبتغاها، وهو تبادل الأدوار بين الواقع والمجاز، بحيث يصبح المجاز هو »الحقيقة العملية« بينما عليك أن »تتخيل« الواقع. القصيدة بأكملها عبارة عن »قواعد طبية« ، عن الندبة، تكتبها كما هي، دون أدني محاولة لكتابتها بلغة شعرية، أو بتكثيف، أو موسيقي، أو إضفاء أية شحنات مساعدة. والقصيدة، إذ لا تحاول صياغة كل هذا، فإنها تراهن علي أنه سيتخلق من تلقاء نفسه، وأن الحقيقة المجردة بإمكانها أن تنطق بلغة مكثفة لها موسيقاها الخاصة. مثلا، تقول الشاعرة: تجنب التعامل بخشونة مع الندبة، لأنها عادة ما تكون أكثر حساسية من الجلد السليم. إنها كتابة تؤمن بأن أقصر طريق بين النقطتين هو الخط المستقيم (حتي هذه مستعارة من الهندسة) وبهذا فإنها تصل إلي ما تريد قوله مباشرة، غير أنها بذلك تصل إلي منطقة لا يمكنك التعرف أبدا علي ما تود (هي) قوله، إنها تختبئ وراء المجاز مكتفية بأن تساعدك أنت علي ما تود ان تقوله. إنها لعبة إذًا، يتحول فيها كل شيء إلي نقيضه. حسنا، فلنتبع قواعد اللعبة إلي النهاية لنكتشف أن »اللاشيء« الذي انطلقت منه الشاعرة، هو كل شيء، وأنها لا تسعي إلي إهمال وإغفال ملف كونها أنثي تكتب الشعر، وإنما تحاول فقط إخفاءه، لتمريره! هذا الملف بالكامل تقرأه في قصيدة اللاطمأنينة، التي هي إحدي أطول القصائد في الديوان وأكثرها فيضا، كما نلمحه مبددا عبر قصائد الديوان الأخري، وكأنها تستسلم للعنة الأنثي وعالمها، وهكذا فإن محاولة تحرير التاء المربوطة، تبقي محاولة غير ناجحة، وإن يبقي الأمل في تحويلها لابتسامة بدلا من أن تبقي هكذا متجهمة، كما يريدونها، والأهم أن يحدث ذلك »دون خسائر فادحة« . علي أن الحديث عن الديوان يجب ألا يمر دون الإشارة إلي ضرورة الاعتناء باللغة، حتي وإن لم تكن جمالياتها مدخلا لعالم ملكة الشعري، إلا أن الشعر، أيا كانت ملامحه، يبقي فقيرا دون لغة تسانده، وإلا فإن هذه هي الخسارة الكبري.