تصوىر: سىد داود جينارو جيرفازيو أكاديمي ايطالي يحاول طوال الوقت البحث عن المناطق المسكوت عنها في الحالة المصرية، عندما اراد اعداد أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه، كان كل زملائه يعملون من زوايا مختلفة علي الحركات الاسلامية، كشكل وحيد للمعارضة في الدول العربية والاسلامية، ولكنه اختار العمل علي تاريخ الشيوعيين كفئة معارضة تمتلك تصورا للعالم يبدو اوسع بالنسبة له من تصور الاسلاميين، واختار ايضا فترة السبعينيات التي لم يحاول احد فتح ملفاتها من قبل، ليصدر كتابه في العربية العام الماضي بعنوان "تاريخ الحركة الماركسية في مصر من 1967 إلي 1981 كأول دراسة لتاريخ اليسار المصري في تلك الفترة. علي ان اهم ما يميز عمل جينارو سواء البحثي أو في دراساته ومقالاته هو تخلصه من النزعة الاستشراقية التي تصاحب اعمال الكثير من الباحثين الاوربيين والامريكيين، اذ يعمل جينارو بحب كبير لمصر وفهم عميق لخصائص حركتة تاريخها، عندما كان جينارو يتحدث معي لم يكن يستعمل كلمات مثل "المصريين" أو "المجتمع المصري" ولكنه كان يتحدث ب"نحن" عندما يتحدث عن المصريين أو عن الثوار، وجهة نظر جينارو الآن تبدو مهمة اذ هو علي احتكاك بالمقولات الدائرة في الاوساط الغربية عن الثورة المصرية، وايضا لمتابعته تفاصيل ما يحدث باهتمام، وبحب وهذا هو الاهم. دعوات كثيرة للنزول للميادين في 25 القادم.. كيف تري دلالة هذه الدعوات؟ اذا حاولنا النظر الي الصورة العامة انطلاقا من الايام الحالية، حيث تجري المرحلة الثالثة من الانتخابات، فمن المفترض في أي بلد مر بتجربة ثورة مثلما حدث في مصر، أن يكون التركيز علي الانتخابات ونتائجها، ولكن اذا تصفحت الجرائد، أو قنوات التلفزيون، أو تتبعت الحوارات الدائرة علي المقاهي فستجد أن معظم الاهتمام لا ينصب علي الانتخابات وإنما علي 25 يناير القادم. قد تبدو هذه تفصيلة صغيرة، ولكن في رأيي هذا يدل علي أن نتائج الثورة محدودة، لأن الوضع لو كان مختلفا لكان التركيز الاساسي علي العملية الانتخابية ونتائجها. بينما وسائل الاعلام الغربية تركز فقط علي ما يسمي "سياسة النخبة"، كما لو كان الانتقال الديموقراطي قد حدث أو حتي بدأ، لكن لو كان هذا الانتقال قد حدث بالفعل لما كان هذا الاهتمام او التوجس مما سيحدث قريبا. ومنذ البداية أحسست بهذا التناقض بين "سياسة النخبة" و "سياسة الشارع" السياسة الاولي بمعني الانتخابات والاحزاب سواء القديمة أو الجديدة أو ما بينهما - مثل "الحرية والعدالة" الذي يفترض انه حزب جديد ولكن الاخوان جماعة قديمة- والسياسة الثانية اقصد بها ما يتم علي الارض من تظاهرات في الميادين او حركات احتجاجية في مواقع الانتاج المختلفة ، ومن المفترض في مثل هذه الفترة الثورية التي تمر بها البلاد أن يكون التركيز علي الشارع وليس علي ما تقوم به النخبة من صراع علي الانتخابات وتقسيم كعكة البرلمان، لذلك عندما وقعت أحداث محمد محمود المفاجئة، عاد الاهتمام مرة أخري ب"سياسة الشارع" ولكن لفترة محدودة، ومن ناحية أخري تبدو حالة القلق او التوجس او انتظار 25 يناير القادم بالنسبة لي دليل آخر علي فشل النخبة في القيام بما تنتظره منها الجماهير . اذن لم يحدث تغيير خلال العام الفائت؟ لو نظرت فقط إلي القمة سيبدو الامر كما كان من قبل الثورة، تفاوضات ما بين المجلس العسكري والاحزاب القديمة والجديدة، وتحالفات، وصفقات سرية، مع الفارق انه بدلا من وجود مبارك يوجد تسعة عشر جنرالا. بينما الفارق الجوهري الذي احدثته الثورة يظهر علي مستوي الشارع ليس فقط في ميدان التحرير والميادين الاخري، ولكن هناك تعامل جديد تماما ما بين المواطن العادي والدولة، هناك حركة اضرابات واعتصامات واسعة النطاق في القطاع العام بشكل لم نره من قبل. لهذا يبدو لي أن الاهتمام الشديد ب 25 يناير القادم دليل علي قوة سياسة الشارع، وتعثر سياسة النخبة. اذا تحدثنا عن مكتسبات للثورة في الفترة ما بين الخامس والعشرين من يناير الماضي، وما قبل الخامس والعشرين القادم فما هي برأيك؟ لا يود الكثير عند الحديث عن المكتسبات التي حققتها الثورة ان يتحدث عن "الجانب الآخر" فبالتأكيد قيادة الجيش ربحت الكثير من الثورة، فحالياً بات معروفا أن العسكر كانوا ضد مخطط التوريث، واذكر انه قبل عام كنت أفكر في رد فعل قيادات الجيش في حال مضي مبارك في مسلسل توريث نجله، خاصة بعد التزوير الكامل لانتخابات 2010، وتحفظ الجيش لم يكن مرده كما يقول البعض بشكل سطحي أن جمال ليس عسكريا، فقيادات الجيش حاليا ليسوا عسكريين بمعني قادة حروب، فمنذ نهاية عصر السادات وخلال عصر مبارك كله أبعدت القيادات العسكرية عن السياسة، خصوصا بعد المشير أبو غزالة الذي يمكن اعتباره القائد العسكري الاخير الذي كان له دور سياسي، وهو ما اعتبره مبارك منافسة فأزاحه، وبعد ذلك تحولت قيادة الجيش إلي ما يشبه مجموعة تدير شركة، وتهتم بالحفاظ علي المكاسب أكثر من ممارسة السياسة مباشرة. ومعارضة الجيش للتوريث كانت بشكل أساسي لأن جمال ومجموعته شكلوا نخبة غير تقليدية متأثرة بالعولمة، وتعمل علي تطبيق وصفات الليبرالية الجديدة من أواخر التسعينيات ومع 2003 . 2004 بدأ هذا التطبيق يأخذ شكلا سافرا، وبالتالي بدأ يؤثر علي وضعية تلك القيادات. الآن نجح الجيش في كسر هذه الخطة، بمعني آخر استطاع العسكر تغيير المرشح المقبل للرئاسة بدون تغيير حقيقي للنظام. ولكن اذا كانت قيادات الجيش قد ربحت التخلص من مخطط التوريث فمن ناحية أخري التدخل في الشأن السياسي بدون خبرة أو تخطيط له مشاكل كثيرة كما يظهر من اداء المجلس خلال العام المنصرم. فريق آخر ربح من الثورة وهم الإخوان الذين استطاعوا بعد عقود من العمل غير الشرعي، الحصول علي الشرعية ودخول البرلمان، وايضا بروز التيار الاسلامي الاكثر تشددا وهم السلفيون وهو ما بدا مفاجئا للبعض الذين ظنوا أن هذا التيار سيختفي، خصوصا بعد حربهم الطويلة ضد الدولة منذ نهايات عصر السادات وحتي حادث الاقصر في أواخر التسعينات. ولكن علي مستوي "سياسة الشارع" ألم يحدث تغيير؟ بالتأكيد علي المستوي الجماهيري حدث تحرير للطاقات المكبوتة، مع تحفظي علي مقولة إن هناك حالة "تسييس" حالياً، بالتأكيد هناك انتشار للتعاطي مع الشأن السياسي، ولكن "التسييس" بالنسبة لي شيء أكبر، ما حدث بالنسبة لي هو أن الجماهير شعرت أنها "موجودة" بعد عقود طويلة من التهميش، خاصة الطبقات الكادحة التي صنعت الثورة، وليس فقط الطبقة المتوسطة كما تردد بعض المقولات، أو "ثورة الفيس بوك" و "الانترنت" كما يحلو لوسائل الاعلام الغربية ان تردد وهذه المقولة الاخيرة بالنسبة لي تحمل بعدا استعماريا، فنحن الغرب صنعنا لكم الفيس بوك لكي تثوروا. فبعد سنين طويلة من تجاهل السلطة لهذه الطبقات، استطاعت أن تأكد وجودها، وأن تعلن ان التغيير سيحدث بسبب وجودها وايضا من أجلها، فهذه الطبقات تريد أن تري تغييرا اجتماعيا اكثر من مجرد تغيير سياسي. وهذا ايضا يمكن ان ينطبق علي الشعب المصري كله وليس فقط علي المتظاهرين في الشارع - حيث تمكن الشعب من تأكيد وجوده بشكل مباشر بدون حلقة وسيطة. وهذا يظهر في انتشار حركة الاضرابات والاعتصامات التي تؤكد علي مطالبها الاجتماعية أكثر من المطالب السياسية، فبعد ان ظلت حركة الاحتجاج منذ 2006 داخل القطاع الخاص، امتدت الحركة، حالياً، للقطاع العام، من كان يتخيل ان يقوم عمال مترو الانفاق أو المدرسون بحركة احتجاجية قبل الثورة؟! ايضا انتشار حركة الاحتجاج علي المستوي المحلي واستعمالها لآليات جديدة مثل قطع الطرق او السكك الحديدية، هذا يؤكد فكرة "تأكيد الوجود" فأنا كمواطن لديّ حق وأطالب به بشكل مباشر واضغط بكل الوسائل المتاحة من أجل الحصول علي هذا الحق. وهذا بالنسبة لعملية التجريف لكل طاقات العمل السياسي والمجتمعي والاهلي التي تعرض لها المجتمع المصري منذ 1952 يعتبر مكسبا ضخما جدا. وبعيدا عن التفاؤل والتشاؤم بالفعل اذا نظرت الي القمة لن تلاحظ تغيرات كبيرة ولكن النظر الي الشارع سيكشف أن هناك تغيرا كبيرا في السلوك من "وأنا مالي" إلي "أنا مش هسكت". ربما تكون هذه هي المرحلة الاولي في التسييس بشكل كامل، بمعني وجود رؤية حول المصلحة العامة ومن يمكن ان يمثلني كمواطن في الوصول الي تلك المصلحة، والشئون الحزبية، وتصور مستقبل الدولة.. الخ، ولكن ما يُسمي ب"المطالب الفئوية" بالنسبة لي هو رمز هذا التغيير. وهنا تناقض آخر اظن انه سينفجر قريبا، فهذه المطالب الاجتماعية شبه غائبة في برامج الحزبين الإسلاميين الكبيرين اللذين وان كنا لديهما برامج اقتصادية إلا أنها قريبة من برنامج الحزب الوطني السابق. لذلك فانا اتوقع ان كثيرين ممن صوتوا للاخوان، أو للاسلاميين بشكل عام لن يعطوا لهم اصواتهم مرة اخري. اذا تحدثنا عن الخسائر..هل تري ان الجماهير أو الشارع خسرا شيئا خلال هذا العام؟ بالطبع..في الأيام الأولي وحتي آخر فبراير كانت سياسة الشارع الثورية هي المسيطرة علي البلاد، ولكن التف قادة الجيش علي هذه الحالة بالاستفتاء...الذي كان أول كسر للحركة الجماهيرية، لأننا كنا نمر بما يسمي الشرعية الثورية وليس شرعية القانون، والشرعية الثورية تتيح لك مساحات أوسع لتغيير النظام القديم، لذلك كنت أقول في الخارج وقتها انه يجب رفض الاستفتاء حتي لا تكسر الشرعية الثورية، والشرعية القانونية يمكن أن تأتي بعد فترة، فمثلا محاكمة مبارك بالشرعية الثورية من الممكن أن تنتهي ببراءته بينما الشرعية الثورية أمر مختلف، ونتائجها أكثر حسما وحدثت في كل الثورات الكبيرة بعيدا عن القوانين والدساتير الموضوعة في النظام السابق الذي خرجت الثورة ضده بالأساس. فاستطاع المجلس العسكري عبر الاستفتاء كسر طريق التحول الثوري، وهذا أمر قابل الحدوث ولكن في مصر وقع مبكرا جدا، الأمر الثاني الذي كسر به المجلس الحالة الثورية هو خلق حالة من الاستقطاب بين الإسلاميين والمدنيين، بالطبع التناقض موجود من قبل ولكن مع الاستفتاء تجذر هذا الاستقطاب تماما، فالإسلاميون انسحبوا من الميادين وفضلوا شرعية القانون. والثوار شاركوا أيضا علي قدر استطاعتهم، ولكن المشكلة في الاستفتاء لم تكن "لا" أو "نعم"، ولكن في الاستفتاء نفسه الذي كان يجب رفضه اّنذاك، والمضي قدما قدر الاستطاعة في الشرعية الثورية، بالطبع أنا اتكلم كباحث وهو وضع يختلف عن الواقفين في الميادين، ولكن من مارس الماضي رأينا كيف انسحب الإسلاميون وفضلوا الجري وراء الحملة الانتخابية. وهكذا خرجنا من الحالة الثورية للجماهيرية، لنرجع مرة أخري الي سياسات النخبة، بالتأكيد هناك اختلاف، فعدد الناشطين قبل الثورة لا يُقارن بعدد، لن أقول المسيسين، ولكن المتعاطين مع الشأن السياسي، ولكن العامل الأساسي في الحالة المصرية الذي يمنع اصدار احكام هو ان الوضع لازال يتحرك ومن الصعب تماما القول ان الثورة انتهت، وايضا يصعب التنبأ بما هو قادم، ولكن يمكن القول بثقة ان الثورة بتفاعلاتها لازالت مستمرة.