طوال الطريق من بائع الجرائد بمحطة مترو الدقي وحتي العودة لبيتنا كنتُ أردد بصوت مسموع مفزوع " يا ولاد الكلب .. يا ولاد الكلب .. ده لو إسرائيل مش حتعملوا فيها كده .. " ثم أسمع نفسي أكرر بغضب يقترب من الهذيان المتواصل كلما نظرت في الصورة الرئيسية بجريدة التحرير عدد 18 ديسمبر الجاري " يا ولاد الكلب " . لستُ وحدي من لم تتحمل صورة الفتاة المسحولة المنتهكة بجسدها العاري وأقدام جنود الجيش ترفسها وتركلها في بطنها وهي ترفع إصبعاً محدداً في يدها اليمني يظهر منه ترديدها المحتمل للشهادتين . ظهر جسدها الأبيض كله وسوتيانها الأزرق وقد ارتفع حجابها ليغطي رأسها ووجهها المُخبأين من شدة سحل ملابسها وانحسار البالطو أو الجاكيت الأسود الطويل لبنت بلدي المخلصة المثالية التي اختارت التضامن مع المعتصمين بعدما رأت من قتلهم وسحل جثثهم مجدداً والركض الذي لا ينفع مع أصحاب البيادة . كان بنطالها قد نزل لما تحت السرة . هذا التوحش يصيب الكلام والأوصاف بالخرس . أري في الجنود الوجوه الأمن مركزية السابقة . لا فرق بين مجرم ومجرم .الآن نري الملثمون من الفرق الخاصة كأنما مصر تخوض حرباً ضد مصر. البطش يستعجل المجزرة المعدة من شهور ليوم 25 يناير 2012 . الليلة السابقة رأيت مواطناً كغيري لم أتبين أنه مواطنة إلا حين نزل شعرها الطويل بعدما تعثرت في جثة أحد المواطنين هاربة من جحيم الضرب بأيدي جنود جيشنا , أو لتكن شرطتنا العسكرية .. لا فرق , جنود ومصريون . لم نرَ قبعات أو بيريهات حمراء في تلك اللقطة بل خوذات كريهة لأشرار ينفذون بآلية أوامر القتل كأنما المجلس العسكري يعتذر لمبارك بعد ثلاثة أسابيع فقط من آخر اعتذار منهم له في مجزرة شارع محمد محمود . ضحية أمس 17 ديسمبر علي شاشة فضائية الجزيرة كانت بجاكيت فوشيا . تجمعت عليها طائفة من الكلاب الذين ليسوا حراساً . نزلوا عليها كما رأينا في الفضائيات ضرباً بالعصي , علي الرأس وكل الجسد . كانت تتحرك ويواصلون الضرب حتي توقفت حركتها . همدت تماماً وظلوا يضربون إلي أن توقفوا بعدما تأكدوا أنها ماتت . شاهدنا بأعيننا عملية قتل لمواطنة مصرية من جنود الجيش لمجرد أنها إما اعتصمت للمطالبة بحق لا يلبيه أحد أو لأنها تضامنت مع معتصمين . ربما كان أهلها الذين يعرفون ماذا كانت ترتدي ابنتهم يشاهدونها وهي تُقتل علي شاشة فضائية الجزيرة . لا حرمة لأحد . لا شيوخ الأزهر ولا البنات ولا الأطفال . ولا أحد يقول لنا كم عدد النساء والرجال والأطفال بين الضحايا والشهداء . تجمع حوالي 4 الآف من الطلاب والطالبات مساء السبت17 ديسمبر في تظاهرة أمام جريدتي غضباً علي مقتل الشهيد طالب الطب علاء عبد الهادي , وقام الأمن بغلق الباب الرئيسي . تذكرت تظاهرة للناشطة بثينة كامل مع عدد من أعضاء حركة 6 أبريل قبل الثورة غضباً من مانشيتات الجريدة وقتها ضد الشهيد خالد سعيد . يتم حرق مبني المجمع العلمي بمخطوطاته الأثرية فقط لإثبات أن الثوار غوغاء والمعتصمين بلطجية . ينتشر السلاح والفلول والذين يقتلون المواطنين الشرفاء الذين سبق وحموا المتحف المصري قبل تنحي المخلوع بأجسادهم كدروع . الشرفاء لن يحرقوا المجمع العلمي و" ووصف مصر " الآن , لذا لا أصدق أن الأميين حرقوا الأثر جهلاً بل من تم استئجاره بالمال لكن يستوقفنا عدم تحرك عربات الإطفاء لإخماد نيرانه إلا بعد احتراق المخطوطات. من يقتل الناس قد يحرق آثارهم كنكتة , أو يتناوم عن المعتدي . إنه حريق أوبرا آخر. الشامتون من المرضي أبناء مبارك يستمتعون كما غيرهم من العُنصريين بفيلم لا نهاية له. أساتذة إخراج للكراهية يحتقرون كما مخلوعهم من لا يعجبهم شكله, ولا يخجل بعض زملاء المهنة من تعبيرات لهم لا تؤرق ضمائرهم أبداً " شوية أشكال .. عليا النعمة لو مسكوهم كلهم وولعوا فيهم جاز يبقي حلال " . أسمع أن حفيد خالتي رحمها الله يرقد في المستشفي بعدما ضربه البلطجية أعلي مبني مجلس الوزراء بحجر في رأسه . نهرول إليه . شاب في العشرين وخريج الجامعة الأمريكية شارك في الثورة وتقريباً كل المليونيات . كيف ينبغي أن يكون " شكله " ؟ . وما هو شكل أي إنسان أو مواطنة لو أقام في خيمة بالشارعليومين وليس لأسبوع ؟ . الزملاء المتأففون من ذوي الشكل الغريب يصنفون الناس علي أساس خرافي وليس عنصرياً فقط , لمجرد أن شعبنا غلبان وملامح الناس المُتَعبة المستنفَرة متشبعة بالظلم المتراكم والغضب فجعلتهم خالين من الوسامة . مواطنون مكفهرون لونهم أسمر , فقراء ملابسهم رثة .. فتجد البيض البشرة أو بعض الأرقي اجتماعياً وثقافياً يزدرونهم تلقائياً ويشككون في نبل دوافعهم واستحقاقاتهم للعدل والكرامة والمساواة . وهي عنصرية سمعتها من زملاء بجريدتي أكثر من مرة تجاه " اللي شكلهم غريب " وتفوح رائحة عرقهم من ثوار الطبقات الشعبية بالتحرير حين كنا ننضم لهم بعد الثورة وكما انضموا لنا أثناءها, أو من بعض زملائنا بالجريدة تجاه العمال لو تضامننا معهم في مطالب تخصهم . نفس العنصرية كانت تفح من أحد مراسلي قناة أون تي في قبل الانتخابات حيث راجعتهُ الإعلامية ريم ماجد وأنهت رسالته المتحيزة بعدما سألته : " شكلهم غريب إزاي ؟" وحين عجز عن تفسير حيثيات " غرابتهم " عدا قبحهم ربما من وجهة نظره شكرته باختصار وسألت ضيفها التالي : " أنا مش عارفة يعني إيه شكلهم غريب ما هو ده شكل الشعب المصري " . وهو نفس ما ردده الإعلامي محمود سعد في قناة النهار مع ضيفه الأديب محمد المخزنجي حيث ظلا يدافعان عن " ملح الأرض " . كذلك دافع عن نفس المعني الثائر زياد العليمي من ائتلاف شباب الثورة أمام المذيع في قناة أون تي في ليلة السبت 17 ديسمبر مستشهداً بتساؤل ينضح بالحزن من الطبقية المنحطة التي تتأسس علي استنتاجات تخص المظهر . ذكر العليمي التساؤل العاتب لأحد " الغريبي الملامح " من فلاحيّ أو بسطاء مصر إذ سأل الرجل الغلبان أحد الأفندية : " هو أنا يا باشا عشان شكلي كده وغلبان ما ينفعش أبقي من الثوار ؟" . ثورتان يا مصر وما زلتِ طبقية واختطف لقب الباشوية فيكِ ليس سائقو التاكسي بل ذوي الرتب وحملة السلاح قَتلة أبنائك , القتلة الذين يتبادلون التهانئ علي دقة التصويب علي أهداف العيون في أجساد متحركة لمظلومين أو المدافعين عنهم . ثورتان والدم ناقص وقليل علي كثرته , ومصر السورية تلوح . أينما ولينا وجوهنا ينتظرنا الدم . للخلاص من الفلول وتطهير البلد من أزلام الحزب الوطني الفاسد لا بد من الدم . للخلاص من حكم العسكر إذا أصروا علي البقاء في الحكم أو التدخل فيه لاحقاً لا بد من الدم . للخلاص من القمع القادم المتوقع والعدوان علي الحريات وحقوق الإنسان باسم الدين من قِبل التيارات المتأسلمة والمتأسلفة الآتية لا بد من الدم . بعد مجزرة شارع محمد محمود كتب أخي قصيدة عامية . تذكرت بعض كلماته : " الشعب يريد .... ياااه ... حاجات كتير /العدالة والحرية واللقمة والتغيير/معاملة آدمية/ شحات كان أو وزير" وأيضاً " ساقية بتلف في أرضه/ومركب في نيله تسير / ميه نضيفه في حوض/ أو ترعة أو في زير/ عمدة البلد شديد / لكن يحترم الغفير/ " زبّال ما تبقاش شتيمة/ ومعني بواب مش " حقير " . خجلت لنسياني اسم أحد ضحايا المخلوع الذي تفوق في امتحان وزارة الخارجية بل طوال عمره وأسقطته الوزارة الآثمة لأصله الاجتماعي فانتحر وكاد الأب يُجن . كتب أخي الأصغر : " ينجح في امتحان وزارة/يقدر يكون سفير/الشاطر يلاقي شُغلة/ واللي بالواسطة يطير/ يرفع راسه فوووق/ مهما يكون فقير/ وأما يصرخ يتسمع/ بدل ما ينزل التحرير........ يتعب يلقي العلاج/زي كل المشاهير/إعلام ما يفلقش دماغه/ بعاش " الريس " و" المشير " ". أنا نفسي مذنبة بجرائم التصنيف والافتراض والتنميط ولو بيني وبين نفسي . في آخر مليونية بالتحرير بعد مجزرة محمد محمود تجمع حولي عدد من المواطنين وأنا أتكلم مع أحدهم فإذا برجل شعره طويل منكوش سقطت أسنانه عدا النابين تقريباً وملابسه شديدة التواضع يقترب ويمكن " تصنيفه " من الفئة المخيفة لبعض الطبقات أو من ينامون في الشوارع لكنه لم يكن متسخاً . قال شيئاً لم أتبينه فسألته مجدداً عما قال فإذا بي أمام حكيم . قال :" احنا كنا برجل واحدة , دلوقت كسروهالنا " . لن أحزن علي المجمع العلمي الذي أكاد أجزم أنه تم إحراقه بفعل فاعل معلوم من أجهزة شرطتنا العادية والعسكرية ومخابرات جيشنا التي استطاعت كشف ومنع مؤامرة لاغتيال نائب المخلوع عمر سليمان . لن أحزن علي آثار ووثائق دمرها من أراد إلصاق التهمة بالمُعتدي عليهم في مجزرة دورية باتت تتكرر كل ثلاثة أسابيع لكن أعلنها : لا أستطيع احترام رئيس وزراء يخرج بِطلّتهِ التليفزيونية بعد مجزرة للمصريين وانتهاك للمصريات فيتكلم كأنه رئيس وزراء القتلة لا الضحايا . يُقاطع ويهاجم الصحفيين بعصبية في مؤتمر صحفي ويوجه هو الأسئلة الفلولية من نوع : أنت تقبل أن اللي عنده حاجة يعمل اعتصام؟" ويقاطع الصحفي مانعاً إياه من الرد . أصرخ في وجهه العجوز ضد كل من يبيدون الشباب بإجرام العجائز الباردين الذين أصابونا بالقرف : " أيوه طبعاً نعمل اعتصام " . أصرخها في بيتي وهو يكرر إعلان ما أُملي عليه من أكاذيب فصار شريكاً في جريمة لم يكن تاريخه بحاجة إليها . يكرر الجنزوري : لا رصاصة أُطلِقت من الشرطة أو الجيش . إنها أسطورة الطرف الثالث. نعترف بإصرار الفلول علي توليع مصر دفعاً لحرب أهلية وتقسيم , هذه الأسطورة تصحو بأنيابها بينما يريدون أن نظن أنها ابتسامة الأسد . نقول لهم, أيها الشياطين إذا كان من أطراف رابعة وعاشرة فأتوا بهم واتركوا واحداً منهم يواجه القانون فنحن رأيناكم بلباسكم العسكري تلقون الحجارة مع المجرمين أعلي سطح مجلس الوزراء الذي فتحتموه لهم لتتهمونا ولتبرروا قرار المجزرة . لا أعلم هل سينجو حفيد خالتي الراقد في المستشفي أم لا لكن والله , أعدكم بكل ما أؤمن به ويعدكم أهالي الشهداء والمصابين والمعاقين المتزايدين , أن المصريين لن يكونوا أقل من إخوتهم السوريين والليبيين واليمنيين . والشعب سينتصر ! .