الآن رابط نتيجة تقليل الاغتراب 2024 لطلاب المرحلة الثالثة والشهادات الفنية (استعلم مجانا)    محارب الصهاينة والإنجليز .. شيخ المجاهدين محمد مهدي عاكف في ذكرى رحيله    تعرف على موعد ومكان عزاء رئيس حزب الحركة الوطنية    الشركات الأمريكية مستعدة لاقتراض مليارات الدولار بعد خفض الفائدة    إجراءات استرداد قيمة تذكرة الطيران في حال إلغاء الرحلة    وزير البترول يؤكد استدامة الاستقرار الذى تحقق في توفير إمدادات البوتاجاز للسوق المحلي    تعرف علي أهمية خطوط نقل الطاقة الكهربائية في الشبكة    تي موبايل-أمريكا تعتزم طرح سندات للاكتتاب العام    بسبب أحداث لبنان.. مصر للطيران تعلن إلغاء رحلاتها المتجهة إلى بيروت    بيان سعودي عاجل عن تطورات الحرب في لبنان    رئيس الإمارات: جهود الوساطة التى تقوم بها مصر وقطر والولايات المتحدة خطوة أولى نحو تحقيق السلام    وزير الخارجية يؤكد على أهمية توظيف المحافل الدولية لحشد الدعم للقضية الفلسطينية    الأمين العام للأمم المتحدة يعرب عن قلقه العميق إزاء القصف الإسرائيلي لجنوب لبنان    شيكابالا لجماهير الزمالك: سنحتفل معا بلقب السوبر الإفريقي    حتحوت يكشف رسائل محمود الخطيب للاعبي الأهلي قبل السوبر الإفريقي    أشرف نصار: لدي تحفظ على نظام الدوري الجديد لهذا السبب    مايوركا يصعق ريال بيتيس في الليجا    الأولمبية: الزمالك أرسل اسم فتوح للسفر للسعودية وطلبنا إقرارا قانونيا لاعتماده    بفرمان من جوميز.. الزمالك يقترب من التعاقد مع صفقة جديدة    ارتفاع حصيلة مصابي حادث أسانسير فيصل ل5 سودانيين    اخماد حريق نشب بمخلفات في العمرانية الشرقية| صور    إبراهيم عيسى: تهويل الحالات المرضية بأسوان "نفخ إخواني"    بالأسماء، إصابة 4 أشخاص من أسرة واحدة في تصادم سيارتين بالدقهلية    مدير الجودة بشركة مياه الشرب: أقسم بالله أنا وأسرتي بنشرب من الحنفية ومركبتش فلتر    المشدد 10 سنوات لشقيقين تعديا على ربة منزل وابنتها لخلاف على الميراث بالقليوبية    انقضاء الدعوى الجنائية ل عباس أبو الحسن بالتصالح في حادث دهس سيدتين    تعرف على جوائز مسابقة الفيلم القصير بالدورة الثانية لمهرجان الغردقة لسينما الشباب    هند صبري تكشف ل«المصري اليوم» عن الجزء الثاني من «البحث عن علا 2» (تفاصيل)    وفاة النحات سمير شوشان عن عمر ناهز 71 عاما    هيفاء وهبي جريئة وهدى الإتربي تخطف الأنظار.. 10 لقطات لنجوم الفن خلال 24 ساعة    مجمع الفنون والثقافة يشهد حفل تخرج طلاب كلية الفنون الجميلة -(صور)    حدث بالفن| وفاة فنان سوري وحريق يلتهم ديكور فيلم إلهام شاهين وأزمة سامو زين الصحية    وزير الثقافة يعقد اجتماعا لمتابعة تنفيذ مبادرة «بداية جديدة لبناء الإنسان»    أحمد موسى يناشد النائب العام بالتحقيق مع مروجي شائعات مياه أسوان    طريقة عمل الأرز باللبن، لتحلية مسائية غير مكلفة    صحة الإسكندرية: تقديم 2 مليون خدمة صحية للمواطنين ضمن «100 يوم صحة»    "قمة المستقبل".. هل ستنجح فى استعادة الثقة لعالم فقد إنسانيته؟    الاقتصاد ينتصر| تركيا تتودد لأفريقيا عبر مصر.. والاستثمار والتجارة كلمة السر    عيار 21 يسجل رقمًا تاريخيًا.. مفاجآت في أسعار الذهب اليوم الثلاثاء «بيع وشراء» في مصر    جامعة عين شمس تستهل العام الدراسي الجديد بمهرجان لاستقبال الطلاب الجدد والقدامى    عاجل - البيت الأبيض: بايدن وبن زايد يشددان على ضرورة التزام أطراف الصراع في غزة بالقانون الإنساني الدولي    تعرف علي الإصلاحات التي أجراها بولس السادس    عمرو أديب عن خطوبة أحمد سعد على طليقته: «هذا ما لم نسمع به من قبل» (فيديو)    ترتيب الدورى الإسبانى بعد نهاية الجولة السادسة.. برشلونة يحلق فى الصدارة    عمرو أديب: حتى وقت قريب لم يكن هناك صرف صحي في القرى المصرية    شيكابالا ل جماهير الزمالك: سنحتفل بلقب السوبر الإفريقي معا    أهمية الرياضة في حياة الإنسان    بيولي: جماهير النصر تخلق أجواء رائعة..وأحتاج للمزيد من الوقت    «التنسيقية» تنظم صالونًا نقاشيًا عن قانون الإجراءات الجنائية والحبس الاحتياطي    في إطار مبادرة (خُلُقٌ عَظِيمٌ).. إقبال كثيف على واعظات الأوقاف بمسجد السيدة زينب (رضي الله عنها) بالقاهرة    مصروفات كليات جامعة الأزهر 2024/2025.. للطلاب الوافدين    خالد الجندي: بعض الناس يحاولون التقرب إلى الله بالتقليل من مقام النبى    "المصريين": مشاركة منتدى شباب العالم في قمة المستقبل تتويج لجهود الدولة    أستاذ فقه يوضح الحكم الشرعي لقراءة القرآن على أنغام الموسيقى    الكبد الدهني: أسبابه، أعراضه، وطرق علاجه    "أزهر مطروح" يطلق "فاتحة الهداية" بالمعاهد التعليمية ضمن مبادرة بداية    نتيجة تنسيق كلية شريعة وقانون أزهر 2024/2025    وكيل الأوقاف بالإسكندرية يشارك في ندوة علمية بمناسبة المولد النبوي الشريف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شفق ورجل عجوز وصبي:
العالم نُدبة علي جبين طفل
نشر في أخبار الأدب يوم 20 - 11 - 2011

أربع وثلاثون مقطوعة تشكل الكتاب القصصي "شفق ورجل عجوز وصبي"، ل"سعيد الكفراوي"، والصادر مؤخراً عن دار الشروق. المنتخبات التي ضمها الكتاب من أغلب مجموعات الكفراوي، لم تركن لفكرة المختارات التقليدية، بدليل أن القصص المختارة لم تنشر حسب تواريخ كتابتها أو تتوزع بترتيب صدور مجموعاتها القصصية، بل تفرقت، بحيث يمكن أن نقرأ علي التوالي واحدة من القصص المبكرة مشتبكة بواحدة من أحدث قصصه، وبحيث بدا لي أن أحد الرهانات كان تقديم كتاب قصصي له استقلاليته، ويمكن قراءته تحت ضوء جديد، دون أن يفقد قدرته علي كشف عالم الكفراوي القصصي المتسع في تنوعاته وتراوحاته. غير أن المثير، أن النصوص في ترتيبها الجديد، في "تبعثرها" الدال جاءت لتجعل من الكتاب متتالية سردية، يبدو فيها كل نص خيطاً يتصل في النص الذي يليه، وتكمل فيها النصوص بعضها، علي تباعد زمن إنتاجها، في دورة من الميلاد والموت.
بدا لي الكتاب، وفق بنيته هذه، نصاً واحداً طويلاً، يمكن التعرف علي أبطاله في أركان الحكاية الكبيرة، وتحديد أدوارهم، وتلمس تجليات ظهورهم واختفائهم.. وهم يؤطرون وجود شخصية رئيسية، تتعدد وجوهها، لكنها تظل الشخصية نفسها.. " عبد المولي"، الذي نتلمس خطاه منذ طفولته، نطالع صور صباه، ونصحبه حتي تجاعيد الرجل العجوز الذي يصيره، بينما يتذكر. "عبد المولي"، وهو الاسم الذي يمنحه الكاتب لبطله في عدة نصوص، مؤكداً علي وجوده الذي يتجاوز حدود القصة الواحدة ليصير "شخصية" تتحرك في عالمه، يحضر كذات هي جماع أزمنة، تستشرف وتتذكر في الوقت ذاته، تستبق وتسترجع، فيها من صفات الأولياء، القدرة علي كشف حجب الواقعة العادية، والحياة بعد الموت " أليس عبد المولي، من تحدي القدر المكتوب، وذهب إلي تلة الغجر، حيث أخرجوا قلبه وأعادوا كتابة اسمه قبل أن يردوه للحياة، في قصة تل الغجر؟".. يصير الوجود كله ندبة ولد بها الطفل وصارت تكبر كلما تقدم في سيره.. إنه جرحه المقيم، ألمه الداخلي الذي يستعذبه كمتصوف.
وبينما نتأرجح مع تلونات العمر نتنقل، بسلاسة، مرة بعد أخري، بين ريف ومدينة، حيث خضرة تنفتح علي شوارع إسفلتية، سماء بطيور تحيل إلي سماء تحتلها سحابات دخان، بيوت من طوب لبن تتمدد لتصير بنايات شاهقة من الأسمنت.. أحلام تتحول إلي وقائع وذكريات تتجول بحرية.
القراءة الأشمل للكتاب، قادرة علي إبراز عدد من السمات الجوهرية في سرد الكفراوي، ولعل أبرز ما تبدي لي هو احتشادها بالاشتباكات، بين ما يعتبره البعض "ثنائيات" حققت خصامها سلفاً، بما فيها من حدية. الريف هنا يجادل المدينة، وعي الطفولة يجادل وعي النضج، التذكر يجادل الاستشراف، السرد يمتزج بالشعر، عامية اللسان تجادل مؤسسة الكتابة، والأسطورة تلقي بثقلها علي حركة الواقع. يبدو عالم الكفراوي حريصاً علي الإنصات لهذه التقابلات، في جدليتها الموارة من دون أن يؤكد تحيزه لمنحي دون الآخر.
الفضاء السردي
يتميز عالم سعيد الكفراوي بسرد متدفق، لا تغيب عنه الحكاية، كعمود فقري، ويبدو واضحا فيه اتصاله بنبعه الشفاهي القادم من الوجدان الجمعي.. فلغة السرد معجونة بلغة الكلام، ولغة الحوار بدورها محتشدة بموروث اللسان من أمثلة وصياغات قارة في وعي الجماعة.. لكن الكفراوي، بالرغم من ذلك، لا يركن للسرد الكلاسيكي للحكاية، أو للمنطق التعاقبي السهل في تقصي زمنية القصة، فسرده أيضاً حافل بالتجريب، واللعب مع البنية القصصية، وخلخلة الزمن، منفتح في الوقت ذاته علي طاقة شعرية هائلة، تتبدي في استخدام خاص للغة، واختبار لأكثر من مستوي سردي في لحمة النص الواحد.
تنفتح الحكاية "الكفراوية" علي عالمين كبيرين، الريف، والمدينة. ليسا منفصلين تماماً رغم أنهما ليس متصلين، لكن هناك حالة من الجدل تتحقق بينهما، كنموذجين معرفيين بالأساس وكطريقتين لإنتاج الأفكار، خاصة في القصص التي تجمع بينهما، والتي يغادر فيها السارد الريف للمدينة، أو يعود من المدينة للريف.

يفرض كل من العالمين نفسه علي الوعي بشكل مختلف، فبينما يرتبط الريف بالأفكار الكلية في ذهن الشخوص، الحياة والموت، الزمن، الخصوبة، وحدة الموجودات، ما وراء الوجود الماثل، مع حضور واضح للأسطورة والخرافة، وتداخل حر بين الواقع والخيال.. فإن المدينة تتبدي كلوحة مفتتة من العناصر الصغيرة، البطل فيها هو العالم اليومي والمؤقت للأفكار المجزأة والواقع العملي بغية إشباعات مؤقتة. يتخلق الحوار الرئيسي فيها بين البشر والأشياء، أكثر مما هو بين البشر والبشر. ربما لهذا السبب نلاحظ هيمنة الحوار في القصص التي تدور في الريف، وثراؤه وسيولته.. بينما يختفي أو يكاد في قصص المدينة، حيث الحوار التلغرافي، المتحقق في أقل عدد من الكلمات، والذي يكاد في جوهره يكون مجرد "مونولوجات" متبادلة تكشف عن توحد الأشخاص أكثر مما تعمق اشتباكهم الحقيقي في نسق مشترك. الملحوظة الثانية تخص الغاية من الحوار، فالحوار في نصوص الريف يبدو مقصوداً لذاته، ليس مكرساً لغاية عملية، بل هو الغاية.
ثمة ملحوظة أخري ملفتة، فالعلاقة في عالم الريف تتحقق غالباً بين الطفل الصغير والرجل العجوز المشرف علي النهاية، عالم من الأطفال والعجائز، مبدأ الحياة الغض ومنتهاها العامر بالحكمة.
يلوح جدل لا يتوقف بين وعي السارد بالعالم، كطفل تارة وكرجل عجوز تارة أخري. بين أول العمر وآخره يتحرك قدر غير قليل من النصوص، كاشفاً عن هوة سحيقة بين منحيين في رؤية العالم وتفسيره. من هنا يصير عنوان المختارات "شفق ورجل عجوز وصبي" أبعد من مجرد لافتة، فهو يجمع العنصرين المتباعدين، في ظل "الشفق"، ذلك الوقت المخاتل في أول الفجر، أول الدنيا.
ولعل من اللافت، ذلك الحضور الطاغي للطفل باعتباره محركاً للوجود، وهي الرؤية التي أعتقد أن الكفراوي تفرد في تعميقها. من المدهش أن الطفل يحضر كسارد، ويمثل الغريزة، المطلقة، في توحده بالطبيعة وقدرته علي الإتيان بما يحب، كذلك فإن الطفل يقف دائماً علي تخوم عالم آخر، عالم ما ورائي ميتافيزيقي، يعبر إليه بسلاسة، في خصام عميق لوعي "العجوز"، الخائف بطبيعته من المجهول. في "تل الغجر" مثلا، ينتقل الطفل "عبد المولي" من العالم الواقعي للقرية إلي "تلة الغجر" المرهوبة، في رحلة إسراء جديدة، حيث يتورط، باختياره، في عالم سحري، كأنه العالم الآخر، ويستسلم للرجال الذين ينزعون قلبه. هذا المزج بين الواقع والخيال، هو نوع خاص من "الواقعية السحرية" الحاضرة في كتابة الكفراوي، التي تُضيق المسافة بين الواقع والحلم، بين ما يدركه العقل وما تتصوره المخيلة. لكن هذا المنحي يشتد عندما يتولي الوعي الطفولي السرد. "عبد المولي" نفسه سيظهر من جديد، في قصة أخري هي "زبيدة والوحش"، يخترق صوته السرد كاشفاً عن رؤيته الباطنية لطقس ريفي مألوف هو تخصيب الثور للبقرة.
الطفل يكتشف جانبا من غريزته من خلال المراقبة المباشرة للوجود الحيواني، حتي يصبح الطقس برمته استعارة للشوق الإنساني الكامن والمرجأ. المشهد الواقعي "الحيواني" بالنسبة له لحظة حلم، قائمة بين الواقع والخيال، ومعبأها بعمقها الصوفي، حيث المعني الأعمق للاتصال.
الحلقة المفقودة في الريف، يمثلها الرجل الذي في عمر النضج أو أواسط العمر، لكنها تتجلي بشكل أكبر في عالم المدينة، وهذا ما يجعل من العالمين مكملان لبعضهما في رسم الصورة النهائية للشخصية. رجل المدينة هو ذات بين الطفل والعجوز، لذلك فهي ممزقة بين طفولتها المندثرة وعجزها القادم لا محالة. هذا ارتباك يلائم منطق المدينة، ووعي شخوصها الممزق. الرجل في المدينة إما باحث عن بقايا حب قديم، أو متردد في الإقدام علي علاقة جديدة، مشتت بين واقعه الغريزي وحيرته الفكرية واغترابه عن مجمل السياقات التي يحياها مضطراً: " من سنين عدة والمسرات قليلة في هذه الأنحاء. فذاكرتي المشوشة لم تعد تعي أنني ضحكت من قلبي طوال تلك السنين، فمنذ ارتفع نجم اللوطي، والجزار، ومالك العقار، وراقصة الملهي، وكاتب السيرة، والمؤرخ الكذاب، والبانكير، في سماء الوطن السعيد، تأكدت من تغير الأحوال وقلت في نفسي: انتبه عليك بالبحث عن الشئ المغاير". ( قصاص الأثر).
إنه "عبد المولي" من جديد يفسر لنا طبيعة الرحلة، فهو طفل الريف ورجله العجوز، وبينهما، هو رجل المدينة الذي ارتحل.
...
المرأة في عالم "سعيد الكفراوي" ليست ذلك الكائن المهيض، "مكسور الجناح"، وسواء كانت المرأة في الريف أو المدينة، فهي دائماً محركة، محفزة، قوية.. لذلك فمن اللافت أن المرأة علي الدوام هنا تقف علي الجانب الآخر من "التصور الذكوري" الذي يراها موضوعاً للمتعة، مثلما يري فيها الهامش المقموع، وهو تصور سيطر طويلاً علي السرد المصري.
تحضر المرأة دائما كدال علي الغريزة المنفلتة، وهي بذلك تبدو مناقضة لكل الأعراف. ليست الكائن الراضخ المستسلم، لكن الباحث عن مصيره، سواء كان ذلك في الريف أو المدينة. في "تلة الغجر" تعدل الأم لابنها ما يشاع عن الغجر، مانحة إياه رؤية جديدة تناقض الرؤية الذكورية التي يتبناها الجد ويترجمها في أمر" لا تذهب لتلة الغجر"، وفي "سيدة علي الدرج"، تغوي المرأة الرجل وتستدرجه، وفي "بيت للعابرين" تكون المرأة هي المبادرة بالبحث عن عشقها القديم، والنماذج كثيرة.
أفق المرأة أيضاً مفتوح دائماً علي المستقبل. المرأة هي القادم، هي محرك الزمن.
الأفق الشعري
تلتفت النصوص للشعر، فضاءً ولغةً وآليةً في مقاربة العالم، بشكل جلي.
نهر اللغة السردية السيال والتواصلي، يجادله مستوي ثان من لغة أكثر كثافة، وأشد عتمة، وانفتاحاً علي آفاق رحبة من التأويل، تتسلل بسلاسة لتقيم تقاطعها، كمستوي مفارق من الخطاب اللغوي، يعيد قراءة الحدث، يقاربه من منحي تجريدي، مقدماً معادلاً شعرياً موحياً للعالم التشخيصي، يتجاوز الأفق السردي الحدثي للحكاية. هناك دائماً تصور شعري أشمل يغلف التصور السردي.
لن يخلو نص تقريباً من هذا الالتفات للشعري، كفضاء تترجمه اللغة المفارقة، ولأن آليات إنتاج النص شديدة التنوع، فإن "الشاعر" الملتبس بالسارد في عالم الكفراوي، لا يقف في منطقة بعينها، فهو يتحرك بين أكثر من تقنية لتخليق الشعر. هو شاعر شفاهي، غنائي، منشد أحياناً، ممسك بناصية العديد أحياناً، ومشتبك بالخطاب الشعري الصوفي تارات.
في قصة "صورة ملونة للجدار"، يتوج النص بنهاية شعرية بامتياز، تحضر بين قوسين، وبالآلية نفسها التي أسلفتها: "ورأيتها تقف تحت الصورة كمهرة برية، تعدو في اللون ناحية البراح، وتستعيد أمنياتها. رأيت في عينيها شرارات النار، تبدو في الصورة وقد عادت صبية متوجة بالطرحة وصولجان الورد، وكأنها العروس الخالدة في يوم عرسها الأول. تقف بامتلاء كأنه العشق، فيما يقف بجانبها رجل لا أعرفه".

المنحي نفسه نعثر عليه في نص مثل "صيد الغزلان"، حيث يهيمن صوت الشاعر علي صوت السارد: " غير أنها خرجت مع نور الشفق وبيدها حجابي المكسو بجلد شاة الراعي الطيب، والمخيط بخيط أمعاء فطيسة حيوان الجبل الذي يترصده أبي من قديم، والتي كنت أطاردها وأنا صغير حتي جحور الثعابين، وجعلت تنظر ناحيتي رافعة حجابي للشمس وقالت لي كنت تلبسه حتي أدركت البلوغ".
في نص مثل "قمر معلق فوق الماء" ولنلاحظ أن العنوان نفسه صورة شعرية تحضر شعرية المناجاة، التي تجعل اللغة السردية أقرب للمناجاة الصوفية، بقدر ما تحمل صفات القصيدة الغنائية من ذاتية في إعادة تأويل الوجود، وهي تمسك بالسرد من أوله لنهايته " رويت شجر النخيل، ونظرت ما وراء النهر ولم أكن راغباً في مفارقته.. أحزم وسطي بثوبي المبلل، وأري قدمي ملوثتين بالطين والتراب.. هي أمي النحيلة بثوبها الأسود، واقفة علي سلم الدار تناديني: عبد المولي.. تعالي يا ضنايا.. غسلت قدمي ورششت وجهي بالماء ونظرت شمس الصباح المتوجة بالعصا والصولجان". هنا يتحقق السرد من خلال الفضاء الشعري وليس العكس، بحيث يمكن قراءة القصة كلها كنص شعري.
تحضر تقنيات شعرية أخري، مصدرها الموروث، ك "العديد". هناك عدة نصوص تحاكي بنية العدودة، مستلهمة لغتها وروحها الحزينة والتكرارات الدالة لدوال أو عبارات بأكملها تمثل عصب النص الدلالي ومكمن تأثيره، مثلما يتبدي في نص "كل تلك الفصول"، الذي يقارب واقعة موت بشكل طقسي: "كانت تقرع الكفوف النحاس فيتردد صدي الطرق علي الأبواب: ولدي يموت، وينتزع كبدي، افتحوا الدور..... بدأ أول النهار علي أرض المجاز، الذي يفصل الدار عن سياجها، نعش من خشب أصفر بأربعة أذرع وظل، ومصباح صفيح كتميمة قديمة يستقر في نهشه بجدار الطين. من بطن النعش تفوح رائحة شيح قديم، وعطر رخيص باذخ، وذكري لموتي راحلين".

الشاعر الغنائي، يزاحم السارد أيضاً في مواضع ليست بالقليلة من أنحاء السرد:
" أتبعها خطوة بخطوة، أترصدها كغرائس الصيد، هذا ما قدر لي أن أفعله، تعبر الرصيف، وتسير بجانب سور الحديقة، حيث يتضوع مسكها، ويملأ الشارع بالأريج. تصعد مع النهر فيصعد مني دمي ويهبط إلي أوردتي. توهمت أنها تبتسم لي فابتسمت أنا. ولما خاب ظني قلت: إنها تملك في عينيها فيروزتين. ووسعت من خطاي عند النهر. عدت وهمست لنفسي: هي التي لا أنام إلا وهي في حضني كل مساء. أنظرها الآن تملأ الشارع بحضورها الجليل غير قادرة أن تخفي حيوية الجسد له المجد عن العيون المستنفرة لمشهد تجليها" ( عشب مبتل).
التجريب يبلغ واحدة من ذراه في العبور النوعي من خلال "زبيدة والوحش"، التي لا تقدم كقصة، بل ك "رؤية في نصين"، تتحقق ببنية شعرية، فليس النص الثاني متمماً للأول أو مكملاً له، بل مواز، وبينما تحضر الحكاية في النص الأول، ينخرط السارد في النص الثاني في رؤية حلمية تتناص ولغة متون الأهرام وكتاب الموتي. الأمر نفسه، في تجل مختلف، يحضر في "سدرة المنتهي"، الذي يُوصَّّف ك"ثلاثة مقاطع علي مقام زمان"، ويكاد يكون نصاً شعرياً بالكامل، بتجاوزه الأفق التعاقبي التقليدي للحكاية، مقابل التأمل المستبطن: " تخاف أنت وأخاف أنا من ظلمة السدرة في الليل والنهار، ومن نسل الملكة تحت فروعها الممدودة حتي الماء، وثمرها لأهل السكك الجوعي الفقراء".
ربما يحتاج هذا المنحي في تجربة الكفراوي لمقاربات موسعة، خاصة وأنه ملمح تبرز تجلياته في كل قصة تقريباً، بشكل مختلف. لكن المؤكد في ظني، أنه يصعب قراءة العالم السردي لسعيد الكفراوي بمعزل عن الجذر الشعري القوي الذي يشد الحكايات لأفقه الموحي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.