لا أدري كيف ساقتني قدماي إلي ذلك المكان الغريب ، كنت أتجول بين طرقاتٍ أجهلها أتأمل واجهات المحال التجارية كأنني سائحٌ محترفٌ حينما وجدت نفسي أمام ذلك الحانوت المتواضع بشكلٍ يتناقض مع ما حوله من محالٍ تكسوها زينةٌ وبهرجةٌ وأضواء... لم تكن اللافتة المكتوبة بطريقةٍ يدويةٍ في واجهة المكان تشير إلي نوع السلع التي تباع بالداخل ؛ فقط الكلمتان اللتان أثارتا فضولي (غاية الغايات)... في الداخل كان المكان يشبه ممراً لا يمكنك - بسبب الإضاءة الخافتة وامتداده غير المتوقع - أن تحدد نهايته ، وعلي الجانبين رفوفٌ خشبيةٌ مائلة تحمل أشياءً لم أتبينها بوضوحٍ ؛ لكن المكان بدا لي أشبه بدكّان عطارٍ متواضعٍ.. وعلي مقعدٍ غير بعيدٍ عن المدخل جلس رجلٌ ملتحٍ ذو ملامح طيبةٍ وابتسامةٍ تشعرك بالارتياح ، استقبلني بابتسامته تلك ثم عاد ليقرأ في كتابٍ بيده ربما كان مصحفاً... بعد لحظاتٍ دلف إلي المكان زبونٌ آخر وأخذ يتفحص الرفوف كأنه يبحث عن شيءٍ بعينه.. آنذاك لاحظت أن كل رفٍ قد لصقت عليه ورقةٌ تبين ما يحتويه ، كان الرف الأقرب لي قد كُتِب عليه (ورع) ؛ تأملت ذلك الورع الذي يحويه الرف فكان حبيبات بلورية كبيرة الحجم أشبه بالملح الخشن... وعلي الرف التالي كان هناك (رضا) والذي هو مسحوقٌ بنيُ يشبه القرفة ، كما رأيت (التقوي) و (العفة) و و(التوكل) و (التراحم) و(الصبر) ؛ والأخير كان سائلاً لزجاً في قنانيٍّ صغيرةٍ وفي الواقع لم أتصور أن هذا هو شكل الصبر!.. لو أتيحت لي الفرصة لتخيله لتخيلته مثل تلك الأعواد الجافة السوداء التي كُتِب عليها (بر الوالدين)... كدت أهم بسؤال الشيخ الجالس عن شيءٍ لكنني توقعت أنه سيهز رأسه في أسي قبل أن يجيب بوقارٍ بأن الناس قد أتت علي النفاق ولم تترك سوي الأخلاق!.. لكنني لم أكن في الرواية أو الفيلم الساخر ، وكانت ملامح زميلي توحي بجديةٍ مذهلةٍ ؛ والذي بدا أنه قد يئس من البحث بنفسه فسأل الشيخ في تحرجٍ : " مفيش حاجة للخشوع في الصلاة يا سيدنا الشيخ؟.." بدون أن ينطق مد الشيخ يده إلي أحد الرفوف القريبة وجذب قنينةً رأيتها من موقعي فارغةً... وأعطاها للرجل وهو يقول بصوتٍ فخيمٍ لم أسمع مثله من قبل : "خد منها نفس قبل كل صلاة.." شكره الرجل وانصرف دون أن يسأل عن الثمن أو يدفع شيئا بينما كان هناك زبونٌ آخر قد دلف إلي المكان وبدا من هيئته أنه شخصٌ علي درجةٍ من التعليم وطلب (قنوتاً) و(كظم الغيظ) فأعطاه الشيخ ما طلب ، وكسابقه لم يسأل عن ثمن ما أخذ ولكنه أعطي الشيخ ورقةً ماليةً وانصرف شاكراً... وعاد الشيخ لما يقرأه دون أن يلتفت لدهشتي البالغة... ألقيت نظرةً أخيرةً علي المكان لأتأكد أن كل ما رأيته لم يكن وهما قبل أن أغادر غير عازمٍ علي الرجوع مرةً أخري...