بدأت نظرتنا في العالم العربي إلي الأدب تتغير، من كونه متصلاً بوحي وإلهام، حيث وادي عبقر وشياطين الشعر، إلي حرفة وأدوات لابد أن يتسلح بها صاحب الموهبة. في هذا الإطار، انطلقت ظاهرة ورش تعليم وممارسة الكتابة الإبداعية بدايةً من السينما والمسرح، ولزمها بعض الوقت لتنتقل أخيراً إلي الأدب. ومن تلك الورش الإبداعية خرجت بعض الأعمال الإبداعية، ظهر في مصر قبل أعوام كتاب لنصوص قصصية عن ورشة الكتابة التي أشرف عليها الشاعر والروائي ياسر عبد اللطيف، ومؤخراً صدر كتاب كتابة الكتابة نصوص في الإبداع عن دار نشر الراوي لبنان في 190 صفحة من القطع المتوسط. وهو هذه المرة ليس نصوصاً إبداعية لخريجي الورشة التي تشرف عليها الروائية اللبنانية إيمان حميدان، بل مساهمات من سبعة كتاب (خمسة روائيين وشاعران) بشهاداتهم حول تقنيات وأساليب الكتابة لديهم، إلي جانب فقرة مختارة، متوسطة الطول من أحد أعمالهم. وفي آخر كل قسم خاص بكل كاتب، أضافت إيمان حميدان بعض التمارين الموجهة للقاريء، وهو هنا الكاتب المستجد أو المتدرب، تشجعه فيها علي التجريب واللعب، انطلاقاً من الرؤية المطروحة من قبل الكاتب أو الكاتبة. لم يجتمع المساهمون في الكتاب علي وصفة، أو طريقة لتقديم تجربتهم للقاريء المفترض، ولعلهم لم يحددوا معاً أو كلٌ منهم علي حدة - ملامح واضحة لهذا القاريء المستهدف. فتنوعت نبرة كل كاتب، وذهب في تركيزه إلي حيث يشاء، وبقدر ما في هذه الحرية من إيجابية، تتيح له اللعب والاكتشاف والنبش داخل معمله أو مطبخه الخاص، فقد جاءت علي حساب الغرض الأساسي من الكتاب، وهو نقل الخبرات، وتعليم مباديء الكتابة الإبداعية، الروائية علي الخصوص. تحديد هدف كتاب من هذا النوع مسألة لا علاقة لها بالمرة بتحديد سن الأطفال علي أغلفة الكتب الموجهة لهم، ولكن بتركيز العدسة وتكثيف أكبر قدر ممكن من المادة المفيدة للقاريء الكاتب المبتديء. جاءت بعض الدروس أقرب إلي شهادات الكُتاب التي يتلونها في المؤتمرات أو ينشرونها في المطبوعات الثقافية، ذات الرطانة والغموض الساحر، واستدعاء الذكريات الخاصة المرتبطة بهذا العمل أو ذاك. قلنا إنها خطوة أولي علي هذا الطريق، ومثل جميع الخطوات الأولي من الطبيعي أن تكون مرتبكة قليلاً، وعلي الرغم من هذا، فإن قارئاً مدرباً ولو قليلاً علي قراءة الأدب والنقد، سوف يستفيد للغاية من تجارب هؤلاء الكتاب السبعة، وما طرحوه من أفكار وخبرات غاية في الأهمية علي وجه العموم، ولا شك أنه سيجد واحداً منهم يجيب عن بعض تساؤلاته الخاصة، أو يسّهل عليه مهمة كتابية أرقّته، أو يشير له نحو الاتجاه الصحيح. ركز الروائي محمد أبي سمرا (من رواياته: بولين وأطيافها، والرجل السابق، وسكان الصور) علي الانتقال من السيرة الشفاهية لشخصيات من الواقع، كان يلتقي بهم ويسجل لهم حكاياتهم وتواريخهم الشخصية، إلي التدوين السردي، الذي ينطلق فيه متحرراً من أسر المادة الوثائقية، وإن انطلق منها، نحو التخييل والاكتشاف. كما أشار إلي ميله الخاص في اوكيف تكون الرواية رواية، إذا كان دأبها رواية الثبات؟ لا يدري إجابة، لكنه يحيل إلي المؤرخ الفرنسي فرنان بروديل الذي جعل دأبه في كتابته التاريخية التأريخ للبني شبه الثابتة في الحضارات الإنسانية. ومن جانبه يسعي في عمله أن يقبض علي البني التحتية للشخصية الروائية، ما لا يتغير بتغير الأزمنة والأمكنة. ذهبت نجوي بركات (صاحبة روايات المحوّل ، حياة وآلام حمد بن سيلانة، باص الأدوام، وأخيراً لغة السر) مذهب كونديرا واستشهدت به بوضوح، وذلك في مسألتين؛ الأولي أن الرواية لا يجب أن تنطلق من اليقين، وأنها أرض الشك والحيرة والأسئلة، دون أي أحكام أخلاقية من قبل كاتبها علي ساكنيها، أو شخصياتها. وحرية الشخصية واستقلالها النسبي عن كاتبها، فهي ليست ابنة للكاتب، بل هي تولد من رائحة أو صورة أو استعارة، حسب كونديرا. وختمت باعترافها أن لعبة الرواية تستمر عصية علي السبر، لأن فيها ما يتجاوز محاولات أسرها في أفكار ونظريات، تبقي علي أهميتها نزيلة الهامش لا المتن. إن جمال النموذج السردي المقتطف من رواية لغة السر، بعد شهادة نجوي بركات، أدل ما يمكن علي رأيها هذا، ومنه قد يتعلم القاريء الذكي أكثر كثيراً من شهادتها الكونديرية. جاءت شهادة الشاعر والصحافي يوسف بزي (صاحب دواوين المرقط، ورغبات قوية كأسنانا) أقرب إلي التأملات الذاتية، ومع هذا فلن نعدم فيها الأفكار المهمة للكتابة الإبداعية عموماً، وخصوصاً في علاقته المركبة باللغة، وكيف يتصيد الكلام الدارج في الإعلام أو علي ألسنة الناس ليضعه في سياقٍ آخر، يحوله وينحرف به عن دلالاته المبدئية. كما أشار علي أهمية كيف نكتب في مقابل ماذا نكتب، وضرورة البحث دائماً عن حيلٍ جديدة في قول أي شيء، سواء كان قديماً أو مستهلكاً أو مستجداً. الشاعر الكبير عباس بيضون، (وصاحب رواية وحيدة منشورة هي تحليل دم) حاول أن يرصد الجسور الخفية بين الشعر والنثر، والرحلة التي قطعها علي تلك الجسور ذهاباً وإياباً، حتي استقر في النهاية، وكما أشار في أول كلمة بشهادته: أنا شاعر. علي الجسر الواصل بين الشعر والنثر، استعرض بيضون سريعاً العناصر النثرية، وربما السردية في تجربته الشعرية الخاصة، ثم ركز علي تجربته في روايته تحليل دم. آثر الروائي حسن داوود ( كاتب بناية ماتيلدا، أيام زائدة، وغناء البطريق وغيرها من الأعمال المتميزة) في شهادته الخاصة أن يبدأ بالحكي وروي واقعة ضياع مخطوطة رواية له ظل يبحث عنها لسنوات عبر أصدقاء له في باريس، إذ فقدها في تاكسي بمدينة النور وظل لسنوات أيضاً يحاول إعادة كتابتها دون جدوي. يظهر في شهادته الوعي المرهف بتقنيات اللعبة السردية، وبخصوصية الطريقة التي يتبعها، الطريقة غير الدراماتيكية والتي تنأي تماماً عن مشهيات الإثارة والتشويق، وتتبع إيقاعاً يكاد يكون رتيباً في نبشها للشخصيات والعوالم التي تتكشفها. في نهاية الكتاب نقرأ شهادة علوية صبح، (صاحبة الروايات مريم الحكايا ، اسمه الغرام، ودنيا) التي أكدت علي عدم الانطلاق من خطة مسبقة في الكتابة، وإصرارها علي عدم حكي الحكاية بترتيبها الزمني المنطقي، وميلها بالتالي إلي الكتابة، في مقابل الحكي، حيث مع الكتابة تبدأ من حيث تطاوعها الكتابة، علي عكس الحكي. خصت الجزء الأكبر من شهادتها بالحديث حول شخصياتها النسائية، وكيف يتلبسنها أو تتلبسهن، وتحديداً بطلتها مريم، وكيف استطاعت بحكاياتها حتي أن تخرس الروائية وتزيحها لتنفرد بالسرد. أشارت إيمان حميدان، في شهادتها التي توسطت الكتاب تقريباً، إلي صعوبة الوصول إلي الجملة الأولي التي يكتبها روائي مثل أورهان باموك من 50 إلي 100 مرة. وأشارت أنها تكتب رواياتها نتفاً وقصاصات هنا وهناك، علي الفوط الورقية وقوائم الطعام وظهر فواتير الكهرباء، ثم تقوم بعملية مونتاج لهذه المقاطع المتفرقة، وتعيد طباعتها، وهكذا ثم تضيف إليها فقرات جديدة، في لعبة دائرية تستمر طويلاً خلال رحلة اكتشاف، تكون فيها لحظة الكتابة هي لحظة اليقين الوحيدة للكاتب!