"حي مادلين"، "باسي"، "غابة بولونيا" و"شارع ريفولي"... هي ذي جذور مدينة النور في وصف القاهرة الحديثة التي تشكلت منذ تولي الأسرة الحاكمة مقاليد الحكم في عام 1805 وهذه الأصول ترجع علي وجه الخصوص إلي باريس الغربية التي نمت تحت عصا الراعي هاوسمان خلال الإمبراطورية الفرنسية الثانية. لم يكن التخطيط مجردا من لمحة عرقية، بيد أنه لم يترجم الواقعة القوية : الإشعاع الذي عرفته مصر عن النموذج الهاوسماني في التخطيط الحضري، وأكثر من ذلك يعتبر ثقافة مدينية تمنح الدور الأول للتدخل الحكومي. لم يكن الحدث خاصا بمصر ولا بإقليم معين، الهاوسمانية ظاهرة عالمية منذ القرن التاسع عشر. ومع ذلك كانت ثروتها القاهرية تعميرا شديد الخصوصية، ما وراء تلافيف التاريخ السياسي المصري. تأثير واضح كل شئ بدأ مع الغزو الفرنسي. علي الرغم من أن المهندسين الجغرافيين لم يلاحظوا تمثلنا للقاهرة عبر رسم خرائط القاهرة العثمانية التفصيلية، فأننا ندين إليهم بأول مشروع يخترق النسيج الحضري الكثيف للمدينة في عام 1799 . بالمصادفة أو بإرادة متعمدة، دشن "الشارع الجديد" في 1846 ، هذا الشارع الجديد "الموسكي" يخترق قلب المدينة حيث تنتصب البنايات الأوروبية الجديدة (المصارف، المحال، المقار القنصلية)، مستلهما تخطيط العبقرية العسكرية الفرنسية. أنه نتاج الإدارة الجديدة لمصلحة الطرق، التي أنشئت في عام 1843 علي نمط ونموذج لجان التزيين (أورناتو) التي فرضتها السلطة النابوليونية علي ايطاليا، وهي أيضا مشكلة حسب مجالس الفنون التي أنشئت في عام 1793 لتجميل باريس الثورية. يتبع النقل الثقافي أحيانا طرق متعرجة... تتوالي الفرجات، بتحقيق علي باشا مبارك، المهندس الشهير الفرنسي التكوين له بصمات علي كافة الأشغال العمومية في مصر طوال عقود عديدة بدءا من عام1864 ، وهي الأشغال التي استلهمت ضمنيا نموذج الشرفات المقوسة في شارع ريفولي. وعلي الرغم من نقص التمويل والتقنيات، لم تكن بالتأكيد طبعة غير تامة. لم يكن يميزها، علي وجه الخصوص، ملاحقات الطلب بالدفع الدورية والمنتظمة التي تبلور الشارع الباريسي، بيد أن هذه الشوارع المستقيمة ذات الحوانيت تحتوي بصورة واضحة الأثر الحاسم لقاهرة علي النمط الباريسي. كلية الوجود الفرنسي يتبدي تأثير باريس الإمبراطورية في عهد نابوليون الثالث جليا في الأشغال العمومية في العاصمة الفرنسية خلال عصر الخديوي إسماعيل (1863-1879) : حديقة الأزبكية كثيرة الأودية، حديقة النباتات الحارة بالجزيرة، نزهات الأهرام، سراي الجيزة أو شبرا، الخ. كل هذا نتاج مهندسي الإدارة الباريسية، مثل المعماري بيار باريليهدوشامب أو مهندس البستنة البلجيكي جوستاف دلشوفالوري، اللذين جذبهما إلي العمل بمصر هاوسمان في 1968، من الممكن أن نري أيضا في حديقة الحيوان الجسر الحديدي الضيق الذي صممه جوستاف إيفل في 1873 علي تلال، في أماكن الخديوي الخاصة ، بحصي ومماشي مقوسة وبحيرة صناعية. علي وجه العموم، عدد من اختصاصيي هندسة المساحة ساعد علي نهضة القاهرة الحديثة. نظام صرف المياه كما شبكة الإضاءة العمومية اللذان شرعا في العمل في عام 1865 يدينان بالفضل إلي مقاولين فرنسيين. ظلت مصلحة الطرق لفترة طويلة يديرها المهندسون الفرنسيون (ومن ضمنهم بيار جران)، حتي أن حماية التراث المعماري الوطني، الموسوم بإنشاء "لجنة المحافظة علي آثار الفن العربي" في عام 1881، تبدت بمبادرة فرنسية، مستلهمة من "المجلس الفرنسي للآثار التاريخية". حتي الاحتلال البريطاني في عام1882 ، تعددت الإدارات الفرنسية في كافة مستويات الإدارة الخديوية. يتبدي أثر النموذج الباريسي حاسما في "الأحياء الجديدة" التي أقيمت خلال حكم الخديوي إسماعيل لإغراء المقيمين الأوروبيين والنخبة المحلية، علي هامش المدينة القديمة، حول الأوبرا (التي أسست في عام 1869 ، حتي قبل أن ينتهي البناء من قصر جارنييه، سيرك، "مسرح علي الطراز الفرنسي" وميدان خيل. هذا الحي الراقي، الذي تحفه الفنادق الخاصة وبنايات للإيجار حسب كراس شروط صارمة، عمل علي التفكير تلقائيا وبصورة مصغرة في باريس الهاوسمانية القائمة علي سهل مونسو Monceau محل الحدائق القديمة مثلما جري في القاهرة، حتي وان كانت من جديد خطة الإنشاءات القاهرية وطبيعة موادها البديلة وحجم رؤوس الأموال المستثمرة لا يمكن مقارنتها بالحال الفرنسي . مكتشفا قاهرة1876 ، لم ينس عالم مصريات فرنسي من أن يتحسر علي "الفرنسة" التي عملت بالمقابل علي جعل الجزائر تحت السيطرة الفرنسية مدينة أكثر شرقية من القاهرة. من يقول استلهام أو تأثير لا يقول البتة محاكاة. نموذج مستجلب، دائما، نموذج يشتغل عليه محيطه المستقبل. شارع الموسكي عريض ومستقيم، غير أنه مغطي بألواح خشبية، مثل المماشي القديمة المخصصة للتجارة. علاوة علي ذلك، خارطة القاهرة الخديوية الجارية أظهرت بكل وضوح "باريسية" التجميل الحضري في مصر وأنها لم تكن مظهرا للتحول المكاني والمؤسسي الذي جري في البلاد منذ عام1840 تحت اندفاعات الأسرة الحاكمة. هناك بعد جوهري آخر يتضح في الإصلاحات المؤسسية لكي يتطابق النمو والتقدم مع مبادئ الشريعة والفقه. هكذا يكتمل عمل رائع، بالتوازي مع تحولات المكان المقام، لإيجاد الحلول الشرعية لكافة العقبات التي من الممكن أن تتضح، علي سبيل المثال الأوقاف، وهي مؤسسة أساسية في الإسلام منذ السنوات الأولي من الهجرة، ولكن أيضا لاستثمار واستغلال المنافع المتوقعة التي يمنحها القانون الإسلامي، لفائدة المجدد (6). بقاء النموذج الباريسي يتبقي أن رسم "بناء القاهرة علي النمط الهاوسماني" ظل هاجسا يلاحق مخيلة رؤساء البلديات في مصر لفترة طويلة، حتي بعد أن استقرت انجلترا في أرجائها. عمل كثير من المهندسين البريطانيين، من مختلفي الأجيال، علي إتمام مشاريع الشوارع وإزالة الطرق المسدودة والابتعاد عن تخطيط رصف الطرق كما كان يجري في القاهرة القديمة وترميم المساجد التاريخية، وبالتحديد التي بقيت من عصر الخديوي إسماعيل. في هذا الشأن، من الممكن أن نقول أن قاهرة "العصور الوسطي"، تلك التي نستطيع رؤيتها اليوم، نتاج خالص للقرن التاسع عشر. ومع عطفات القرن التالي ، بقي حي "جاردن سيتي" الذي أقيم في ضواحي القاهرة أكثر قربا من التخصيصات الفرنسية الأصيلة عن قالبه البريطاني. بالمفارقة ، بعد استقلال عام 1922 ومن الآن فصاعدا، قام المهندسون المدنيون بتبني "المبادئ الحقيقية لتخطيط المدن وحركة المدن الحدائق في توسع القاهرة المستقبلي"، حسبما هو قائم في السجلات الرسمية. لم يختف النموذج الباريسي من خلال العديد من تمثلاته. في عام 1948 ، التوسع الجديد للقاهرة، الذي امتد إلي الضفة الأخري من النهر، ومنح الحياة لحي المهندسين، علي أمل أن يكون "الحي النموذج العالمي الذي يجمع أناقة باريس وجمال فيينا". فرضت الأمركة منذ ذاك بمقاييس جديدة وقوالب جمالية علي مصر، بيد أن ذوق "الزمن الجميل" الذي نراه ينبثق في العمارة المعاصرة، يمثل بطريقة من الطرق تحولا جديدا في العلاقات الحية والمعقدة بين المجتمع المصري والثقافة الفرنسية. هوامش المقال : ( * ) جورج أوجين هاوسمان (27 مارس 1809 - 11 يناير 1891)... معماري ومهندس مدني شهير، مشهور "بالبارون هاوسمان"، ولد وهذا يتبدي من اسمه ذي المرجعية الألمانية لعائلة من البروتستانت ترجع جذورها إلي إقليم الالزاس. عمل مع الإمبراطورية الثانية وخلال حكم نابوليون الثالث. يرجع إليه فضل تنظيم باريس علي هذه الصورة الرائعة الباقية إلي اليوم. تأثر الكثيرون في العالم وتتلمذوا علي أفكاره، ومن ضمنهم العلامة المصري علي مبارك باشا (1824 1893) الذي قام بتخطيط القاهرة الحديثة، وما أصطلح عامة علي تسميتها "وسط البلد" حسب اللغة الدارجة. وخلال هذه الفترة تحققت العشرات من المشاريع البارزة والباقية إلي اليوم (مثل : شارع كلوت بك والسكة الحديدية وخطوط الترام لربط الأحياء القديمة بالحديثة ، كوبري قصر النيل وكوبري بولاق أبو العلا وغيره كثير) رغم مظاهر الأنجلزة والأمركة وما جاورهما من عمارة وظيفية رثة تحاكي العمارة السوفياتية.