كثيرا ما أُسأل، منذ اندلاع موجة الثورات في العالم العربي، عما إذا كان الغضب الذي ما فتئت أعبّر عنه في كتاباتي حيال وضع المرأة العربية (وهو غضبٌ في معني السخط وطفح الكيل، لا في معني فشة الخلق العابرة) لا يزال مبرّراً. حسبي أنه غضب بات اليوم أكثر صدقية وحتميةً من ذي قبل. السبب؟ حُكي ويُحكي الكثير عن الثورات الشعبية المتتالية التي يشهدها العالم العربي اليوم، لكن القليل مما يُحكي يتطرّق إلي »مصير« النساء في هذه البلدان. تري، ألم يحن لرياح التغيير التي هبّت علي العالم العربي، أن تلفح وجوه النساء العربيات وحقوقهنّ وحيواتهنّ المرتهنة؟ قد رأيناهنّ جميعاً، نساء تونس ومصر الباسلات، يشاركن في التظاهرات ويدعون إلي إسقاط الديكتاتوريات ويساهمن في الاحتجاجات. »رأيناهنّ« أقول، وهو فعل ماضٍ بامتياز، ما عدا بعض الاستثناءات اللامعة لنساء ما زلن يحاولن النضال في سبيل تغيير حقيقي. إذ أين هؤلاء النساء الآن، في ساعة تشكّل بني الأنظمة الجديدة، حيث ثمة حاجة ماسة إلي أصواتهنّ ومشاركاتهنّ الفاعلة في صنع نسيج الحياة المقبلة ومبادئها؟ أيّ ثورات هي هذه، إذا كانت المرأة ترضي بأن تكون محض بيدق «يُحرَّك» عند الحاجة، ويُهمَل ساعة القرار؟ أيّ ثورات، أقول، إذا لم تقلب هذه الثورات طاولة البطريركية علي رؤوس الظلاميين، وإذا كانت سترسي شكلاً جديداً من أشكال التخلف بدلاً من ذاك الذي سبق؟ مَن الرابح في لعبةٍ، نصف المشاركين فيها محض متفرجين. أعني تحديدا »متفرجات«؟ أكرر: رأيناهنّ جميعاً، أولئك النساء، يمشين في التظاهرات ويصرخن ويناضلن ويطالبن بالتغيير. جلّ ما آمله، أن يكون بعض هذا التغيير المستحق الذي طالبن به، ولا يزلن، يتعلق بحقوقهنّ ودورهنّ في هذه المجتمعات. فحقوق المرأة ليست ترفاً، ولا هي بند ثان أو ثالث في لائحة الشروط التي تساهم في إقامة دول وأنظمة حرّة وديموقراطية. بل هي بند أوّل وأساسي، ينبغي له أن يترافق في شكل متوازٍ مع البنود الأخري. شخصياً، لقد شبعتُ ممن يقولون لي إن حقوق المرأة العربية (القانونية والاجتماعية والسياسية والجنسية الخ) ترف «اكزوتيكي»، وإنه ينبغي لنا قبلاً تحقيق الديموقراطية، ومحاربة الفساد الاقتصادي، وفضح الانتهازية السياسية، ووو...الخ. الترف الحقيقي في دنيانا هذه، الذي بات ينبغي لنا الاستغناء عنه، وما عاد من المقبول أن ندفع أثمانه، هو خطاب المجتمع البطريركي الخبيث، الكاذب، المقيت... هل حرمان المرأة العربية حقوقها كإنسان، الشيء الوحيد الذي يحول دون تطوّر العالم العربي؟ بالطبع لا. فوقف الجرائم الاسرائيلية في فلسطين أولوية، طبعاً ومن دون شك. ومحاربة الديكتاتورية والجوع والظلم أولوية، طبعاً ومن دون شك. والتصدي للفساد والكذب والطائفية والتطرّف الديني أولوية، طبعاً ومن دون شك. لكن احترام حقوق المرأة وتكريسها هو أيضاً أولوية. أولوية أيضاً وأيضاً، التخلص من الذكوريين المتقنّعين تارةً بالنضالات البروليتارية، وطوراً بحجة »حماية المرأة وعرضها وطولها« من الانتهاك. في هذا السياق، يهمّني أن أذكر تظاهرة ضخمة شهدتها العاصمة الايطالية روما يوم الأحد 13 شباط 2011، بدعوة من عدد كبير من المثقفات والكاتبات والمناضلات في سبيل حقوق المرأة، ضد برلوسكوني وفضائحه المبتذلة المتتالية. حملت التظاهرة عنوان »إن لم يكن الآن فمتي؟«، وقد شارك فيها مئات الألوف، وامتدت عدواها إلي مدن كثيرة أخري، علي غرار فلورنسا وميلانو وتورينو وبولونيا ونابولي. ما لفتني خصوصاً وتحديداً في تلك التظاهرة، نزول الرجال إلي الساحة. أقول الرجال، وأعني حلفاء النساء الأهمّ في معركة مماثلة. إذ لطالما أزعجني غياب العنصر الذكوري عن المبادرات الهادفة إلي تحقيق عدالة تساوي بين الجنسين، ولطالما أزعجتني معايير »الفصل« بين حاجات النساء وحاجات الرجال، وسواها من العادات التمييزية التي تخرّج أناساً مجبولين بالعقد والكبت والجهل والخوف من الجنس الآخر، والحقد والكراهية حياله أيضا، لا بل في الدرجة الأولي. كيف لا، واقتناعي، واقتناع كثيرات أخريات، بأن الرجل شريك حتمي وأساسي في مكافحة الظلم اللاحق بالمرأة في ظل جميع الأنظمة السياسية والأمنية والدينية الرجعية الأخطبوطية التي، علي غرار تنّين الأسطورة، لا تني تفرّخ لها رؤوس جديدة كلما قُطع منها رأس! كيف لا، وقد بات من الضروري، بل من الحيوي، أن يعيد الرجل النظر في هويته الذكورية، وأن يدرك أن هذه الهوية ليست مقترنة بتغييب شخص المرأة وحقوقها ومشاعرها، ولا هي مقترنة بعلامات البطريركية والتملك والتسلط والادعاء والنظرة الدونية حيال »النصف الآخر من السماء«، علي ما وصفها ماو تسي تونغ؟ في مجتمعاتنا التي ما زالت تربط مفهوم الشرف بعود الكبريت الموجود بين فخذَي امرأة (علي رغم ادعائنا العكس)؛ وفي شرقنا العزيز، شرق »جرائم الشرف«، شرق التهليل لغشاء تافه، شرق العنف والظلم والختان، شرق السلطة الرجالية والرضوخ النسائي؛ يعلم الرجل أنه «مدعومٌ» بمعادلة المكيالين. كيف لا، وهو يعرف أن ما هو محرَّم علي المرأة مسوَّغ له، وأن شريعة الذكر صاحب »الحق«، هي السائدة مهما تكن أثمانها، أما الباقي فكلام بكلام! كيف لا، وهو يعرف أن المرأة، مهما تنل من الشهادات وتتولّ من المناصب، فسوف تظل في عرفه وعرف مجتمعه الذكوري، نكرة إلي أن تتزوج وتنجب! فالمرأة