تناولت في الأسبوع الماضي ما جري في المركز الثقافي الفرنسي إبان مهرجان «ملتقيات الصورة» الذي نظمه هذا المركز، وكيف ينال من رأس المال الرمزي الذي حققته فرنسا في الوجدان الثقافي المصري والعربي، والذي تراكم عبر عقود طويلة بدأت برفاعة رافع الطهطاوي وتواصلت حتي اليوم. وهو رأسمال تبدده سياسات ساركوزي وكوشنير الثقافية في سعيها الحثيث لأن تلعب فرنسا دور الداعية المستنير للسياسات الأمريكية والصهيونية، بدلا من دورها القديم الذي يشبه دور المثقف الذي يطرح الحقيقة في مواجهة القوة. وكان من المفارقات الدالة أن نشرت «أخبار الأدب» في الصفحة المقابلة لتلك التي نشر بها مقالي، حديثا مع الجامعية والناقدة الأمريكية المرموقة جوديث باتلر نشرته صحيفة (هآرتس) في 20 فبراير الماضي، ترجمه نائل الطوخي المولع بتقديم الشؤون العبرية وثقافتها. وأود لو يكمل خدمته ويترجم مقالها المهم الذي نشر في صحيفة (الأمة The Nation) الأمريكية يوم 13 أبريل الجاري بعنوان «لن تبقي وحيدا». وإن كان من الضروري التذكير بأنها برغم يهوديتها رفضت زيارة أي من مدن دولة الاستيطان الصهيوني، وقصرت زيارتها علي المناطق الفلسطينيةالمحتلة، وحاضرت لا في الجامعة العبرية أو جامعة تل أبيب وهي الجامعية المرموقة التي يتهافت الكثيرون علي دعوتها و إنما في جامعة بير زيت الفلسطينية. كما أنها عضو في مجلس إدارة مسرح «جنين»، وكلنا يعرف رمزية «جنين» في سجل المقاومة الفلسطيني للاحتلال الصهيوني، واهميه مسرحها الذي عرض أثناء زيارتها «شظايا فلسطين». وطرح ما قامت به بتلر، يعد ردا علي الكثير مما أثير، فها هي باحثة ومفكرة يهودية أمريكية من أهم ناقدات الموجة الجديدة في النقد النسوي في العالم بعد موجة جوليا كريستيفا وإيلين سيكسو تختار الانحياز لدور المثقف الذي بلوره إدوار سعيد، وهو قول الحقيقة في مواجهة القوة. فقد اختارت أن تقف إلي جانب الحق الفلسطيني، وأن ترفض الاحتلال الصهيوني وتدينه من قلب ممارساته العنصرية ذاتها: فلسطين المختلة. والمقال الذي أرجو ترجمته يكشف عن تغير الرأي العام الغربي، حتي بين اليهود أنفسهم، من دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين. وفي مقالها بصحيفة (الأمة) تدافع عن تصويت مجلس جامعة كاليفورنيا (بيركلي) وهي الجامعة التي تعمل بها، بعدد 16 صوتا ضد اربعة لصالح سحب أي استثمارات للجامعة في الدولة الصهيونية. أقول هذا كله لأكشف للرأي الثقافي المصري أنه بينما يدور لدينا حديث مائع عن لاجدوي التطبيع، يدور في الغرب الأمريكي نفسه، والذي كان وما زال حاضرة هذا المشروع الاستيطاني بمعني «الميتروبوليتان» التقليدي له، حديث صريح حول المقاطعة التي لم تعد ترد في الخطاب الثقافي العربي إلا بخجل وعلي استحياء، بينما يلقي الكثيرون وهم يتحدثون بميوعة عن التطبيع ويسخرون من الوطنية بطوق النجاة لدولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، وهم يتصورن أن الحديث عن التطبيع، وإقامة علاقات طبيعية مع هذا المشروع الاستعماري الاستيطاني المرفوض، شيء لا أهمية له ولا ضرورة. المطلوب الآن هو دعوة جريئة وصريحة لاستبعاد هذه الكلمة الملتبسه «التطبيع» من القاموس الثقافي العربي، لأن الوضع الطبيعي الوحيد مع عدو استيطاني من هذا النوع، لايزال يحتفظ في الكنيسيت وفي علمه معا، بمقولة سيادة نجمة داوود من النيل للفرات، هو المقاطعة الصريحة الواضحة، وطرد الأسم الذي جعله شعارا لمشروعه الاستيطاني البغيض في فلسطين، من قاموس التداول العربي، والتأكيد بصراحة علي أنه مشروع استعماري استيطاني ينهض علي أساطير واهية، لم يثبت منها شيء أمام التمحيص التاريخي. ومع أنني أعرف أن ما أطالب به كثير، ومخالف لما يتشدق به كثيرون، إلا أنني مصر علي التمسك به. لأنه كلما قل عدد المناصرين للحقيقة والعدل كلما لزم التشبث بهما والزود بقوة عنهما. أما التعلل بأن هناك حاجة إلي معرفة العدو، فإن معرفة العدو تتعزز من خلال رفضنا له ومقاطعته والبحث عن الذرائع التي تدحض ترهاته. ألا يذكر مثقفونا رواية (صمت البحر) الشهيرة التي ترفض فيها فرنسا الواقعة تحت الاحتلال النازي حتي مجرد تبادل الكلام مع محتليها؟ إن ما أدعو إليه هنا هو أبعد من رفض التطبيع رفضا صريحا يلغي هذه الكلمة القبيحة والمائعة من قاموسنا، ووصف الأشياء بمسمياتها الحقيقية والعلمية والموضوعية: أي دولة الاستعمار الاستيطاني في فلسطين. ورفض أي تعامل معها حتي ولو أرادت الحكومة الفرنسية فرضه علينا. وأرجو أن يتابع من يطبلون للانصياع للتوجهات الفرنسية، ما يتعرض له جان ابن الرئيس ساركوزي الآن في فرنسا من توبيخ ومحاكمات حينما أراد استغلال نفوذ أبيه، ووراثة مكانه مرة في عمدية «نييي Neuilly » الحي الراقي بغابة بولونيا الذي صعد منه الأب إلي قمة السلطة، ومرة في رئاسة منظمة رجال الأعمال في «لاديفانس La Défense» دفعته إلي الإقلاع عن الحلمين معا. فهذه هي القيم الفرنسية الحقيقية التي ترفض المحسوبية، وتطرح الحقيقة في مواجهة القوة.