الشوارع تغيرت ،الثورة فتحت الميدان ، رائحة الدخان الحارق تسربت الي البيوت المطمئنة الي الفتها مع استبداد الدولة ، العائلات اخفت اطفالها و شبابها عن عين راكب المدرعة ، لكن دخانه وصل ، و اشعل الصدور ، و لوث الغسيل المنشور باطمئنان الي ان " ليس في الامكان ابدع مما كان". الحرب انتقلت من شارع الي شارع ، متاريس بلاستيك خلفها جنود يرتدون البدلات السوداء و الخوذات ، و في عقولهم ايقاع الحرب علي اعداء ، خطرين ، لابد من قتلهم ، لكنهم " عساكر غلابة " ، لا يفهمون شيئا ، غسلت السلطة ادمغتهم وحولتهم الي وحوش بدائية ، تضرب و تقتل بلا تفكير ، الوحش في البدلة اذن قال الاربعيني ردا علي تخوفات شاب في نهاية العشرينات من اتساع نطاق اسطورة العسكري البائس..المواجهة مع " رمز السلطة " الذي لم يتورع عن الضرب و السحل و القتل ، التلازم بين الوحشية و البؤس يثير الضحك احيانا ، كما حدث عندما اكتشف اثنين من عساكر الامن المركزي يوم 25 يناير في ممرات محيطة بميدان التحرير ،انهما وحدهما ، وسط كتلة المتظاهرين ، وبينما تتحرك العصا الي الاسفل ، و يبدو الدرع البلاستيكي كأنه لعبة فقيرة،الاكشتف دفع العسكري الاكثر طولا لان يتوقف و ينظر حلوه ويسأل زميله: احنا فين ياابراهيم. انسحب ابراهيم و زميله بخطوات مسرعة وسط الضحكات العالية .. هما معا ، في صفوف الجيش المقاتل دفاعا عن مبارك ، غيرهما وحيدين في متاهة وسط جموع تتوافد علي ميدان التحرير ، لتجتاح هندسته القديمة ، هندسة التسلط، وتفك اسره من صناع مدينة الرعب. ابراهيم وزميله مجندون بالسخرة في جيش الدفاع عن مبارك بين مليون و 200 الف ، نصفهم انتقلوا من خدمة الدفاع عن مصر في لجيش الي الدفاع عن الرئيس في الامن المركزي. هم جيش احتلال الشوارع ، التي تعد في كل دول العالم، مكان للقاء الجماعي ولاحتفالات الناس. ساحة للحرية. المدن الحديثة، وبينها القاهرة والإسكندرية، صممت شوارعها الواسعة وميادينها، ليس لمجرد عبور السيارات، لكنها فرص للتجمع والتعبير الحر.الشوارع كانت تحت الحراسة. نظام مبارك أمّمها لمصلحته. حوّلها إلي ثكنات. في كل زاوية تجمعات سوداء من قوات الأمن المركزي. والميادين تحوّلت إلي غابات حديدية وزنازين مفتوحة بأسوار عالية تحجز الناس خلفها. شوارع تشبه نظام مبارك. فوضي واستبداد وانزعاج من أي لقاءات خارج السيطرة.بهذه الوحوش البائسة حمي مبارك عرشه سنوات طويلة ، تضخمت فيه قوة الشرطة الي حدود اسطورية ، بقيادة جهاز امن الدولة ، حامي العرش، و محطم اجهزة المناعة، لتسيل "الدولة" تحت سيطرة "امن الدولة ". الجهاز تخطي حدود الوظيفة الامنية ، الي الحكم، اصبح الطريق إلي المناصب الكبيرة...والصغيرة ، و لايمكن التفكير في فتح متجر أو صحيفة أو حزب سياسي إلا إذا وافق أمن الدولة.مباحث أمن الدولة هي أداة الدولة البوليسية. اليد الطولي التي تدير مصر من الباطن. ضباطها هم الحكام الحقيقيون لكل مؤسسات مصر: من الجامعة إلي مجلس الشعب، مروراً بكل التفاصيل. تقرير أمن الدولة هو بطاقة إلي جنة الحياة السعيدة. والعلاقة مع أمن الدولة هي مفتاح الوجود الشرعي.تغير النظام في مصر من الملكية إلي الجمهورية، ولم ينته الدور السياسي لمباحث أمن الدولة. تتسع صلاحياته بشكل خرافي، ليس للحماية، بل للسيطرة والتحكم وضمان الولاء الكامل في كل المؤسسات.مخبرو أمن الدولة أصبحوا من كل فئات المجتمع. ومندوبو الجهاز يتنقلون وفق خط سير يومي من مناطق التوتر في الشوارع إلي كل غرفة مغلقة لها تأثير علي القرارات في مصر.سلطة تتضخم في ظل حكم طواريء جعل الاتثنائي طبيعيا. من الاستثناء ولد نفوذ الجهاز المرعب في مصر. لم يعد جهاز حماية سياسية، بل جهاز الإدارة السياسية.أصبح كل المواطنين متهمين حتي يثبت العكس. وارتفعت أعباء الجهاز إلي درجة أصبح يحتاج إلي خبراء في كل المجالات، من الاختراعات العلمية إلي جمعيات مساعدة الفقراء. لم يعد المهم ملاحقة الجماعات غير الشرعية. فأمن الدولة يدير كل أنشطة مصر. ولم يعد خافياً أن نظام حسني مبارك عاش بالبوليس وسقط بالبوليس.