عشقت الموسيقي منذ فجر الصبا فشغفني الطرب وعشت له وعبدت ربي فيه . ................ إني لا أخشي علي الموسيقي العربية من القيام مادام هناك قرآن عربي أحكمت آياته بنغم عربي أصيل ومادام المقرئ قائم ومادام الربع مقام في اصوات الباعة .. وفي أغاني الفلاحين وأصحاب الحرف وأغاني البحارة والفلاحين والمنشدين . ................... هذا الطفل الغرير كم كانت تحركه دقات نواقيس الكنائس تتجاوب مع أصوات المؤذنين من أعلي المآذن المتاخمة للحي وكم كان يترك الحي ويجنح الي النيل الذي أحبه وفي الخلاء وهذا الفضاء الوسيع بين المروج الخضر والأشجار المتدلية يرهف أذنيه إلي أصوات الطبيعة وهي أنغام الوجود. وهناك في مكتبة الشيخ علي سكر يحترف حرفته الأولي كمجلد للكتب . ومن دواعي الصدف أن يكون الشيخ سكر من أبرز واضعي الأذكار النبوية والقصائد الدينية فيترك للصبي داوود حرية الغناء أثناء عمله في المكتبة في صناعة التجليد التي لم تكن في الحقيقة الا أنشودة الصبا , وقد علمته هذه الحرفة معني من معاني الصبر والجلد وحب العمل واتقانه . وفي المكتبة التي حوت من المؤلفات والكتب الكثير من آيات الشعر والفقه والأدب دعته أن ينهل منها ما نهل من الأدب الرفيع ما يروي النفس المتعطشة الي الجمال والكمال. فكان هذا الاستيعاب مما اغترفه من الكتب والمؤلفات ما قد عوضه عما فاته من دراسات في المدرسة , بل كان في ذلك ضوء يشع من نفسه ليكون شخصية رجل من رجال المجتمع العالي. ويشاء الله له في المكتبة أن يتقابل مع أحد رجال الفكر ألا وهو الإمام الشيخ محمد عبده الذي عهد اليه بتجليد مؤلفاته فيستمع الي غناء داوود وهو يعمل، فيقوم الإمام ويقول لمن حوله : سيكون لهذا الفتي الذكي الفؤاد شأن في عالم الفن إذا ما احترف الغناء. وكانت هذه اللفتة من الامام هزة في نفس داود قلبت من شعوره ووجدانه وحبه الجارف للفن أن يهرب من وجه أبيه الذي كان يعارضه في أن يحترف الفن موليا وجهه شطر النيل . وهناك علي مركب شراعي كبير علي أهبة المسير يلقي بجسده في السفينة وهو لا يدري أين تلقي به المقادير ولا أين المسير . وعلي ضفاف المنصورة عروس النيل يلتقي بالشيخ محمد شعبان أستاذ عبده الحامولي فكان المعلم الأول لداود الذي نهل منه ما قد نهل من الموشحات والضروب والأوزان . وعندما آن الأوان بعد ثلاثة أعوام ليعود الي الأهل والخلان يقول محمد شعبان : اذهب يا داود علي بركة الله .. أري من أستار الغيب أنك ستحدث شيئا هاما في عالم الفن. واذا ما رنا الي سماع محمد عثمان الملحن الكبير شهرة الفنان الجديد في عالم الغناء الذي لقبته الاسكندرية واهلها السماعون للنغم بمحمد عثمان الجديد , قربه اليه وأطلق عليه لقب سارق الألحان ذو الأذن الذهبية ... بل ويجعل من داود الفنان الناشئ ابنا روحيا ، ويعطيه فرقته الموسيقية الكبيرة ليغني بها داود في حفلاته الخاصة . وعندما ناهز العشرين من عمره وتفتحت فيه موهبة التلحين واستطاع بفنه أن تقف باكورة ألحانه علي قدم وساق أمام ألحان الحامولي وعثمان فيذهب الحامولي بنفسه وهو المغني الأول في العالم العربي ليستمع الي غناء داود وهو يغني في ليلة من الليالي الساهرة إحدي معجزات ألحان الحامولي القوية . فما أن يري داود الحامولي حتي يشير الي الجوقة بالامتناع عن العزف، ولكن الحامولي يقول أنا آت لأستمع اليك يا داود .. ويكون جواب داود : لا أستطيع الغناء وسي عبده موجود ولن يكن هذا الا تأدبا، ولكن الحامولي يشير اليه في الاستمرار في الغناء.