هذه المقاومة لم تكن مقصورة علي المعني السياسي في مجتمع كانت أغلبيته الكاسحة مؤلفة من الجاليات الأجنبية التي كان سلطانها وسطوتها محيطة ومتغلغلة في كل ميدان من ميادين الحياة. الحديث عن مدينة بورسعيد من شأنه أن يفضي بنا إلي الغوص في ثنايا الشخصية التاريخية والهوية الحضارية التي برزت إلي الوجود في بواكير النصف الثاني من القرن التاسع عشر باعتبارها ثورة اقتصادية ذات طابع عولمي وبوصفها كينونة اجتماعية فيها من جميع أنوع البشر أو مايعرف اصطلاحاً بالمدينة " الكوزموبوليتانية " بما تأسس علي ذلك من تنوعات خيوط نسيجها الثقافي الذي جعل منها ركيزة للتواصل ما بين الشمال والجنوب والشرق والغرب سيما أنها بفضل قناة السويس صارت قاعدة التقاء ونقطة تفرع. هذه المركبات التي تميزت بالتناغم الدائم مع التطورات العالمية وسع وعمق من خصوصياتها الحضارية علي أصعدة شتي بثراء لم يتوقف عن النماء. ومع أن الحضارة الأوربية بشقيها من التجارة والعمارة كان لها الغلبة في تحديد الأساليب التي قامت عليها كثرة من شئون المدينة الإدارية والحياتية والتقاليد الثقافية التي جاءت في ركاب الجاليات التي توالي قدومها تباعاً إلي ساحات حفر قناة السويس ثم حين شرع التكوين العمراني في الأجناس والأعراق واللغات والثقافات التي طغي عليها الطابع الأوربي بنهضته الحضارية. وفي سياق ذلك كان المكون المحلي يسهم بدوره في خلطة هذا المزيج علي مستوي الأخذ والعطاء بنسب متفاوتة وفق ما تقتضيه المصالح الاقتصادية والاعتبارات الاجتماعية والمأثورات والأعراف المستمدة من التراث التاريخي بما فيه من تراكمات وقناعات راسخة. عرفت بورسعيد حوار الحضارات وتلاقي الثقافات منذ ضربة أول فأس لشق مجري قناة السويس في 25 أبريل عام 1859م أي منذ قرن ونصف القرن، ومن تفاعلات هذا الحوار الخلاق وتجليات هذا التلاقي الساعي إلي كشف الحقائق والمفاهيم حددت بورسعيد مكانها علي خرائط النهضة ومكانتها الاستراتيجية ما بين الأمم وموقعها المتميز علي مخطط الوطن. هذا التميز استمد خواصه من الموقع الجغرافي بفرادة ما توافر له من وسطية وتوسط كأنه النواة الحاكمة بمثل ما استعار خصائصه من الموضع بمركباته الاقتصادية والديموجرافية وحصائل المعارف والخبرات والقوي العلمية المتجددة. كما عرفت بورسعيد أن المقاومة هي خيار تجمعت فيه نوازع الحرية وفروض الضرورة وكان ذلك من أول وهلة زُج فيها بفيالق عمال الحفر في مواجهة ظروف طبيعية قاسية الصرامة وأحوال إنسانية بالغة التحدي والجهامة. فمنذ البدايات الأولي لوجودهم في بلاقع صحراوية قاحلة وقر في نفوسهم أنه قد فرض عليهم تحدي التحديات. كانت الرؤية التي طغت علي مجمل الأحداث تكمن في أن وجودهم بهذه البقعة سيكون معواناً علي رسم مسار جديد للمستقبل يضع مصر علي أعتاب عصر جديد ومن ثم خامرتهم مشاعر قوية مؤداها أنهم بمشاركتهم في هذا العمل المحفوف بالكد والمعاناة يكونون قد أدوا واجباً بالغ الاعتبار. وما بين فروض الواجب الوطني وسوء المعاملة التي تلقوها في ساحات الحفر تولدت روح المقاومة التي رفضت رفضاً قاطعاً قبول الغبن والإجحاف. هذه المقاومة صارت مفردة من مفردات قاموس الوجود الحياتي لشعب المدينة وملمحاً من ملامح الذاتية البورسعيدية صاحبت كل التطورات في مختلف مراحل البناء الحضاري للمدينة. هذه المقاومة لم تكن مقصورة علي المعني السياسي في مجتمع كانت أغلبيته الكاسحة مؤلفة من الجاليات الأجنبية التي كان سلطانها وسطوتها محيطة ومتغلغلة في كل ميدان من ميادين الحياة، وإنما كانت مقاومة حضارية سعت دائماً إلي تعزيز التوازنات الإيجابية لصالح الشعب المصري في المدينة إزاء الجاليات الأجنبية. ولم يكن هذا التسابق يتسم بالسهولة وإنما كان محاطاً بكم من الصعوبات التي يحتاج تذليلها إلي دأب ومجاهدة ومثابرة، وكانت النتائج تأتي بطيئة ولكن علي نحو مؤكد. وأخذت موازين الصراع تعتدل رويداً رويداً مما زود الأمل بطاقات تؤكد أن المقاومة لا تذهب أدراج الرياح. وحفرة القناة هم الذين أنشأوا الجغرافيا بكل تجسيداتها وتضاريسها شبراً شبراً وفي موازاة ذلك هم أيضاً الذين صاغوا حوليات التأريخ، فبدون جهودهم الأساسية لم يكن للتاريخ أو للجغرافيا أن يبرزا إلي الوجود. ومن قبيل هذا التاريخ المتتابع الحلقات التي أفرخت نتائجه وعياً وطيداً استقر في وجدان المواطن البورسعيدي أهمية تلازم الوجود والمقاومة. ففي العام 1882م بدأت أولي حلقات المقاومة المسلحة لقوات الغزو البريطاني وفي العام 1919م أمد الشعب البورسعيدي هذه الثورة برافد من الدعم المقاوم، وفي العام 1951م تحول الشعب البورسعيدي إلي جمرة متقدة في تيار المقاومة التي اندلعت علي امتداد منطقة قناة السويس. هذه المقاومة أسهمت في التعجيل بجلاء جيوش الاحتلال البريطاني عن مصر. ثم كانت أروع وأشرس عمليات المقاومة في العدوان الثلاثي علي مصر في العام 1956م بحيث صار من المتعذر ذكر تاريخ المقاومة في مصر دون الحديث عما أضافته بورسعيد إليه من بطولات ومآثر مبهرة. جاءت ثورة 23 يوليو 1952م ثم ثورة 25 يناير 2011م اللتان وقفت منهما بورسعيد موقفاً لا يمكن الإغضاء من شأنه.