الشعر- دائما- ماينحاز إلي الوجع الإنساني فيأتي معبرا عن العذابات الداخلية والخارجية عبر لغة مقطرة ومصفاة، ودائما كان الشعراء مرتبطين بقضايا الوطن، مشاركين وفاعلين في أحداثه المهمة، لذلك- عادة- ما كانت تترصدهم أعين الرقابة والأجهزة الأمنية، فتلاحق الناشطين سياسيا منهم اينما ذهبوا واينما حلوا. ويأتي كتاب »هديل اليمام وراء القضبان« والصادر عن مركز البحوث العربية والإفريقية والذي أعده الشاعر سمير عبدالباقي وقدم له د. هشام السلاموني ليرصد ماكتبه الشعراء والمفكرين من أشعار داخل السجون والمعتقلات السياسية. وتأتي أهمية هذا الكتاب أن الأشعار التي بداخله كتبت في الفترة ما بين 6491 وحتي عام 5691- وهي من أهم مراحل النضال الوطني، وكذلك لمضمون هذه القصائد ومغزاها، وقد تخلقت وراء قضبان السجون من المعاناة والاصرار أملا في غد افضل يعيش فيه الوطن والناس متمتعين بالعدل والحرية. وهذا ما يؤكده د. هشام السلاموني- في مقدمته، لأنه لايعد وثيقة ادبية فحسب، بل إنه وثيقة اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية فمعظم من كتبوا القصائد التي يضمها الكتاب لم يكملوا المضي في طريق الشعر بعد خروجهم من السجن والمعتقلات. ويري السلاموني أنه إذا كان مقبولاو منطقيا أن يعادي العهد الملكي الشيوعيين، وهو يكرس للإقطاع، ويؤسس لتحول بعض أفراد البرجوازية والزراعية إلي اسلوب الإنتاج الرأسمالي مستبدلين استغلال للانسان باستغلال للإنسان، فإنه من غير المقبول أن يعادي العهد الثوري حلفاءه، ومؤيدي خطواته، والداعين إلي إطلاق طاقات الجماهير، وتنظيمها، لتستطيع الحفاظ علي المنجزات الثورية، وعلي استمراريتها، والدفاع عنها، ومواجهة الزائفين والمتآمرين اللابسين- كذبا ونفاقا وتزلقا وانتهازية -مسمومة- مسوح الثورة والتحرر الوطني والاشتراكية. ويضيف السلاموني قائلا: »اخطأ عبدالناصر حين استبعد نصف المرشحين في انتخابات الاتحاد القومي عام 8591، حين بدا وكأنما يريد ان يستمر بالثورة دون ثوريين، مثلما بدا بعدها كمن يريد ان يبني الاشتراكية بغير الاشتركيين. وسوف يقرر التاريخ أن الفترة منذ انتخابات الاتحاد القومي 8591، وحتي نكسة يونيو 7691، التي لانزال نعاني آثارها حتي اليوم، كانت المرتع والمرعي الخصيب، الذي نمت وتوالدت فيه قوي الرجعية والانتهازية في المجتمع المصري، بعد ان خلت الساحة من اعدائهم العارفين، وبعد ان ارهب القبض علي الشيوعيين جميع أصحاب الرأي الثوري الحر، في كل مكان من أرض الوطن، وفي كل مجال من نشاطاته التنموية المجهضة. وتتصدر الكتاب قصيدة »أغنية برمهات« للشاعر الراحل صلاح جاهين، مع العلم أن »جاهين« لم يذق مرارة السجن والاعتقال والتعذيب لكن قصيدته الخالدة- علي حد تعبير د. هشام السلاموني- تقطر حزنا ومرارة وآلاما ودما وجهها إلي رفاقه في معتقل الواحات، وكان فيها يظهر مرارة أشد - وهي مرارة من يعاني سجن الروح، واعتقال الأمل، واحباطات الحلم الجميل، وعذاب الخرس المفروض علي المخلصين من أبناء الشعب المصري، وقيود الاغتراب عن الفعل الثوري، وهي أمور شديدة القسوة«، وهذا ما تدلنا عليه كلمات القصيدة التي يقول فيها: ياقلبي لما تروح.. ما تروحش لابلبل ولاوطواط.. روح زي ما أنت قلب له ألف عين.. وألف ودن وألف ألف لسان.. ولو في شهر القهر طوبة الجبان.. اسمع وشوف: الهم طالع منين.. ياقلبي يامليان.. قول للي في البيت الصفيح: افتحوا صاحبكم الغايب رجع.. صحصحوا صاحبكم اتلطم كتير.. اصفحوا.. يا ساكنين الصفيح.. استبشروا وافرحوا.. أنا مانيش المسيح.. عشان أقول لكم غلبكم.. لكني باحلف بكم.. باحلف لكم وباقول.. الدنيا كدب في كدب وانتو بصحيح فقد كان »صلاح جاهين« بقصيدته هذه يعبر عن خوفه علي الثورة، حيث رأي الزيف يمشي في دروب الثورة علي قدمين وأن خوف المعتقلين السياسيين في الواحات عليها كان صحيحا وذلك في قوله »الدنيا كدب في كدب وانتو بصحيح«. ولعل الفترة من 9591 وحتي 7691 كانت من أشرس الفترات التي تم فيها اعتقال أصحاب الرأي وأصحاب التوجهات السياسية المعارضة، ولم يكن المعتقل مجرد سجن عادي بل اشتهر بوحشية التعذيب الجسماني والنفسي، بما يفوق طاقة النفس البشرية علي الاحتمال، وقد مات عدد غير قليل من شدة وطأة التعذيب امثال شهدي عطية الشافعي وغيره. ولعل قصيدة الشاعر محسن الخياط المعنونة ب»مستقتلين« تشير إلي العزيمة التي تحلي بها المعتقلون في تلك الفترة ومنها: مستقتلون ولا عمرنا نرمي السلاح من يدنا مستموتين نضحك لأيام الجراح اللي ارتوت من دمنا واحنا كده من صنع أوجاع الجياع المحرومين من شعبنا تبور حياتنا ع الطريق ترويها أيام الضنا تطرح هنا لاسفاحين ولاجلادين هيغيروا طعم الكفاح في بقنا طعمه جميل زيك يا نيل وحلاوته تشفي جرحنا ساعة ما تجري ف دمنا من ميتك تشفي العليل ساعة ما أمواجك تميل علي شطنا وينتقد »الخياط« في قصيدته ما آلت إليه الأحوال في مصر من خلال كبت الحريات وسيادة حكم العسكر بعد ثورة يوليو، من خلال لغة رمزية اشارية: اشهد يانيل إنك بتجري سلسبيل لكن علي شطك يانيلنا م العطاشي كام قتيل اشهد يانيل انك بتحفر بالضوافر في الصحاري لجل ما تخلق نهار لكن وقت ما ييجي يوصل للحواري يبقي ليل اشهد يانيل إنك دوا لكن دواك بينا وبينه ألف ميل ومن بين من كتبوا بعض القصائد في معتقل الواحات المفكر الراحل محمود امين العالم والذي بدأ حياته شاعرا حيث اصدر ديوانين من الشعر قبل ان يتجه الي الفلسفة والعمل النقدي، ومن قصائده في الواحات »طفلتان«، و»التحدي«، و»حكاية مستحيلة« و»عتاب« و»الجنين« و»قراءة لجدران زنزانة« ومنها: أغلق في وجهي الباب ووجدتني.. أقبع في قاع زنزانة مكفهرة صدئة.. استقبلتني في البدء بالتحفظ، بالصمت، بالهزال ثم فاجأتني.. ثرثارة ممتلئة كأنما اخذت فترة- تتفرس في ملامحي تقرأ في حقيقتي الظاهرة المختبئة والقصيدة تقوم في بنائها علي ما يسمي ب»أسننة الأشياء« وعلي قيمة المحاورة من المتحرك والثابت، بين النابض بالحياة وهو »المسجون« والساكن وهو »جدران الزنزانة«، ولذلك نراه في مقطع اخر يعلن ان الحياة المتمثلة في الانسان اقوي من اي شيء ومن وطأة المعتقل وجبروت السجان، يقول »العالم« في قصيدته: عذرا.. إن قسوت.. ما أنا الإ قاريء للحياة في زنزانة خبيئة مستقرئة وإن أكن احترم الإنسان أيا كان يحضر في الجدران. ضعفه أو مبادئه والمجد للإنسان يستحضر المطلق الشامل في زنزانة حياة محدودة متجزئة وأخذت انصت للجدران ابصر غائبين أتقرأهم.. بلمسة مستشفة متنبئة من ذلك الصارخ في الجدران باسمها.. بجسمها مرفقا حروفه، مرفقا شواطئه مفجرا عطر الأنوثة. موقظا أسرارها في جثة الزنزانة الدميمة المتهرئة أما الشاعر والروائي عبدالرحمن الشرقاوي والذي ذاق ويلات السجون منذ منتصف الاربعينيات فيصف في قصيدته »أشواق« والتي كتبها عام 7491 في سجن الأجانب، حال السجين وآلامه وتشوقه إلي رؤية العالم، من خلال سيادة الحرية واحترام المواطن، وسيادة القانون، فمثله مثل الطائر الموضوع في قفص ويريد الخروج منه بفارغ الصبر: يقول الشرقاوي في قصيدته: سجين سجين حزين سجين حزين عميق الأنين مشوق إلي العالم الخارجي ولكنه صابر لايلين يلح به الشوق حتي الجنون وإن كان أحبابه في السجون! تطوف به سمات الحياة محملة بعبير حنون ويرعشه خافق في الضلوع جموح الخيال شريد الظنون وحلم الحياة الذي يرتجي يعاوده بين حين وحين وهذا ما يؤكده- أيضا- الشاعر عبدالرحمن الخميسي في قصيدته »من الغربة« التي يشير فيها إلي أن المعتقلين من أصحاب الرأي يملكون الرؤية الحقيقية للمستقبل فما يكتبونه هو بداية الأمل وبداية الحياة، رغم ما يفعله المستبدون والطغاة: كسروا يراعي ولكني حفرت علي جدران مصر اناشيدي بأظفاري دمي هنالك مكتوب، وإن طمسوا حروفه أج في الظلماء كالنار.