الحضور الصريح لشخصية الرئيس في العالم الروائي نادر، ثانوي، وعبر حاجز ما الذي يمكن أن تفعله شخصية "رئيس دولة" في رواية؟! يمكنها أن تخوض صراعا في مواجهة خصوم سياسيين أو أزمات اجتماعية طارئة، وأن تتعرض كسائر البشر لاختبارات الرفض والخيانة والفشل والفقد، يمكنها أن تخسر في المواجهة كل شيء بداية من نفسها، ويمكنها أن تضحي بأي شيء انتصارا لقيمة أو مبدأ، لكن.. هذا في أميركا! أما هنا، فلا يوجد في الرواية المصرية دور صريح لرئيس الدولة. الحضور الصريح لشخصية الرئيس في العالم الروائي نادر، ثانوي، وعبر حاجز. هناك مسافة ما، ودرجات شاسعة من الانفصال، تعوق الرئيس عن التفاعل الإنساني المباشر مع كائنات هذا العالم وأحداثه. قد تراه الشخصيات في الحلم، التليفزيون، موكب عابر، صورة علي جدار أو بجريدة. وقد تستمع إلي خطابه، تعلق بحذر علي سياسته، تكتب إليه شكوي، وتتلقي منه برقية عزاء. الحضور غير الصريح هو الغالب، من خلال شخصية نمطية إلي حد ما، تؤثر بقوة في تشكيل مسارات وعي ومصائر، وتثير الحيرة بغموضها وتقلبها علي جانبي العدل والاستبداد. تم توظيف هذه الشخصية في عوالم روائية واقعية، ومتخيلة، وتاريخية، عن طريق استدعاء خطابها المتناقض (في الصيف السابع والستين، إبراهيم عبد المجيد)، وآثار سياستها المختلة (يحدث في مصر الآن، يوسف القعيد. لا أحد، سليمان فياض)، ومظاهر استبدادها (شيء من الخوف، ثروت أباظة. الكرنك، نجيب محفوظ. وراء الشمس، حسن محسب. الأسوار، محمد جبريل)، وعدلها المجروح بالخديعة والنفاق (الزيني بركات، جمال الغيطاني. الهؤلاء، مجيد طوبيا). شخصية الرئيس كامنة في خلفية هذه الروايات، وكثير غيرها، علي قمة هرم من اللصوص والمنافقين والعسس، تجري من تحته أنهار الفساد والقمع. يحميها الحب أحيانا، والخوف في أكثر الأحيان، من الاتهام الصريح، لكنها مُدانة في كل السياقات التي كشفت اضطراب نسق القيم، والشخصية القومية، ومنظومة القوي الاجتماعية في مصر، منذ أواخر الستينات... "انظر.. في البدء كذب الدياجم.. ثم الملاك والتجار.. ثم الساسة والمثقفون.. انظر: ففسدت الرعية وعم الفساد بأرجاء البلاد". تختزل رواية "الهؤلاء"-كمثال- أغلب التصورات المحيطة بشخصية الدياجم أو الرؤساء في الرواية المصرية، وأغلب التقنيات المستخدمة في تأسيس عالم مواز، يدور الزمن فيه للوراء، تتحرك فيه شخصيات ضاغطة ومضغوطة، تسوده حالات من التوتر الفردي يتم تطويرها إلي مستوي جماعي، وقلق حول المصير يتشكل في صور ورموز تستوعب ردود الأفعال، وتبدو معادلات لانفعالات يثيرها الواقع وتفسيرا لهذا الواقع في آن واحد. هناك طاقة مأسوية تغلف الصور والرموز، وهناك محاولات متفاوتة لتكثيف هذه الطاقة في أشعة أمل، وحياة أخري ممكنة للفرد المحاصر بأكاذيب الإعلام المضلل، المطارد والمتهم بغير جريمة، والمطالب دوما بإثبات براءته. رئيس الدولة في الواقع رمز، لإرادة شعب وقيمه وقوته أو ضعفه. وهو رمز مُضاعف في الرواية لكل راعٍٍ مستبد أو مخدوع، تستره أقنعة الأب، العمدة، الوالي، الإمام، إلخ. وتكشفه حركة مجتمع مسروق، مضطهد ومُغيب الوعي، الحقوق الأساسية فيه أحلام، ومجرد العيش فيه علي حد الكفاف معجزة تُمارس- بتعبير نجيب محفوظ- في غفلة من المؤمنين.