منذ لاحظ رجب أفندي مدرس الرسم غياب قدرتي علي التخيل، لا أتصور الشخص ولا الحدث ولا المعني، لا أضعه في غير الإطار الذي حددته الكلمات، عنيت بتدريب قدرتي علي التخيل، أتصور، أضيف، أحذف، أشكل الصورة كما أتخيلها، تثيرني التشبيهات في التعبيرات، تروقني، أتأملها، أتخيل المعني، أحاول تجسيدها، أرسم لها في مخيلتي ملامح وتصرفات تعطي التشبيه صورته الحقيقية، أجعل التشبيه صورة بصرية تطالع عيني: تتكحل بإبرة وتتخطط بمسمار. زي القنفذ لا ينحضن ولا ينباس. الوش وش الديك والحال ما يرضيك. بصلة المحب خروف. ما يملا عين ابن آدم إلا التراب. العرس بزوبعة والعروسة ضفدعة. إن كان صاحبك عسل ما تلحسوش كله. حبيبك اللي تحب، ولو كان دب. الحيطة لها ودان. زي المنشار، طالع واكل، نازل واكل. الشاطرة تغزل برجل حمار. شال الميه بالغربال. اضرب الأرض تطرح بطيخ. ماشية علي حل شعرها. ركب دماغه. عينيه في وسط راسه. ودن من طين وودن من عجين. كان أبي يصف الأقارب والأصدقاء والجيران بأسماء الطير والحيوان ومخلوقات البحر والنبات والجماد. يصف السحن بأنها لأسد أو حصان أو حمار أو قط وغيرها من التشبيهات، ما يخلقه الذهن، وما سبق أني عرفته، ترهقني بتواليها وكثرتها، تمضي بي إلي أخيلة وتصورات. عرفت في نفسي قدرة علي التصور والتخيل والتجسيد ، ما أستمع إليه لا يقتصر علي معاني الكلمات، أترك لخيالي التصور، يصنع الأشكال التي تعبر عن المعني. ربما تأخذ ملامح الطرافة، أو الجدية، أو القسوة التي تخيفني.قال أبي: كلامك علي راسي. تصورت الكلمات واقفة، أو متراقصة، فوق رأسه. وحين وصف أبي فتاة لا أعرفها بأنها ماشية علي حل شعرها، استعدت لا أدري لم ؟ شجرة أم الشعور التي تتدلي أغصانها في مياه الترعة، أمام بيت جدي في دمنهور. كيف تحل البنت شعرها، وتمشي عليه ؟، وشي صوت أبي بغضب لم أفهم سببه : هل يحب شعر البنت الطويل، فيخشي عليه ، أم يكره طوله، فهو منسدل حول جسدها إلي ما تحت القدمين. وقال أبي إن جارة الشقة الملاصقة جعلت من زوجها خاتماً في إصبعها. تخيلت الرجل خاتماً في إصبع المرأة. وقال لشقيقتي علية يعيب إخفاقها: الشاطرة تغزل برجل حمار. بدت لي صعوبة الغزل برجل الحمار، كيف أمسك بها، وكيف تدور بالخيوط لتصنع شيئاً ؟. وقال أبي: ولا كل من لبس العمة يزينها. غابت بقية المثل في انشغالي بتصور خالي عبد الرءوف، علي رأسه عمامة هائلة، مما يرتديه شيخ الصوفية في الموالد والجلوات. وأرهفت سمعي لتبين زقزقة العصافير في بطن أبي: هل في بطوننا عصافير تزقزق حين نجوع؟ تأملت وصف الولد محسن النكلاوي لي عندما ارتفع صوتي بالغضب أني مثل الثور . تحولت إلي هيئة ، وقوة ، ثور. تراجعت خطوات إلي الوراء ، ثم اندفعت بقرنين تصورتهما في رأسي. صدمته، فسقط متألماً . ويبدو النفاذ من باب الشقة صعباً، إلا بفتح الضلفة علي آخرها، مستحيل تفويت الجمل، كما هتف أبي في خالي عبد الرءوف. ولما وصف أبي جارنا عصام بأنه دودة كتب. رسمت له في مخيلتي دودة هائلة الحجم تتلوي. واستعصي تصور الفم المفتوح عن آخره، ليبتلع مياه المحيط. ولاحظ أبي أن جارنا محسن العصفوري نافش ريشه، عرفت أنه يعيب عليه إهمال التواضع ، والتعالي علي الجيران . حين إلتقيته في ميدان أبو العباس نظرت بعفوية إلي ما حول جسده ، أتوقع ، أتخيل ، رداء الريش الذي يحيط بجسده ، تغيب قامته البشرية ، لتحل بدلاً منها قامة مخلوق آخر ، قد يكون طائراً من تلك التي تأتي في الحكايات القديمة ، وشكا أبي من أنه شايل الهم علي رأسه . تصورت الهم قاعداً فوق رأسه . بدا في حجم الصفائح التي تنقل فيها النسوة مياه الحنفية العمومية. لم أتصور له ملامح محددة ، لكنه بدا مستقراً فوق رأس أبي. ثبتت نظرتي إلي رأس الرجل، تكلم أبي عن العفريت الذي يركب رأسه: هل يختفي داخل الرأس ؟ ومتي يظهر ؟ وهل يدلي العفريت ساقيه من كتفي الرجل ؟ لم أستطع تخيل: كيف أخذ جارنا ماجد سلطان أذن أبي، جعل منها وعاء يأكل فيه. وشي صوت أمي بالاستياء: تركت له أذنك يفتّ فيها. وأخفقت في تصور حجم الثور الذي قال أبي إنه يحمل الأرض فوق قرنيه. وتمعنت في المواضع الظاهرة من جسد جارنا النخيلي، أحاول تبين عرق الهيافة الذي رآه أبي يهرش فيه، وأرهفت السمع لأصوات العصافير في بطن أبي، شكا من زقزقتها بما يحثه علي الأكل. ونظرت بتلقائية إلي مؤخرة أخي، أتصور الذيل الذي تهمه أبي أنه يلعب به، نفضت رأسي عن تصور الذيل، لم أكن رأيته في جسد أخي عند نزولنا البحر . عندما قالت أمي لخالي عيسي وهي تلملم أعواد الملوخية، وتقذف بها في صفيحة الزبالة: أنت زرع بدري .. طويل مثل النخلة، أطلت تأمله، أتبين الفروع والأوراق، والثمار التي قد تتدلي من أذنيه. وتنبهت لقول أمي وهي تدفع أخي عبد العزيز للنوم: نامت عليك حيطة . هو ينام علي السرير المعدني الصغير، لصق الجدار، لو أن الجدار، الحائط، نام عليه، ربما بدا المشهد مضحكاً أو مفزعاً، الجدار أكبر من السرير، فهو سيخفيه، ويختفي أخي تحته، خلا المشهد كما تصورته من النتائج ، اكتفي التصور بسقوط الحائط علي أخي ، نومه عليه ، يغيب أخي تحته تماماً . هددني علي درويش بأن العفاريت ترقص في وجهه، فأعدت النظر إليه، أبحث عن العفاريت المتراقصة. أين موضعها علي وجه التحديد؟ هل تطل من العينين، أو تخرج من فتحتي الأنف، أو من بين الشفتين؟ أو تفاجئني بالقفز من الأذنين إلي الرأس، أو بشرة الوجه؟ وقال الرجل في الترام: إن جالك الهم طوفان حط ابنك تحت رجليك. تصورت ابنه وهو يقف تحت قدميه، والطوفان الهادر يكتسح ما أمامه. وقال لي زميلي ناجي الدكش: أنت مثل الثعبان، تصورت التشبيه، فتألمت . لم أكن رأيت أحداً يفعل ذلك، لكنني تخيلت أنه يحدث أمامي بالفعل. أنا كما تعلم أحرص علي تحريك خيالي بما يجسد الصورة الغائبة. ربما أغمضت عيني لاستدعاء الصور الصعبة، أو المستحيلة، للخيال في الظلمة سرحاته التي لا يحدها قيد، أقلب الصور، أهمل العادي، وألملم الجزئيات، أضيف وأحذف، أرسم التشبيه في مخيلتي بالمعني الذي تعبر عنه الكلمات، وأستكين إليه، أتصور أجساداً وقسمات وسحناً وملامح وتصرفات، لا أعرفها، ولا رأيتها من قبل . ما تقوله أمي يغذي مخيلتي بما يشكل تكويناً، هو التصور الذي أطمئن إليه. تكلم أبي عما نشرته الصحيفة من اعتقالات ومصادرات للعاملين في السياسة. وشي صوته بقلق: ألا تخشي السلطة من أن يعمل هؤلاء الناس تحت الأرض؟ تحت الأرض!.. تأملت التعبير. كيف يعمل الناس تحت الأرض؟ قلت: هل يعيشون تحت الأرض؟ أردفت بعدم تصديق: ألا يهبط الموتي هناك وحدهم ؟ هز أبي رأسه، وقال: عندما تكبر، ستعرف كل شيء! شغلني التصور.. أجوب المدينة، أرقب الطوابق السفلية والبدرومات والأقبية والأنفاق ومواسير المياه النقية، ومواسير الصرف الصحي، ودورات المياه التحتية. أتابع وضع أساس البنايات، حفر الشوارع في عمليات إصلاح المياه والمجاري، ومد خطوط الكهرباء. أتوقع رؤية بيوت صغيرة، وشوارع قد تكون ضيقة وناس يعملون ضد السلطة، جعلوا كل ما يفعلون تحت الأرض فلا يراهم أحد . قال الرجل : من يعملون تحت الأرض مظلومون، إنهم يتنقلون بين الأوحال ومياه المجاري والقاذورات وكتل الفحم بما يصعب علي الإنسان أن يحيا فيه! أردف في لهجة ملونة: الخطر علي الأرض قد يأتي من البراكين المنبعثة من الأعماق. تثور، فتجرف الحمم النارية ما أمامها، تغرق كل شيء. وأنا أعبر الطريق من أول شارع الجلاء في طريقي إلي وسط البلد، ترامي زعيق ونداءات وهتافات. اجتذبني تصاعد الناس من سلم مترو الأنفاق، تدفقهم، أعداد من الناس لم أكن رأيتهم من قبل. خرجوا من باطن الأرض، توزعوا في جوانب الميدان، وفي الشوارع الواسعة المتقاطعة . أطلت الوقفة أمام سلم المترو، يصعد منه الآلاف، وينزلون فيه. ظل التدفق علي حاله، حتي امتلأ الميدان وما حوله من الشوارع، لم يعد إلا الأجساد المتلاصقة، والرءوس، والهتافات، والشعارات، والقبضات الملوحة. دفعني الزحام في طريقه، صرت جزءاً من تلاحم الأجساد والرءوس والأصوات التي صنعت بامتزاجها ما يشبه صخب الأمواج. أعادتني الهتافات إلي أيام قرأت عنها وشاهدتها. نسيت ما كنت أنوي الذهاب إليه، تحولت إلي قطرة في الأمواج المتلاحقة . يصعب تصور القبو موضعاً للقراءة والمسامرة والترفيه، ولعقد الجلسات المستترة. أعرف أن الأقبية لتخزين الأطعمة والمشروبات، حتي تكتسب مذاق القدم كما في الأديرة، أو للاستجوابات التي قد تلجأ إلي انتزاع البوح. قرأت عن أقبية التعذيب منذ العصور القديمة إلي أيامنا الحالية، عن درب قرمز، القبو الصغير الواصل بين شوارع الجمالية، كتب نجيب محفوظ عن اقتران طفولته بالوقائع داخل القبو والأشباح والجان وتوقعات الغدر والمكائد، وعن أنفاق تهريب السلاح والطعام تفادياً للحصار. الانفجارات علي شاشة التليفزيون، فسرها المذيع بأن الفلسطينيين يستخدمونها لنقل الطعام والدواء والسلاح، تحت الأرض هو المعني الذي تحمله، وضعت همي في المتابعة. هبطت داخل الأنفاق والبدرومات والأقبية. التقيت ناساً لم أكن التقيتهم من قبل. تبادلنا الأسئلة والمناقشات والقراءات وإبداء الملاحظات، همست أصواتنا بالآراء، نحاذر الآذان المتنصتة، صنعنا رؤي وتصورات معنا أن نحتفظ بما سجلناه، ننتظر الفرصة المناسبة، نصعد فوق الأرض، فنعلنه.