في خطبته أمام مجلس الشعب الجديد المطعون في عضوية أكثر من 182 عضو من أعضائه. وأمام شاشة التلفزيون حينما هتف أحد مزوري الانتخابات وقال له: "المعارضة عايزين يعملوا برلمان موازي يا ريس". تبسم الريس ورمي الأفيه الشهير "خليهم يتسلوا". وبالفعل كانت المعارضة والشباب وكل من أقصاهم النظام من العملية السياسية يتسلون علي الفضاء الوحيد الذي تركه الرئيس ومجلسه المزور لهم.. الانترنت. منذ 2004 كان الانترنت هو الفضاء الوحيد المتاح أمام ملايين الشباب للتعبير وللحلم بالتغيير. ومن البداية كانت المطالب متدرجة منذ عصر "كفاية" ظلم، "كفاية" فساد، "كفاية" تزوير. يوم بعد يوم كانت هذه المطالب تنمو دون أي استجابة من القيادات السياسية الحاكمة والمسيطرة علي النظام السياسي، وكانت مصطلحات "الولاد علي النت" و "العيال علي الفيسبوك" تتردد علي شفاه المسئولين كأن النقاشات والشكاوي والتجمعات والحركات الاحتجاجية التي تنمو علي الإنترنت تدور في كوكب آخر، أو فيلم تلفزيوني يشاهدونه من بعيد، وكما قال رأس النظام "سيبوهم يتسلوا". كل الحركات السياسية التي نمت علي الإنترنت كانت تجمعها المطالبة بالتغيير دون اتفاق أو تصور محدد عن نوعية التغيير المطلوب. بالطبع كان الجميع يطالب بتغيير طريقة تعامل رجال الشرطة، بالتوقف عن التعذيب في أقسام الشرطة. بانتخابات نزيهة تحت إشراف القضاء دون عصابات للبلطجية. حاول مستخدمو الانترنت تنظيم أنفسهم باستخدام الشبكات الاجتماعية بداية من الفيسبوك وحتي تويتر، حاولوا التحرك دائماً من أجل قضايا صغيرة يخرجون منها أحياناً بانتصارات صغيرة، وكثيراً بيأس وإحباط الهزيمة. من الإنترنت خرجت للمرة الأولي فيديوهات التعذيب التي كشفت مدي الظلم والمهانة التي يعانيها المصريون، لكن الكثير من تلك القضايا لم يتم التحقيق فيها حتي الآن، وحتي مقتل الشاب خالد سعيد الذي تدعي الشرطة أنه مات بسبب ابتلاعه لفافة بانجو لا يزال دمه معلقاً. علي الإنترنت كانت المجموعات تكبر كل يوم. المدونات التي بدأت في 2005 وعددها لا يتجاوز خمسة آلاف، أصبح من الصعب وشبه مستحيل إحصاؤها. وجروب "نعم للحد الأدني للأجور" علي الفيسبوك الذي وصل عدد أعضائه إلي بضعة آلاف، ظهر بعده جروب "كلنا خالد سعيد" الذي تجاوز عدد أعضائه ربع المليون. المرجل يغلي، والرئيس مع أعضائه المطعون في شرعيتهم وجهازه الإعلامي الذي يخسر المليارات يسخر من الجميع، في النهاية "دول عيال ع النت".
ولدت الدعوة ليوم 25 يناير علي الفيسبوك، لم تكن "جروب" أو مجموعة، بل حدث Event متاح لمستخدمي الفيسبوك أن يختاروا ما بين الحضور، الاعتذار عن الدعوة، أو إمكانية الحضور. وحتي اللحظات الأخيرة ليوم 25 يناير لم يكن عدد من أكدوا حضورهم يتجاوز المائة ألف. لم يكن هؤلاء أعضاء في أحزاب أو جماعات سياسية عاشت لسنوات علي فتات طعام الذي يلقيه لها الحزب الوطني، كانوا في الجزء الأكبر مجموعة متنوعة من الشباب لم تعد راضية عن الأوضاع، خرجت لتعلن رفضها للظلم والمعاملة المهينة من قبل رجال الشرطة. الشعارات في مظاهرات 25 يناير كانت موجه بالأساس نحو وزير الداخلية السابق، وأعوانه من رجال أمن الدولة، تجمع المتظاهرون في التحرير، وخرجت المظاهرات من محافظات متفرقة، ومن مناطق جغرافية غير متوقعة داخل القاهرة، وعند الليل كانت قوات الأمن بدأت في إلقاء قنابل الغاز المسيلة للدموع، وكانت هتافات المتظاهرون ترتفع. أما أول مفاجآت اليوم فهي قطع شبكات المحمول عن ميدان التحرير. توالت المظاهرات، وبدأ النظام يغلق جدياً من "عيال الانترنت". في مساء الخميس كان الانترنت وشبكات المحمول في مصر أشياء تنتمي للماضي، لا انترنت، لا تليفون يرن ولا أحد يجري اتصالاً. كانت هذه مؤشرات قوية علي أن النظام ينوي أن يكون يوم الجمعة مجزرة قوية وفريدة من نوعها بعيداً عن كل وسائل الاتصال.
تدرج النظام في ممارسة الرقابة علي الإنترنت، بإغلاق موقع "تويتر" و"فيسبوك" وصولا إلي حرمان مصر بأكملها من الانترنت. وكان الفيسبوك أول المواقع الإلكترونية التي أعلنت أنها لاحظت انخفاضاً كبيراً في عدد زوارها من مصر، واتهمت الحكومة المصرية بوقف استخدام الموقع الذي يستخدمه النشطاء لتنسيق المظاهرات والفعاليات وتجميع الشباب المتظاهرين. كان النظام ولأول مرة يفتح جبهة حرب جديدة علي الإنترنت، وكان الرد من قبل عدد كبير من مجموعات "الهاكرز" وعلي رأسها منظمة "الهاكرز المجهولين" التي وجهت انذراً مباشراً للنظام المصري بوقف حجب المواقع في مصر والتنكيل بالمتظاهرين وإلا ستعرض نفسها لهجمات الهاكرز علي المواقع الرسمية التابعة للنظام المصري. وعلي ما يبدو فقد اكتشاف رجال أمن النظام عدم قدرتهم علي الدخول في معركة من هذا النوع. لهذا كان قرار الغلق. لكن مواقع وشركات الإنترنت الكبري والتي عملت لسنوات طويلة علي خلق وبناء منابر الحوار والتعبير لجميع مستخدمي الانترنت في العالم ومن ضمنهم المصريين لم تكن راضية عن موقف الحكومة، ولأول مرة تعاون اثنان من عملاقة الانترنت. شركة جوجل، وموقع تويتر، لابتكار خدمة جديدة مخصصة للمستخدمين في مصر، بموجبها يمكن لأي مصري تحت الحصار الإلكتروني أن يتصل برقم معلن ويقوم بتسجيل رسالته صوتياً لتوصيلها لكل العالم. كانت جوجل إحدي شركات الإنترنت التي تورطت بشكل غير مباشر في الأحداث. فمنذ بداية الأحداث فقد جوجل واحد من أكفأ وأمهر موظفيها "وائل غنيم" الذي اختفي في ظروف غامضة بعد مشاركته في مظاهرات 25 يناير، ليصبح "وائل" واحداً من أيقونات الثورة المصرية، حيث ولد وائل عام 1980 وقضي الجزء الأكبر من طفولته في (الإمارات) حتي عاد إلي مصر في المرحلة الجامعية وحصل علي شهادة البكالوريوس في هندسة الحاسبات من كلية الهندسة بجامعة القاهرة عام 2004، ثم حصل علي شهادة الماجستير في إدارة الأعمال بامتياز من الجامعة الأمريكيةبالقاهرة عام 2007. شارك وائل في إطلاق وتطوير عدد من المواقع وخدمات الانترنت العربية، عمل بشركة Gawab.com لخدمات البريد الإلكتروني والتي وصل عدد مشتركيها إلي أكثر من خمسة ملايين مشترك بالعالم العربي، كما عمل كمستشار للعديد من المشاريع مثل مشروع تطوير بوابة الحكومة الإلكترونية بمصر. ثم انضم إلي شركة جوجل في شهر نوفمبر عام 2008 كمدير للتسويق في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لمنتجات Google، وأشرف علي تعريب وتطوير منتجات "جوجل" التي تفيد المستخدم العربي وذلك من خلال العمل مع فريق من المهندسين الذين يجيدون التحدث باللغة العربية. كل هذه الأنشطة والمهام والأعمال جعلته واحداً من أبرز التقنيين المصريين، إلي جانب هذا فهو أحد الفعالين في النقاش السياسي علي تويتر والفيسبوك والداعين لمظاهرات 25 يناير، حيث كان مدير مجموعة "كلنا خالد سعيد" علي الفيسبوك والتي يبلغ عدد أعضائها أكثر من ربع مليون عضو. شركة جوجل نشرت تنويهاً علي موقعها العربي عن اختفاء وائل غنيم حتي الآن وطالبت من يعرف أي معلومات عنه بالاتصال علي رقم 00442070313008. اهتمام جوجل إلي جانب عشرات المجموعات علي الفيسبوك التي ظهرت تحت عناوين من نوع "أين وائل غنيم؟" أو "كلنا وائل غنيم" حولت وائل إلي أيقونة من أيقونات الثورة المصرية وعنواناً أساسياً في معظم التقارير الإخبارية المصورة. وحينما طلب من الشباب المعتصمين في التحرير تقديم لجنة أو شخص ما ليتفاوض مع الحكومة الجديدة باسمهم اختار الشباب وائل غنيم.
ظلت مصر لأكثر من خمسة أيام بلا انترنت، حتي ظهور الرئيس في خطابه المؤثر الذي أعلن فيه أنه لن يترشح للرئاسة، لكنه في الوقت ذاته سيموت علي تراب هذه الأرض، بعدها ظهر رئيس الوزراء الجديد في أكثر من حوار تلفزيوني وعندما سألته المذيعة لماذا تم قطع الإنترنت؟ ومتي يعود الإنترنت لمصر؟ قال: الإنترنت قطع لسبب تقني، وسيعود بقرار سياسي. بعد بضعة ساعات. ردت المذيعة: متي تحديداً؟ فقال: ما بين ساعتين إلي 48 ساعة. في نفس اليوم كانت واحدة من شركات المحمول ترسل لمشتركيها رسائل تأييد للرئيس المبارك الذي طالبت الملايين برحيله. ثم تكون المفاجأة مع عودة الإنترنت، مئات الصور لمظاهرات تأييد مبارك، وإعلانات مدفوعة الأجر علي موقع الفيسبوك لدعم الاستقرار وتأييد مبارك. كان النظام يلعب بورقته الأخيرة، ويحاول تحريك جهاز إعلامه الديناصوري للسيطرة علي الإنترنت، وللتغطية علي الصورة الحقيقة لما يجري في مصر. وعلي الجروبات المناهضة للرئيس والداعمة لثورة 25 يناير، كانت تتكرر بعض التعليقات المجهولة التي تصف الثورة وجموع المتظاهرين والشهداء بالمخربين، والتلفزيون المصري بقيادة أنس الفقي يشحن الجماهير ويتحدث عن الخونة والعملاء والشباب المخدوع الذي يتحرك وفق أجندات أجنبية مجهولة مقابل وجبات "الكنتاكي" التي يتم تهريب القنابل عبرها للمتظاهرين. لكن في بضع ساعات استعاد الشباب الإنترنت، ونشرت شركة المحمول العالمية إعلاناً تتبرأ فيه من رسائل تأييد النظام الداخلي وتعلن عن ضغوط سياسية تمت ممارستها علي الشركة من أجل إرسال هذه الرسائل. ثم بدأت الفيديوهات التي توثق لجرائم رجال وزارة الداخلية السابقين في الظهور، عربات أمن تدهس المتظاهرين في شوارع القاهرة، عساكر وضباط يطلقون الرصاص الحي علي شباب أعزل يتظاهر رافعاً لافتة مكتوب عليها "سلمية". من الإنترنت تجد الفيديوهات طريقها نحو القنوات الفضائية العربية والعالمية. في اليوم التالي لخطاب الرئيس العاطفي، يقتحم ميدان التحرير مجموعة من مؤيدي الرئيس يمتطون الخيول والجمال ويدهسون بسنابكها المتظاهرين في قلب ميدان التحرير رمز المدنية والحداثة المصرية. عند هذه النقطة أخذت المعركة بعداً جديداً، لم تعد معركة سياسية بهدف تحقيق تغيير سياسي في النظام الحاكم لسنوات. بل كانت بقليل من المجاز والبلاغة معركة بين شباب الإنترنت والفيسبوك والخيل والجمال، معركة دفاعاً عن الحضارة.