كانت لميا قد صمتت فجأة لتجرع كأسها بهدوء. تنظر إليّ طويلا وكأنها مستاءة، إلا أن حالة الحنق المعتملة داخلي لم تكن تسمح لي بمواساتها، أو الاعتذار لها. أتناول الكتاب الذي كان بيدي قبل دخولها؛ محاولا قراءته للهروب من مرارة الموقف. حالة قصوي من الشتات الذهني تكتنفني فألقي الكتاب جانبا. أتأملها لأري عينيْها المغرورقتيْن بالدموع. أتساءل مندهشا: هل أسأت إليها إلي هذه الدرجة؟ تنساب دموعها الصامتة غزيرة فأنهض مقبلا وجنتيْها. أرشف دموعها المتساقطة مجففا صفحة وجهها التي أعشقها بشفتيّ. أهمس بحب: - لِمَ هذه الدموع؟ صدقيني أنا لم أقصد إيذاءك. ترتمي علي صدري فجأة، وقد أجهشت بالبكاء الذي يهز جسدها بقوة. رعدة هائلة أشعر بها تهزها من أعماقها، بينما صوت نحيبها يتعالي متشنجا متقطعا فأشعر به كنصل السكين يمزقني. أهمس معتذرا: - لميا.. ماذا بك؟ أأسأت إليك إلي هذه الدرجة؟ تعتدل بعد فترة وكأنها أفرغت دموعها تماما لتقول هادئة، بينما صوتها يتقطع بين الفينة والأخري علي شهقات متباعدة نتيجة نحيبها الشديد: - أنت لم تسئْ إليّ في شيء. متحيرا: - ولِمَ هذه الدموع إذن؟ مترددة وكأنها ستفضي إليّ بقنبلة ستحولني إلي شظايا: - ألم تعلم بما حدث في العراق؟ مندهشا: - وهل هناك من جديد؟ تنساب دموعها الصامتة لتقول وقد امتدت أناملها لتجفيفها: - مهانة لا يتخيلها عقل بشري.. حيوانية. تصمت حائرة غير قادرة علي التعبير، وقد أشارت بيدها في الهواء محركة رأسها؛ دلالة أنها تعييها الحيلة عن الوصف. تستطرد: - ماذا أستطيع أن أقول لك؟ إن الكلمات عاجزة عن الوصف. لست أمتلك القدرة علي التعبير. ضائقا وقد انتابني التوتر: - اهدئي قليلا وأفضي إليّ بالأمر كيفما اتفق، عبري عما تريدين إخباري به بأي أسلوب تستطيعينه. ترفع خصلة من شعرها كانت قد انسدلت علي عينيْها قائلة: - حسنا، ولكن لا تقاطعني من فضلك، وإلا لن أستطيع المواصلة. أشير لها برأسي موافقا، بينما الانتظار ينهشني. تقول مندفعة وكأنها تخشي إذا ما توقفت ألا تستطيع معاودة الحديث مرة أخري: - إنهم يعذبون المعتقلين في سجون العراق بإبقائهم عراة تماما طوال الوقت، معرضين إياهم لعوامل الطقس المختلفة من سخونة لاهبة وبرودة مجمدة، يرغمونهم علي ممارسة اللواط وإدخال الأعمدة المعدنية في مؤخراتهم، يمارسون أبشع أنواع الجنس الداعر وأحقره مع النساء، يطلقون عليهم الكلاب البوليسية المُدربة لنهشهم أحياء، يلتقطون لهم الصور وأفلام الفيديو في أكثر الأوضاع شذوذا ومهانة للإمعان في تحقيرهم، إنهم.... تصمت فجأة لتجهش باكية. تقول من بين شهقاتها المتباعدة: - لا يمكنك تخيُّل مثل هذه المشاهد البشعة. لقد ظننت نفسي في كابوس رهيب لا يريد أن ينتهي حينما شاهدت هذه الأفعال، إني أشعر برعدة هائلة تهز أعماقي مذ شاهدتها. برودة شديدة تهز أوصالي حتي أني أكاد أن أتجمد. يمتلكني شعور عجيب وكأني أهوي في قرار بئر سحيقة لا نهاية لها. تتمثل أمامي العديد من الوجوه الشائهة. الزعماء العرب بكلماتهم اللزجة وصلفهم، ملامح دينا الجميلة وقد شُوهت فبدت كريهة منفرة، ذو الرأس البيضاوي بكلامه الفارغ. هل وصل الإذلال إلي هذه الدرجة؟ أشعر برعدة شديدة تسري في أوصالي لتهزني بقوة. لا أقوي علي الكلام فأشرد في دوامات بعيدة. (وكان الحاكم بأمر الله يلبس جُبة صوف أبيض، ويركب علي حمار عال أشهب يُسمي القمر، يطوف في أسواق مصر والقاهرة ويباشر حسبة البلد بنفسه، وكان معه عبد أسود طويل عريض يمشي في ركابه يُقال له مسعود، فإذا وجد أحدا من السوقة غش في بضاعته أمر هذا العبد مسعودا بأن يفعل به الفاحشة العظمي وهي اللواط، فيفعل به علي دكانه والناس ينظرون إليه حتي يفرغ من ذلك، والحاكم واقف علي رأسه). (الهدف من ذلك تحويل الإنسان إلي كائن دون إرادة، إذا ما كان قادرا علي التحرك، فهو يتحرك كالآلة، وإذا ما عجز ليسقط فهو غير قادر علي الإتيان بأي حركة أو انفعال، يمكنك أن تطأ جسده فلا تهتز له شعرة؛ لأن شيئا في الحياة لم يعد له قيمة، لا اعتراض، لا صرخة، لا ألم، رجال دون انفعال أو فكر، أجساد من دون أرواح). هل هذا ممكن؟ أنظر إلي لميا التي مازالت تنشج ببكائها. أتساءل ذاهلا: - أين رأيت مثل هذه الصور التي تتحدثين عنها؟ - أذاعتها جميع محطات العالم الفضائية منذ ساعات. أوووه.. لا يمكنك أن تتخيلها. أطرق لحظة وقد شعرت بألم شديد يكاد أن يطحن عظامي لا يلبث أن يتركز في رأسي. أجذبها فجأة إلي جهاز الكمبيوتر الملقي في أحد الأركان وسط ركام الكتب وزجاجات النبيذ. أديره لأنتظر بدء عمله واتصاله بشبكة الإنترنت راغبا في تحطيمه نظرا إلي الوقت الذي يستغرقه لإتمام عمله. أشعر بالوقت يمر متباطئا ساكنا فأكاد أن أنفجر. أقول لها لاهثا من أثر الانفعال: - ألا تعرفين مصدر تسرب هذه الأخبار؟ - إنها صحيفة الديلي ميرور البريطانية والواشنطن بوست الأمريكية. أسارع بالدخول علي موقعيهما لأتصلب أمام الجهاز؛ وكأني أحد التماثيل الفرعونية. أتأمل الصور التي يتتالي تحميلها وقد اتسعت عيناي عن آخرهما، بينما سقط فكي الأسفل ببلاهة غير مصدق. أتوقف طويلا أمام إحدي الصور. كانت تُشكل ممرا طويلا واسعا لأحد ممرات سجن "أبو غريب"، وقد أطل علي جانبيّ الممر العديد من أبواب الزنازين الكثيرة، بينما يوجد في عمق الصورة تماما العشرات من العراقيين الذكور وقد عُروا تماما من ملابسهم. أتأمل عشرات الأجساد المكدسة فوق بعضها البعض وكأنها كومة من النفايات، بينما تم توثيق أرجلهم إلي أيدي الآخرين. كان المشهد يبدو حقيرا وقد أحاطت بهم مجموعة من الجنود الأمريكان ليشير أحدهم بعلامة النصر، وقد علت وجهه بسمة فيها من اللذة السادية مالا يمكن تخيله، بينما آخر ينظر إليهم باحتقار شديد. أحرك الصفحة إلي الأسفل ذاهلا لأري الصورة ذاتها تقريبا وقد ركعت خلفهم إحدي المجندات الأمريكيات متخذة من أجسادهم العارية المكدسة حائطا ترتكز عليه، بينما يقف خلفها زميلها ممارسا معها الجنس من الخلف. يا ربي.. إنهم يمارسون اللذة علي أجسادنا المهانة. يذكرني مشهد المجندة الحقيرة بتلك الأوضاع الشاذة التي يحلو لدينا ممارستها معي؛ فأشعر باحتقار شديد تجاهها، وتجاه حضارتها الداعرة. أفيق منتبها علي إحدي الصور المأخوذة من أعلي فتنتابني الدهشة القصوي. أهمس للميا غير واعٍ: - انتبهي لهذه اللقطة جيدا. هل تصدقينها؟ تقول مأخوذة: - يا للدعارة.. أيصورون فيلما من أفلام البورنو؟ - بالتأكيد.. إنها لقطة من أعلي، تلك التي نطلق عليها في مجالنا السينمائي لقطة عين الطائر. - هل تعتقد أنهم يستغلون ذلك الوضع المهين لتصوير أفلام بورنو، ومن ثم بيعها للشركات العالمية المختصة بالأفلام الجنسية؟ - ربما؛ فزاوية الكاميرا المأخوذ بها الكادر، وفنيته العالية تدلان علي ذلك. إني لا أستبعد أن تنتشر بعد فترة وجيزة العديد من هذه الأفلام المأخوذة لهذه المواقف التعذيبية في جميع دول العالم باعتبارها أفلام بورنو جديدة. تخيلي الآلاف، بل الملايين من الشباب الذين يضجون بالشهوة وهم يشاهدون مثل هذه الأفلام بالرغم من العذاب الذي يشعر به هؤلاء التعساء. أتأمل الصورة عن كثب، وقد اقتربت بوجهي كثيرا من شاشة الكمبيوتر. كانت تُصور إحدي الطرقات الطويلة وقد بدت علي أحد جانبيْها الأبواب الحديدية للعديد من الزنازين المكدسة بالبشر. أري العديد من الجنود الأمريكيين المتفرقين في الممر، بينما أحاط ثلاثة منهم ثلاثة من الرجال العراقيين المجردين تماما من ملابسهم، وقد تم ربط أرجلهم وأيديهم إلي بعضهم البعض. أحاول الوصول إلي فحوي الصورة مدققا البصر؛ فتنتابني رعشة شديدة حينما أدرك فحواها. كانوا قد قيدوا الرجال الثلاثة إلي بعضهم البعض ملقين إياهم علي الأرض الحجرية، بينما ظهورهم متواجهة. كان الرجل الذي في المنتصف كالعاشق والمعشوق بين الرجليْن، وقد انغرس ذكر الذي خلفه في دبره؛ لينغرس هو بدوره في دبر المواجه له. كان الجنود الأمريكيون الثلاثة قد وقف أحدهم واضعا يديْه في وسطه متأملا، بينما يميل الآخران علي الرجال المُنتهكين ليحاول أحدهم تعديل الوضع الشاذ تبعا لمخيلته المريضة. أنتبه إلي لميا التي تسيل دموعها علي وجنتيْها، واضعة كفها علي بطنها، ضاغطة إياها بألم، ثم لم تلبث أن اندفعت من فمها نافورة شديدة من القيء ذي الرائحة الخمرية. أحاول مساعدتها غير مدرك لما يجب عليّ فعله، إلا أن جسدها المُهتز بعنف ليطرد كميات الخمر الزاخرة، كان مرتعشا منفلتا بين كفيّ. تهدأ بعد فترة لتقول آسفة: - عذرا ولكن..... أشير لها أن تصمت. أستمر في إنزال الصفحة المكدسة بالصور، غير ملتفت إلي القيء الغزير الذي انساب منها ليعبق المكان برائحة الخمر. تقع عيناي علي أحد العراقيين العراة، وقد انزوي علي نفسه في أحد الأركان في حالة رعب تام، بينما وقف بالقرب منه جنديان أمريكيان بيدهم كلبان من الكلاب البوليسية المدربة. كان يقف بينهم قائدهم الذي يشير إلي الرجل المذعور، وكأنه يوجههم إلي ما يجب عليهم فعله. بعدها مباشرة كانت الصورة ذاتها للرجل نفسه وقد انسال من جسده المملوء بالجروح الدم الغزير بعد أن نهشته الكلاب المدربة. أتأمل مشهد إحدي المجندات وقد ربطت أحد الرجال العراة علي الأرض بطوق من أطواق الكلاب لتجره ساحلة له علي الأرض. أتوه في دواماتي الخاصة بعيدا وكأني في غيبوبة كابوسية طويلة. مقطع من رواية تصدر قريبا عن دار الياسمين