أتاح لي حضور مهرجان الدوحة ترايبكا السينمائي مشاهدة عدد من الأفلام العربية المثيرة للاهتمام. كان أولها بلاشك الفيلم الذي اختاره المهرجان للافتاح. وهو فيلم المخرج الجزائري رشيد بوشارب (خارج القانون) ومن البداية فإن العنوان ذاته، وهو عتبة التلقي الأولي يلفت نظر المشاهد لخروجه علي القانون، لا الخروج الظاهري علي القانون الوضعي الجائر الذي لاقانونية فيه فحسب، ولكن الخروج علي القانون بالمعني الأوسع والأشمل للكلمة، قانون العادة والمألوف في الممارسة الفنية والرؤية الفكرية علي السواء، والذي يوشك أن يكون نغمة القرار في هذا الفيلم. الخروج علي قانون السينما الجزائرية التي تمت فيها أسطرة المجاهد، أي تحويله إلي أسطورة، وأسطرة علمية الكفاح الجزائري من أجل الاستقلال؟ فجاء هذا الفيلم ليرد للمجاهد عاديته وإنسانيته وزخمه. أم هو الخروج علي قوانين السينما العربية التجارية عامة، في الوقت الذي يبدو فيه أنه يستجيب لها بأنتاج فيلم فيه الكثير من بهاراتها وأيقاعاتها التشويقية، ولكنه مترع بالرؤي العميقة الكاشفة والاستبصارات المضيئة. أم تراه الخروج علي قانون المستعمر الفرنسي الجائر الذي انتزع الأرض من أصحابها فثارو، في زمن تنتزع فيه الآن الأرض في مصر وفي فلسطين معا من أصحابها، فلا يثور أحد، لأن الثائر أصبح يوصم بالإرهاب؟ وهو بداية حريص علي أن يكشف عن متغيرات آليات الممارسات الاستعمارية التي أصبحت تستخدم ابن البلد في تنفيذ ما تترفع الآلة الاستعمارية عن إرتكابه، فسلطة الحاكم الاستعماري يمثلها في مشهد الفيلم الافتتاحي عمدة جزائري هو الذي يمارس القهر والطرد، فنحن في الزمن الذي يقوم به الحاكم المحلي بأعمال المستعمر القذرة، وبلا أي خجل. لكن أبرز خروجات هذا الفيلم علي القانون هو الخروج علي قانون الإدانة الجماعية لكل أنواع العنف تحت مسمي الإرهاب، والكشف عن أن هناك عنف وطني طاهر ومقدس، وعنف استعماري جائر وشرير، وأن هناك فرق كبير بين فصد الدم وإهداره. يبدأ الفيلم بجزائر مابعد الظهير الفرنسي، وما بعد اكتمال السيطرة علي البلاد، عام 1925 فقد كانت تلك فترة تمكين المستوطنين الفرنسيين، أكثر من مليون فرنسي، من الأرض كي يزرعوها. يبدأ بمشهد الأسرة الريفية البسيطة وسط قفر الجزائر، وقد أقبل عليها عمدة الناحية يعلن أمر الطرد من أرضهم واستيلاء الفرنسيين عليها، لأنهم يفتقدون للأوراق التي تثبت ملكيتهم لها. ولايجدي مع أمر الطرد نفعا أن يذكر الأب أنه ولد علي هذه الأرض، كما ولد عليها أبوه وجده من قبله، وأن أولاده الثلاثة ولدوا عليها. ويضع التكثيف الرمزي لمشهد الافتتاح هذا الفيلم كله في قبضة هذا المشهد الافتتاحي المفتاحي معا. والذي يجعله لا مشهد النص الاستهلالي فحسب، وإنما منطلقه لكل ما سيدور في الفيلم بعد ذلك بسنوات طويلة. فشخصيات الفيلم الرئيسية هم هؤلاء الأطفال الثلاثة الذين طردوا من أرضهم صغارا عام 1925، ولكنهم يمتلكون ذاكرة تاريخية حادة تحيل هذا الحدث الافتتاحي المفتاحي إلي المحرك الأساسي لكل ما يدور وسيدور في حياتهم. وحتي يتم تجذير المشهد في الذاكرة التاريخية للأبناء والفيلم والمشاهدين معا، يضيف إليه الفيلم مصرع الأب الدامي أمام أصغر أبنائه برصاص المستعمر في المدينة «اسطيف» التي أخذ إليها أسرته بعد طرده. ويكشف قطع الفيلم علي المظاهرات المطالبة بالاستقلال والتي قوبلت بهذا العنف الدموي عن قدرة المخرج علي تجذير هذا العنف في وجدان الأبناء من خلال مايمكن تسميته بجماليات المجزرة التي تختلط فيها مشاهد الحركة بالمشاهد الصامتة، وجماليات الصورة الفيلمية بجماليات الوثيقة التاريخية. بعد تلك البداية المزدوجة يقدم الفيلم عملية تقطيع زمني بالغة الأهمية، فيما أدعوه بلغة الفيلم الثانية بعد تلك المشاهد الافتتاحية المؤطرة تاريخيا والأقرب إلي مشاهد الطبيعة الصامتة، وهي لغة القفزات الزمنية ولغة التجاور والجدل بين المتجاورات الذي يوظفه المخرج في القسم الأول بإيقاعه السريع، حيث ينتقل إلي احتفالات فرنسا عام 1945 بيوم تحريرها من المحتل النازي، ثم يقطع علي عنفها الوحشي في قمع المظاهرات الجزائرية، ثم ينتقل بنا إلي عنف آخر في حربها بالهند الصينية. وهي كلها تقطيعات علي خروجات مختلفة علي القانون. بعضها مقبول ويحتفي به وهو تكليل جهود المقاومة الفرنسية بالنجاح، والآخر غير مقبول ويقابل بعنف دموي علي الأرض أو من الجو، وهو المقاومة الفيتنامية التي كان يقودها هوشي منه، أو الانتفاضة الجزائرية المطالبة بنفس ما تحتفي فرنسا به. ومع هذا التقطيع في الزمن وفي المكان معا، لاينسي المخرج أن يكشف لنا عن تقطيع أوصال الأسرة الجزائرية التي يركز عليها الفيلم. حيث انتهي المطاف بالإبن الأكبر مسعود مجندا في الجيش الفرنسي يحارب الفيتناميين في الهند الصينية، بينما يقبع الإبن الأوسط عبدالقادر في سجون المحتل الفرنسي، ولم يبق للأسرة طليقا إلا الإبن الأصغر سعيد، الذي وجد أن عليه أن يكفل حياة أمه المتشبثة بأرضها تشبث الأم العربية بها. ثم يبدأ الفيلم بهذا الشتات الذي سنتابع أحداثه في الأسبوع القادم.