يومها بكي نصر حامد أبو زيد . كان قد أفاق لتوّه من الغيبوبة، حين سألته زوجته الدكتورة ابتهال يونس عن سبب البكاء أجاب: »دم الشهداء اللي تاجروا فيه«. كنت أسألها عن آخر حوار دار بينهما قبل رحيله في 5 (يوليو) الماضي. صمتت أستاذة الحضارة في كلية الآداب ب »جامعة القاهرة« قبل أن تضيف بمرارة: »تصوّر، بعضهم كتب أنّ نصر فقد عقله في آخر أيامه. كأنّ من يبكي حال البلد يُتَّهم بالجنون«. ابتهال يونس النصف الآخر للدكتور نصر، نصفه الأعذب وكاتمة أسراره. المرأة "الجدعة" حسب وصف الأصدقاء لها، عندما أصدرت المحكمة قرارها بالتفريق بين نصر وزوجته في التسعينيات، وقفت ابتهال يونس صامدة. وحين سألوها ماذا ستفعل لو دخلت عليها الشرطة لتنفيذ الحكم، أجابت: "طيب يوروني حينفذوا الحكم إزاي؟". أما نصر نفسه، فقال يومها: "سآخذ زوجتي في حضني. ما فيش حاجة تبعدني عنها". بعد رحيل صاحب "التفكير في زمن التكفير" تحدثت بعض الجرائد عن مؤامرة " لتصفيته جسديا". بعضهم نسب المؤامرة إلي المتطرّفين الذين وجدوا في بلد مثل أندونيسيا مكاناً مناسباً لتنفيذ المؤامرة، وآخرون نسبوها إلي استخبارات دول رأت في نصر عدواً وراحت تسعي إلي التخلّص منه منذ زمن طويل. بل إنّ الأمن تلقي طلبات للتحقيق في هذه الاتهامات من بعض أفراد أسرة أبو زيد. لكن، ماذا كان شعور ابتهال يونس وهي تسمع عن اتهامات مماثلة؟ تجيب بأنّ هذه الاتهامات لا تستحق عناء الردّ بسبب عدم صدقيّتها. ولكن ، ماذا عن الإهمال الطبي الذي حكي عنه بعضهم خلال علاج أبو زيد؟ تنفي بشدة هذا الأمر، مضيفةً: "بالعكس، المستشفي كان من أفضل المستشفيات في مصر، وكان نصر يعامل معاملة خاصة بسبب مكانته، ولأنّ له أصدقاء كثيرين أطباء أوصوا به". كان متوقعا أن يحضر نصر إلي مصر في إجازته تلك، لكن ظروف ارتباطه بتلاميذه في أندونسيا لبحث تأسيس معهد للدراسات القرآنية جعله يتجه إلي هناك، سافر أولا إلي بيروت حيث سجل لقاء تلفزيونيا مع قناة " الحرة" ثم إلي إيطاليا ألقي محاضرتين في أحد المؤتمرات، واتجه بعد ذلك إلي إندونسيا..من هناك أخبرها تلميذه الدكتور علي مبروك أن " نصر ملخبط شوية". في البداية كما تقول " تصورنا الأمر إرهاق سفر بسبب فروق التوقيت، ولكن بدأت تظهر بعض الظواهر الفيزيقية، اتصلت بالأطباء هنا، وخشينا أن يكون الأمر أعراض جلطة..فطلبت منهم أن يعود بصحبة علي مبروك علي أول طائرة ". عندما وصل إلي القاهرة أدخل المستشفي مباشرة،، لم يكن فاقدا للوعي، كانت المشكلة في فقده للتركيز أحيانا، وعدم إحساسه بالزمان والمكان، في المستشفي تم فحصه فحصا شاملا، وتم تشخيص المرض منذ البداية " فيروس" يصيب خلايا المخ، وهو معروف أصاب كثيرين من قبل" كما توضح. أسألها ألم تكن هناك إمكانية لنقله للعلاج في الخارج؟ تجيب:" منذ البداية اتصلت بأكبر أطباء في فرنسا وألمانيا وهولندا حيث يمتلك تأمينا صحيا، وقالوا إنه من الصعب نقله وهو فاقد الوعي لأن هناك خطرا علي حياته، كما أن العلاج الذي كان يحصل عليه جاء من فرنسا مباشرة ". بعد أسبوع من حصوله علي العلاج كانت حالته قد تحسنت. تقول:" حتي أننا كنا ندخل في مناقشات علمية أكاديمية" ..ولكن كان يغيب أحيانا عن الوعي للحظات فخشي عليه الأطباء أن يغيب وعيه أثناء تناوله الطعام فيحدث اختناق، فطلبوا أن يدخل إلي العناية المركزة من أجل تغذيته". ماذا حدث بعد ذلك؟ أسألها :" للأسف كان نصر يعاني من حساسية في الصدر منذ زمن طويل، كثرة الخراطيم التي علقت له أصابته بنوع من الالتهاب الرئوي هو الذي أدي إلي الوفاة". لكن هل كان يشعر بقرب رحيله؟ تجيب:" علي الإطلاق، نصر كان محبا للحياة جدا، عندما كنت أقلق عليه، كان يقول لي ما تخافيش سأعيش 80 عاما، خلي بالك انت من صحتك". وبالفعل، كان صاحب »نقد الخطاب الديني« يخطط لمشاريع عدة. تقول ابتهال: »كان يُعدّ لثلاثة مشاريع: ترجمة »الموسوعة القرآنية«، والمشروع الثاني هو إعادة تفسير القرآن وفقاً لترتيب النزول لا وفقاً لترتيب التلاوة، وكان ينوي التفرغ للمشروع. كان يعدّه مشروع عمره. من خلاله سيردّ علي الذين هاجموا القرآن من المستشرقين، ورأوا فيه تناقضاً«. وتتابع: »منذ ثلاث سنوات، رأي نصر أنّ القرآن ليس نصاً بل مجموعة خطابات. وكان يري أن هناك خطابات عدة داخله، خطاب للمؤمنين، وآخر للكفار، وثالث للنبي، ورابع لأهل للكتاب، وهكذا. كان يري أنّه إذا عددنا القرآن »خطاباً« موجّهاً إلي أناس مختلفين، فلن نجد تناقضاً كما يري بعضهم. أما مشروعه الثالث، فكان تأسيس »المعهد الدولي للدراسات القرآنية« علي الإنترنت. وقد سافر إلي إندونيسيا من أجله«. لكن هل صحيح أنه طلب ألّا يدفن في مصر لو مات خارجها؟ تجيب: " كان ذلك في بدايات الأزمة ، ولكن تراجع عن هذا الطلب ".تشرح :" عندما مات نزار قباني في لندن ورفض المركز الإسلامي إدخال نعشه للصلاة عليه، وبقي النعش علي الرصيف، غضب نصر بشدة. وطلب مني ألّا أدفنه في مصر لو مات خارجها. لكنّه غيّر رأيه بعد ذلك». متي حصلت المصالحة بينه وبين مصر؟ تجيب: " السنة الأولي من المنفي التي كانت صعبة. كان يقول دائماً: النهار لهولندا، ولكن مصر تزورني في الكوابيس ليلاً". لكنّه لم يغب عن مصر. كان صديقه الشاعر زين العابدين فؤاد يقول له: "أنت ساكن في هولندا، وعايش في مصر" كما أخذ " ميثاقا علي أصدقائه الذين يسافرون إلي كندا أو أمريكا بالتوقف ترانزيت في هولندا، ولم يكن بيتنا بعيدا عن المطار ، فكان يزوره دائما محمد أبو الغار، وزين العابدين فؤاد، شيرين أبو النجا .. تضيف:": "نصر باحث وإنسان ومواطن. المواطن لم يغب عن مصر مطلقاً. حتي في لحظات مرضه، كان يتحدث عن هموم الوطن". تتذكر: "تصوّر أن بعض الصحف كتبت أنّه فقد ذاكرته أثناء العلاج. وهذا ليس صحيحاً. كان الدكتور علي مبروك يقرأ بيتاً في قصيدة، ويكمل نصر بقية القصيدة. وعندما يغيب للحظات ثم يعود، كان يسألني ماذا جري، ويغضب من اضطهاد المرأة والأقباط في المجتمع». تضيف : " وهو في العناية المركزة سألني: هو انا عندي إيه؟ قلت فيروس؟ فصمت طويلا ..سألته لماذا لا تتحدث معي ..هو انت ليك حد تاني بتكلمه فرفع إصبعه مشيرا إلي السماء". منذ عشرين عاما التقت ابتهال ونصر للمرة الأولي، كانا زملاء الكلية نفسها ولكن في قسمين مختلفين، في مؤتمر " طه حسين" يومها القي بحثا آثار إعجاب الكثيرين، وكانت ابتهال منهم، وأردت الحصول علي نسخة من البحث، تحركت نحوه بتردد: " أقدم قدماً، وأؤخر الثانيةلأن بعض الباحثين مصابون بالغرور، منفوخون بلا سبب" كما تقول..ولكنها فؤجئت بشخص مختلف " إنسان متواضع دمث لطيف" بدأت بينهما صداقة تطورت حتي تم الزواج. أسالها: لماذا أصر علي أن تكون العصمة في يدك؟ تجيب:" نصر كان لديه احترام حقيقي للمرأة، وكان يؤمن بأن حق المرأة لا يقل عن حق الرجل في اتخاذ القرار، وقال وقتها " عندما تكون العصمة في يدك ستكونين حرة نفسك، لن يجبرك أحد علي أن تكوني معي بدون رغبتك، وهذا يعطيني الإحساس أنك فعلا تريدينني، وليس لأنك مش عارفة تخلصي مني". المفارقة أن رغبة التفريق بينهما جاءت من آخرين..وزادتهما تمسكا. أسألها إذا كان قد تأذّي من هجوم بعضهم عليه، واتهامه بالكفر؟ تجيب: «طبعاً، كان الهجوم عليه يجرحه، ولا سيما أنّه نطق بالشهادتين في أول محاضرة له في هولندا. لكن مع الوقت، صار يبتسم من الهجوم ، وقال لقد شرحت وجهة نظري 60 مرة، اللي عايز يصدق يصدق يصدق واللي مش عايز ما يصدقش". عندما ظهر أبوزيد في التلفزيون تغير الموقف تماما: " كثيرون ممن اتخذوا مواقف حادة ضده بدون قراءته اكتشفوا أنهم أمام باحث ، لم يجدوا شيطانا كما صور البعض لهم، وقد أثبتت الإحصائيات أن الناس تعاطفت مع قضيته بنسبة كبيرة بعد ظهوره في التلفزيون. وحتي آخر مرة عندما ظهر في قناة " الجزيرة مباشر" كان عدد المهاجمين أقل بكثير ممن دافعوا عنه". لكن ألم يؤثر المنفي، ودخوله في معارك دفاعاً عن الإسلام، علي مشروعه البحثي، وهو ما كان يسمّيه »ضغوط الخطاب النقيض«؟ تجيب: »إطلاقاً. كانت معركة نصر الأساسية ضد الجهل، سواء أكان ممن يهاجمون الإسلام أم مَن يدّعي أنّه يدافع عن الإسلام. نصر كان باحثاً من داخل الإسلام لا من خارجه. لكنه الإسلام المستنير«. ولكن ماذا عن المشروعات التي تفكر فيها لتخليد اسم نصر أبوزيد .. لا تريد الإفصاح عن التفاصيل، ولكنها تعكف الآن علي دراسة مجموعة أفكار دراسة مستفيضة من كافة الجوانب. قد يكون هناك تفكير في تأسيس مركز أبحاث يحمل اسم نصر، وجائزة باسمه أيضا .. أو منح دراسية في الخارج..كل الأفكار مطروحة من أجل أن يظل نصر مطروحا بقوة في الأوساط العلمية والأكاديمية" كما تقول. لكن، ماذا عن أعماله ومؤلفاته ومذكراته التي تركها؟ تجيب: «سننشر كل ما كتب، وما ترك من محاضرات، آخرها محاضرتان لم تنشرا من قبل. كما أنني سأجمع ما كتبه من مذكرات تحت عنوان »حياتي من القرية إلي المنفي" تبتسم ابتهال مع مسحة حزن خفيّة، حين نختم حديثنا بالسؤال عن الاختلافات بينهما. تقول: «لا شيء تقريباً، سوي أنني كنت أري أنّ لغته صعبة، لن يفهمها الجمهور العادي بسهولة. كنت أطلب أن يعيد كتابة مقالاته للتخفيف من طابعها الأكاديمي». تبتسم: «كان يقول دوماً إنّنا نعيش عصر الTake away. القارئ يريد الشيء الجاهز، لكن عليه أن يتعب نفسه قليلاً حتي يفهم ما أقصده». بعد فترة صمت، تضيف: "كان هو متفائلاً وأنا متشائمة. كان تفاؤله يغيظني. وأقول له إنّه رغم كل ما جري لك، ألا تزال متفائلاً؟ فيضحك ويقول: اليأس ترف لا أملكه". كان رهان أبو زيد علي المستقبل. لم يشعر لحظةً أنه يحارب طواحين الهواء، ولم يسقط في فخ «الضحية». في يوم العزاء، أصرّ شابان من إحدي الجامعات الإقليمية علي تعزية ابتهال وقالا لها: «نحن تلاميذ نصر. قرأنا كل أعماله وتتلمذنا علي أفكاره»، وهذا كل ما كان يطلبه نصر. هل كانت لديه رغبة في العودة نهائياً إلي مصر في العام الأخير؟ تجيب: كان قراره أن يعود لفترات طويلة، أي حوالي ثلاثة أشهر في العام، لكن ليس كإقامة نهائية، لأنّ السفر في أرجاء أوروبا، حيث كان يشارك في مؤتمرات كثيرة، بدا له أسهل بكثير انطلاقاً من هولندا«. تصمت قليلاً، وتعود إلي سؤالنا الأول. وسرعان ما تقول غاضبةً: »لو كانت هناك شبهة جنائيّة بنسبة واحد في المليون بوفاة نصر أبو زيد، هل تتصوّر أنني كنت سألتزم الصمت؟".