نعرض اليوم لما حكاه القرآن الكريم من حوار بين الله- سبحانه- ونوح- عليه السلام- ذلك أن هذا الحوار يتضمن كثيرا من التجليات السماوية، وكثيرا من المعاني الإنسانية، وبخاصة علاقة الأبوة بالبنوة. لقد توجه نوح إلي ربه شاكيا جحود قومه، ورفضهم الاستجابة لدعوته، فنزل عليه الوحي بأنه لن يؤمن من قومك إلا من سبق إيمانه، ومن ثم توجه نوح إلي الله داعيا: »رب لاتذر علي الأرض من الكافرين ديارا. إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولايلدوا إلا فاجرا كفارا« (نوح 62، 72)، وجاءت الاستجابة السماوية في قوله تعالي: »واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولاتخاطبني في الذين ظلموا انهم مغرقون. ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون « (هود 73،83)، وجاء الأمر الإلهي بكيفية إنقاذ المؤمنين: »حتي إذا جاء أمرنا وفار التنور (أي وجه الأرض) قلنا أحمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن معه إلا قليل« (هود 04). وعند الركوب كان ابن نوح من الكفار، ورفض ركوب السفينة مع المؤمنين، وهنا تحضر عاطفة الأبوة بكل عمقها الإنساني: »ونادي نوح ابنه وكان في معزل يابني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين. قال سآوي الي جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين« (هود 24، 34). إن هذه الدفقة التعبيرية المعجزة تصور حال نوح مع ابنه، وكيف كان يراقبه والماء يرتفع ويحول بينهما، وانتهي به الأمر إلي أن أصبح مع المغرقين، وهنا تتجلي الطبيعة البشرية عند نوح، إذ توجه إلي السماء- بصفته الأبوية- ملتمسا إنقاذ ابنه، علي الرغم مما سبق القول بأنه سيكون من المغرقين: »ونادي نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين. قال يانوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين. قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين« (هود 54-74). في الرد الإلهي تنبيه لنوح علي أن الوعد الإلهي بنجاة أهله لا ينطبق علي ابنه لكفره، وهذا الحوار القرآني يقدم لنا الطبيعة البشرية في قمة تجلياتها، وأنها لاتغيب عن الإنسان، ومن ثم كان توجه نوح لربه أن ينقذ ابنه، لكن الأمر الإلهي قد سبق باغراق كل الكافرين، لا فرق بينهم وبين ابن نوح.