أتاحت الظروف للمغرب، بحكم تاريخه العريق وموقعه الجغرافي المتميز، أن يكون سباقا إلي احتضان المظاهر الموسيقية الأكثر تنوعا واختلافا، ابتداء من إنشاد الطوائف الصوفية كعيساوة واحمادشة وكناوة التي كانت تنشط في المناسبات والأعياد الدينية..ومرورا بموسيقي "الخمسة والخمسين" التي كانت تستعمل في التشريفات السلطانية، وصولا إلي بداية نشوء الأجواق حديثة العهد، مثل الجوق الملكي الذي رأسه المصري مرسي بركات والتحق به بعض الملسوعين بفن الموسيقي من المغاربة الشباب..وجوق الموسيقي الأندلسية الغرناطية برعاية الرواد العظام أمثال البريهي والمطيري وامبيركووالوكيلي..، وجوق الملحون الذي لمع فيه منشدون كبار مثل محمد بنغانم ومحمد بنسعيد، وانتهاء بجوق الإذاعة المغربية مع مطلع الاستقلال الذي سيكون له الفضل في إطلاق شرارة الأغنية العصرية مع ملحنين كبار أمثال أحمد البيضاوي وعبد النبي الجراري وعبد القادر الراشدي ومحمد بنعبد السلام وعبد الرحيم السقاط وعبد السلام عامر..ومغنين لامعين من عيار عبد الهادي بلخياط وعبد الوهاب الدكالي ومحمد الحياني وإسماعيل أحمد..ومغنيات لامعات من قبيل بهيجة إدريس ونعيمة سميح وسميرة بنسعيد... كما كان للمغرب شأن كذلك في تدشين التعليم الموسيقي بفتح الحماية الفرنسية (1912-1956) لأول معهد هومعهد مولاي رشيد سنة 1927 والمعهد الوطني للموسيقي والرقص والمعهد الملكي.. ولذلك يُعترف لها بأنها قد جمعت معا مهام التكوين والبحث ومبادرا الإبداع والإنتاج والإشعاع.. وسوف يكون القصد من هذه الصفحات هوإلقاء نظرة اشتمالية علي أهم القطاعات الموسيقية التي شهدتها أرض المغرب ورعت أنشطتها بمزيد من الدينامية والانتظام، والتعريف الموجز بجملة من أعلامها في مجالات الموسيقي الأندلسية والملحون والغناء العصري والطرب الشعبي.. ذلك أن الغاية هنا ليست هي التعمق، ولكن الإحاطة الإجمالية التي تقتصر علي الإشارة وتستغني بها عن الاستعراض المفصل الذي ليس هذا مكانه. الموسيقي الأندلسية: ظلت الموسيقي الأندلسية، المسماة كذلك موسيقي الآلة، هي اللون الغنائي الرائج في المغرب منذ سقوط الأندلس وهجرة النخب الموريسكية نحوالحواضر المغربية واستقرارهم بمدن فاس وتطوان والرباط، كما ازدهر الطرب الغرناطي في شرق وشمال المغرب في ارتباط كذلك بحركة النزوح الأندلسية التي تزامنت مع انتعاش الحياة الفنية وارتقاء أسلوب العيش في اللباس والطعام والسكن والترفيه.. وعندما حل الاستعمار الفرنسي بالمغرب سنة 1912 وجد الأجواق الأندلسية التقليدية منتشرة في المدن العتيقة وخاصة في بلاطات القصور الملكية حيث كانت تحظي برعاية السلاطين المغاربة وتجد دعما متواصلا من كبراء الدولة وعلية القوم.. وقد بادر الفرنسيون، بواسطة خبرائهم في الميدان، إلي الشروع في تنظيم الحرف الموسيقية وسعوا إلي إنشاء معهد موسيقي لضمان استمرار وتطوير التقاليد الموسيقية الموروثة. فن الملحون: وهواللون الغنائي العريق الذي ازدهرت ممارسته في أوساط الحرفيين والصنّاع التقليديين لارتباطه بعوالمهم وانسجامه مع فطرتهم وبساطة تكوينهم الثقافي. ويقضي بالنظم والإنشاد علي إيقاع معلوم لا يوجد له نظير في موسيقي الآلة أوغيرها، وتدور موضوعاته حول أغراض مطروقة كالعشاقي (الغزل) أوالساقي (الخمريات) أوالخلوق (المولد النبوي)..وبعضها الآخر غير مألوف في الأدب الكلاسيكي مثل الجفريات (التنبؤ بالمستقبل) والحراز (دسائس الحب) والشافي (التهنئة بالشفاء).. ويقال بأن الموطن الأصلي لهذا الفن هومنطقة تافيلالت الصحراوية التي شهدت تألق رائده التهامي المدغري وراعيه السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن ولكنه انتقل منها إلي الحواضر المغربية الأخري مثل فاس ومراكش ومكناس وأسفي..التي تحقق له فيها باع طويل تأليفا وإنشادا وصيانة. وقد نالت كثير من مدن المغرب حظها من هذا الغناء وصار لها فيه أعلام ومشاهير نجد ذكرهم في الكتاب الموسوعي للعلامة محمد الفاسي المعنون "معلمة الملحون"، كما قامت أكاديمية المملكة المغربية بنشر مجلدات تضم أعمال العديد من شعراء الملحون هؤلاء. الغناء الشعبي: عاشت الطبقات الوسطي في المغرب علي إيقاع رباعات الشيخات من النساء التي دأبت علي إحياء المناسبات العائلية في المناطق الحضرية وخلال مواسم الأولياء وتجمعات القبائل في الأرياف..وقد حدث نتيجة الهجرة القروية إلي المدن من الضواحي والقبائل المتاخمة أن نشأت في الحواضر المغربية ساكنة نصف قروية/نصف حضرية، أي تعيش في المدن بعقلية ومزاج بدوي خاصة فيما يتصل بأساليب الترفيه وتمضية أوقات الفراغ..ومن هنا نشأ غناء يقف في منتصف المسافة بين الأهازيج البدوية وغناء أهل المدن، ويمزج بين الآلات التقليدية ذات الأصول الزراعية كالبندير والتعريجة والمقص والآلات العصرية كالعود والكمان والقانون، وهوما نصطلح اليوم علي تسميته بالغناء الشعبي الذي يتوجه إلي مستمعين ذوي أصول ريفية وإن كانوا تشبعوا بقيم المدينة وتمثلوا حضارتها. ويجمع هذا اللون الغنائي في سجلّه العيوط والبراويل والمنوعات قريبة الشبه بالطرب العصري حديث النشأة الغناء العصري: أما الغناء العصري فقد كان في حكم المنعدم في عموم المغرب لغياب مَن يقوم به من مغنين وعازفين، وكان يجب انتظار حلول الغرامفون وانتشار البث الإذاعي في الأوساط الحضرية ليفسحا السبيل أمام المغاربة لكي ينفتحوا علي الموسيقي العصرية، والشرقية تحديدا. فبعد أن ظل المغاربة يقتصرون خلال المناسبات علي سماع الغناء الشعبي وموسيقي الآلة وكلام الملحون وإنشاد الروايس..صار بوسعهم أن يشنفوا أسماعهم في الأعراس والمواسم والأعياد بما يتهيأ لهم من غناء مسجل علي أسطوانات أوصادر عن أمواج الراديو.. ويمكن القول بأن الموسيقي العصرية المغربية قد خرجت من معطفين اثنين: معطف الموسيقي المحلية التقليدية، ومعطف الموسيقي الشرقية الوافدة. وباجتماع هذين الرافدين، الأصيل والوافد، تحقق لموسيقانا أن تكتسب هويتها وترسخ خصوصيتها. ويجب أن نذكر بأن الذي ساعد أيضا علي هذه النقلة، من التقليد إلي التجديد، نزوح جماعة من العازفين المصريين والمغاربيين إلي بلادنا مثل مرسي بركات وسامي الشوا ممن قاموا بدورهم في تأهيل الشبيبة المغربية لتصير قادرة علي الإمساك بناصية الفن الموسيقي عزفا وغناء وإبداعا. وهذا ما يفسر أن الرعيل الأول من الموسيقيين المغاربة قد عاني من ثقل الطابع الشرقي كما حصل مع أحمد البيضاوي وعبد النبي الجراري..ولم يخففوا من هذا التأثير إلا في وقت لاحق مع محمد فويتح وعبد القادر الراشدي ومحمد بنعبد السلام وعبد الرحيم السقاط وغيرهم من الذين عرفوا كيف يعكسون في ألحانهم الروح المغربية الأصيلة مستلهمين التراث الموسيقي الشعبي بإيقاعاته وطبوعه وموازينه شديدة التنوع.. الخاتمة: لا أحد يجادل في أهمية الدور الذي نهض به النشاط الموسيقي والغنائي في المغرب الحديث. وقد تهيّأ لها ذلك بفضل ما توفرت عليه البلاد من بنيات ضرورية لقيام كل نهضة فنية مثل معاهد التعليم الموسيقي ومقر الإذاعة الوطنية التي كانت السبيل إلي تكريس الإشعاع الفني والتداول الجماهيري لكل ما يبدعه الفنانون في إطار أجواق رسمية أومجموعات حرة دأبت علي تنشيط الساحة الفنية. وقد أتاح كل ذلك استقطاب الأسماء والمواهب من جميع الآفاق واستضافة جميع أصحاب الإسهامات والمبادرات واحتضان تجاربهم ورعاية عطاءاتهم. وبذلك أمكن للمغرب أن يكون علي الدوام بؤرة ينعم فيها النغم والصوت المغربيان بكل إمكانات التألق وفرص الظهور. أهم المراجع: معلمة الملحون. الجزء الثاني. القسم الثاني: محمد الفاسي. منشورات أكاديمية المملكة المغربية. الرباط. أبوبكر بنور: ضروب الغناء وعمالقة الفن. مطبعة الأمنية.الرباط 2003 . حاتم أحمد الوكيلي: الموسيقي الأندلسية. منشورات رمسيس. سلسلة المعرفة للجميع. الرباط. 1999 . حسن بحراوي: فن العيطة بالمغرب. محاولة في التعريف. منشورات اتحاد كتاب المغرب 2002 .