عرفت جمال الغيطاني بقراءة قصصه ورواياته دون أن أراه، وحضرت انتخابات اتحاد الكتاب في مارس 1983، سيارة نقلتنا من الإسكندرية إلي شارع حسن صبري في الزمالك، لكنني لم أعد بالسيارة، بقيت في القاهرة أنا ومحمود قاسم. في الصباح ذهبنا إلي المجلس الأعلي للثقافة وحصلنا علي نسخ من روايتي " جبل ناعسة ". وكالعادة ذهبنا إلي دور الصحف نسلم نسخاً منها للصفحات الأدبية، وفي مبني جريدة الأخبار؛ قابلنا زميلنا السكندري محمود حنفي، قال: تعالوا نسلم علي جمال الغيطاني. فرحت كثيرا، فقد قرأت بعض أعماله، خاصة روايته "وقائع حارة الزعفراني" - وهي تدور في حي شعبي بالقاهرة، وأنا عاشق للأحياء الشعبية، كما أن هذه الرواية لها فضل عليّْ. فقد ظللت أفكر في كتابة رواية " الجهيني" لمدة طويلة جدا، وأخاف من البدء في كتابتها، وما إن فرغت من قراءة وقائع حارة الزعفراني، حتي بدأت في الكتابة، ولم أتوقف حتي انتهيت منها. دخلنا بهوا كبيرا مكتظا بالمكاتب، فاقترب محمود حنفي من مكتب شاغر، وقال آسفا: مش موجود. فعدنا ثانية إلي الطريق. اللقاء الثاني حدثني الصديق سمير عبد الفتاح عن جمال الغيطاني بإعجاب شديد، قال إنه " عامل " فهارس خاصة لكتاب ابن إياس " بدائع الزهور في وقائع الدهور" وإنه عاشق لهذا العالم التراثي الثمين، كنت أنا ورجب سعد السيد نشرف علي ندوة القصة بقصر ثقافة الحرية، فطلبنا من سمير عبد الفتاح مقابلة جمال الغيطاني واستضافته في ندوة بقصر ثقافة الحرية. وجاء جمال، رفض الإقامة علي حساب الثقافة، أقام كالعادة في فندق سويس كوتيش. ورفض أن يتقاضي مكافأة من القصر (هكذا كان جمال الغيطاني في كل مرة ) ذهبنا لنودعه حتي محطة السكة الحديد، وجلسنا معه في" قهوة تيسير " المواجهة لمبني المحطة. حدثته عن قصته العجيبة " هداية أهل الوري لبعض ما جري في المقشرة ". قصة مستوحاة من التراث وفيها موقف عبثي. فقال إن سعد الدين وهبة هو الذي حكي له قصتها، فقد كان ضابطا صغيرا في قسم العطارين بالإسكندرية، وأخذوا ثلاثمائة معتقل، سينقلونهم إلي معتقل في أبي قير. ووقف القطار الذي سيقلهم في محطة مصر، واختلط المطلوبون مع زوارهم، الكل يرتدي ملابس عادية، بعض المطلوبين يقف في عربة القطار، يتحدث مع مودعيه الذين يقفون علي أرض الرصيف، والبعض الآخر جالس علي المقاعد. فقال سعد الدين وهبة لرئيسه - الضابط الكبير - حانعرف المعتقلين بتوعنا إزاي؟! فقال الضابط الكبير ببساطة شديدة: إحنا مالنا، إحنا لينا تلتميت راجل وخلاص. وبالفعل احتجزوا الثلاثمائة رجل، ودفعوا الباقي إلي خارج القطار، ولم يهتموا بالصيحات والاعتراضات، التي تعلن بأنهم ليسوا من المعتقلين. هذه هي قصة جمال الغيطاني، والي البلاد قبض علي ثلاثمائة رجل، وسلمهم لمسئول سجن المقشرة، لكي يعرضهم عليه في الغد للتحقيق معهم، لكنهم هربوا، فأخذ مسئول السجن رجاله وذهب إلي السوق، واختطف ثلاثمائة رجل، وقدمهم إلي الوالي باعتبارهم المتهمين الذين قدمهم إليه بالأمس. اللقاء الثالث في جلستي مع جمال الغيطاني في " قهوة تيسير"، أخبرته بأن روايتي الجهيني فازت بالجائزة الأولي في الرواية بمسابقة نادي القصة بالقاهرة، فقال: روح لمدبولي وقوله عن فوزك في المسابقة، وقدم له الرواية، وسيطبعها لك. لكنني لم أفعل، ونشرت الرواية في سلسلة المواهب- التابعة لوزارة الثقافة، وأرسلت نسخة إليه بالبريد. فقرأها وأرسل لي رسالة علي عنوان بيتي: الأخ العزيز الفنان مصطفي نصر - تحية طيبة. اشكرك جدا علي الجهيني، فقد قرأتها باهتمام كبير واعتبرها من أهم الروايات التي صدرت خلال السنوات الماضية، أشعر أنك ستحقق خطوات مهمة للرواية العربية. لقد كتبت عن الجهيني وآمل أن تنشر خلال الأسبوع القادم في صفحة أخبار الكتب يوم الخميس. إنني أكتب إليك من الإسكندرية، إذا انني أقيم في فندق سويس كوتش بجليم لمدة أسبوع اعتبارا من الجمعة 10 نوفمبر وحتي 17 منه، فإذا وصل إليك خطابي هذا قبل الجمعة 17 نوفمبر آمل أن أراك، وسأكون سعيدا جدا بلقائك مساء أي يوم في حدود هذا التاريخ المخلص جمال الغيطاني. لكنه ذهب قبل وصول الخطاب إلي: لمحطة الرمل، وقابل ممدوح الرملي ( بائع الكتب هناك) فأخبره بأنه يريد مقابلتي وإنه يقيم في سويس كوتش، وجاءني الصديق أحمد فضل شبلول وأخبرني بذلك، فاتصلنا أنا وشبلول ومحمد عبد الله عيسي بالفندق، وحددنا موعدا معه في تريانون مساء السابعة. وجاء جمال الغيطاني، قال: إنه خرج في الصباح مع صديقه يوسف الشريف، ولسه راجعين دلوقتي، لكن عندما أخبروه في الفندق باتصالنا؛ جاء إلينا رغم تعبه الشديد. حدثني عن رواية الجهيني بطريقة، جعلتني أكاد أبكي من الفرحة والتأثر. وحكي لنا عن رحلته إلي فرنسا بعد ترجمة روايته " الزيني بركات ". لم أكن أعلم أن جمال الغيطاني صعيديا - وفوجئت به من مدينة جهينة التابعة لمحافظة سوهاج - وأنا أصولي تعود لمدينة " المراغة " القريبة جدا من جهينة - وظروفنا الاجتماعية متقاربة - فوالده جاء إلي القاهرة للبحث عن الرزق - وكذلك فعل أبي، جاء إلي الإسكندرية شابا للبحث عن الرزق. تولي فاروق حسني وزارة الثقافة في عام 1987 - وطلب مقابلة الأدباء - كان اللقاء في صحن هيئة الكتاب - تحدث الكثير عن مشكلة النشر - لكن جمال طلب الكلمة - واندهش لأنه لم يجد من يطالب الوزير بقرارات تساعد الكتاب في تطوير أدواتهم وكتاباتهم - كتخفيض سعر كتب التراث مثلا. هذا كان شاغل جمال الغيطاني دائما - قال لي أحلم بتطوير لغة الكتابة - كان دائم البحث عن طريقة للسرد خاصة بكتاب العربية مستمدة من التراث - غير الطريقة الغربية التي فرضناها علي أنفسنا ولم نغيرها. اللقاء الثالث في الإسماعيلية وضع طبيعي أن يجد كاتب في قامة جمال الغيطاني الكثير من المشاكل في مسيرته، والكثير من الأعداء يحاولون النيل منه. في هذه الفترة، تصاعد الهجوم عليه، خاصة من ناقد هاجمه بشكل مستفز. مما أثر في نفسيته. وعُقد مؤتمر أدباء الأقاليم في الإسماعيلية، وكان جمال من المكرمين في هذا المؤتمر، وطلب مني بالتليفون أن أسال محمد عبد لله عيسي - صديقي - عن أهم فندق هناك، وأخبرته بإنه "إميتاب". وجاء جمال هو وزوجته وابنه وابنته، وأقاموا في الفندق، ولم يبلغ أحدا سوانا بذلك، حتي العاملين معه في الجريدة؛ ظنوا أنه مقيم في بور سعيد. كان التكريم مهما بالنسبة إليه في هذه المرحلة. أدباء المؤتمر، وأدباء الإسماعيلية، يعبرون عن حبهم وإعجابهم بكتاباته، في وقت زادت فيه حدة الهجوم عليه لتفوقه ونجاحه. وقتها ذهبت أنا ومحمد عبد الله عيسي إلي فندق أميتاب، وانتقلنا به إلي متحف ديلسبس، شاهدنا السرير الذي كان ينام فيه، وباقي مستلزماته الشخصية. واتصل محمد عبد الله عيسي بالعلاقات العامة بهيئة قناة السويس التي يعمل بها، أخبرهم بأن معه جمال الغيطاني الكاتب الكبير وزوجته ماجدة الجندي الكاتبة بجريدة الأهرام، فأرسلوا إلينا مرشدة، ولنشا طاف بنا القناة. أخرج جمال الغيطاني نوتة صغيرة من سترته وكتب بضع كلمات، وقال لي: هذه النوتة لا تفارقني، أكتب فيها المعلومات التي تقابلني، ولا يستطيع أحد سواي أن يقرأ ما كُتب فيها. اشترت يومها ماجدة الجندي سمكا من مركب تمر في القناة، لتأخذه معها إلي القاهرة. ودعانا محمد عبد الله عيسي إلي الغداء في النادي الاجتماعي في الإسماعيلية، ثم انتقلنا إلي الفيللا التي يسكنها، سكن إداري تابع لقناة السويس، كانت مقرا لقائد قوات المراقبة الدولية. حديقة كبيرة جدا، قالت ماجدة الجندي وهي تتابع الحديقة باهتمام: حديقة بيتي التي أفخر بها، ما تجيش حاجة في هذه الحديقة الكبيرة. وقال الغيطاني لمحمد عبد الله عيسي: إنك تعودت علي السكن في الفيللات، ولن تستطيع العيش في شقة عادية بعد ذلك. وعندما تفقد الفيللا، قال جمال: إنه قصر وليس بفيللا. في كل مرة يدور الحوار بيننا عن الأدب والأدباء والكتب. فقد قرأتْ ماجدة الجندي روايتي الجهيني، وأرسلتها إلي الممثلة سعاد حسني، فقد قابلتها وأجرت حوارا معها. عدت إلي الإسكندرية مساء ذلك اليوم، وطوال وقت السفر، أفكر في هذا اللقاء. كيف ارتبطت هكذا بجمال الغيطاني وبأسرته. اللقاء الرابع في مدخل مبني جريدة الأخبار قابلته في مدخل مبني جريدة الأخبار- كان معي الصديق الناقد حسن عيد وكان جمال ينتظر الأتوبيس ليقله إلي حلوان - وقتها قال لي: ليتك تدرس الحي الشعبي الذي تكتب عنه، تبحث عن أصوله وجذوره. وكان الأستاذ فاروق خورشيد قد ربط بين روايتي الجهيني وألف ليلة وليلة، خاصة الجزء المصري منها - دفعني هذا إلي كتابة روايتي " ليالي غربال " كتبتها بطريقة ألف ليلة وليلة وقدمت التفاصيل الصغيرة في حي غربال - كما نصحني جمال الغيطاني، تكوين الحي ومن أين جاء سكانه - وأعمالهم، وأطعمتهم وكيف دخلت المياه والكهرباء لحواريها. وتطور سكانه بعد قيام ثورة يوليو 52 . موقف جمال الغيطاني من نشر بعض أعمالي انتهيت من كتابة روايتي الهماميل في عام 1986 - وكتبتها علي الآلة الكاتبة، وسلمت نسخة منها لجمال الغيطاني، فأعجب بها - وقدمها للمرحوم مصطفي نبيل - رئيس تحرير مجلة الهلال لينشرها في روايات الهلال. وقرأها المرحوم محمد روميش وكتب تقرير الصلاحية عنها (هكذا أخبرني - عند مقابلتي له في بغداد ) بقيت الرواية في مبني دار الهلال ولم يتحدد موعد نشرها - لكن في يناير 1988، حدث حادث مفاجئ غير الأوضاع كلها - فقد جاء إلي مصر الروائي الطاهر وطار ومعه رواية " عرس بغل " لتنشر ضمن روايات الهلال - فأخذه جمال الغيطاني وجلال السيد لمقابلة مصطفي نبيل - وقتها قال جلال السيد لجمال الغيطاني: عايز رواية أنشرها مسلسلة في الجمهورية - فتحمس جمال وقال: فيه رواية مناسبة اسمها الهماميل لمصطفي نصر ( ثم أكمل ) لسه حانبعتله في الإسكندرية؟!، ما هي موجودة هنا ( وأشار إلي محمود قاسم- مدير تحرير روايات الهلال - قائلا) هات الرواية يا محمود. وقام محمود لإحضارها، لكن مصطفي نبيل سار خلفه، وقال له: ما تجيبهاش، إحنا أولي بيها، انشرها الشهر الجاي. وأرسل لي محمود قاسم رسالة يخبرني فيها إن روايتي ستنشر في فبراير 1988 هذا جزء من كثير قدمه لي جمال الغيطاني - وأستطيع أن أقول إنه اختصر لي السكة، كان عوني في أي شدة لها صلة بالكتابة وغير الكتابة. حتي عرف الكثير مدي حبه واهتمامه بي.